الـ2026: عام ثالث على النزوح والتغريبة الشيعية

بعد تهجير سكان القرى الحدودية من أرضهم منذ 3 سنوات، لا يبدو الأفق واضحاً (علي علوش)
بعد تهجير سكان القرى الحدودية من أرضهم منذ 3 سنوات، لا يبدو الأفق واضحاً (علي علوش)


مع نهاية العام الحالي، يدخل سكان القرى الحدودية عامهم الثالث على التوالي وهم خارج بيوتهم وأرضهم، لا كنازحين فقط، بل كجماعة معلّقة في الفراغ. ثلاث سنوات من التشرّد، من العيش الموقّت الذي طال أكثر مما يجب، من الانتظار الذي تحوّل إلى نمط حياة. لا عودة إلى المنازل، ولا حتى إلى ركام المنازل. لا جدول زمنياً، ولا خطة واضحة، ولا أفق يُرى في نهاية الطريق.

ما قبل النكبة وما بعدها

قبل "النكبة"، وقبل انضمام الشيعة إلى لبنان الكبير، كان كثيرون منهم يشعرون وكأنهم غرباء عن هذا الكيان. لم تكن الدولة يومها إطاراً حاضناً، بل فكرة بعيدة عن الجنوب وأطرافه. وبعد النكبة، ومع الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الجنوب، بدأت حركة نزوح مختلفة: نزوح نحو المدن، وتحديداً نحو بيروت وضواحيها.

لم يكن هذا الانتقال خياراً حراً بالكامل، بل كان مساراً فرضته الجغرافيا والحرب والخوف. ومنذ ذلك الحين، عاش الشيعة دائماً على حافة القلق: قلق التهجير من الجنوب، وقلق التهجير من لبنان نفسه، بفعل سرديات متداولة، حتى وإن لم تكن واقعية بالكامل، لكنها كانت كافية لزرع الخوف.

كردّ فعل على هذا الخوف المزمن، تمسّك الشيعة بالتمركز في العاصمة وضواحيها. لم يكن الأمر مشروع هيمنة، بقدر ما كان محاولة حماية، حماية الوجود عبر القرب من مركز الدولة، من الاقتصاد، من القرار. ومع الوقت، تحوّل هذا التمركز إلى أكثرية سكانية في بيروت وضواحيها، ليس بدافع التوسّع، بل بدافع الشعور بأن التشتت خطر.

الحرب الأخيرة: عودة الخوف بأشكال أشدّ

بعد الحرب الأخيرة، عاد الخوف، لكن بنسخة أكثر حدّة. الكلام الإسرائيلي على منطقة عازلة، على تهجير، على عدم عودة السكان إلى القرى، وعلى غياب أي خطة واضحة لإعادة الإعمار، أعاد إيقاظ كل الهواجس القديمة. كأن الذاكرة الجماعية فُتحت دفعة واحدة.

زاد الأمر سوءاً الانقسام السياسي الداخلي، وسماع عبارات من نوع "لا تشبهوننا"، "لا نريدكم". في لحظات كهذه، لا يحتاج الخوف إلى كثير من الأدلة كي يكبر. يكفي الشعور بأنك غير مرغوب فيك، وأن وجودك قابل للنقاش.

ترافق ذلك مع نزعات كلامية أخطر، تتحدث عن تهجير الشيعة إلى العراق، وكأن وجودهم في لبنان تفصيل قابل للتبديل. هذه السرديات، حتى لو بقيت في إطار الكلام، كانت كافية لإيقاظ كل المخاوف الوجودية لدى الشيعة. ليس الخوف من خسارة بيت فقط، بل من خسارة البلد.

في هذه اللحظة، يشعر الشيعة بحالة ضعف. ليس ضعف القوة، بل ضعف الضمانات. ضعف الشعور بأن الدولة قادرة أو راغبة في حمايتهم كمواطنين متساوين.

العقل الجمعي: الحرب لا تقود إلى مكان

تغيّر شيء ما في العقل الجمعي. لم يعد الرهان على الحرب بوصفها طريقاً إلى أي نتيجة. بل على العكس، ترسّخ شعور بأن الحرب قد تعيد التهجير، وقد ترفع نسبته، وقد تجعل العودة أبعد.

من هنا، ظهر رهان مختلف: رهان على العودة إلى الدولة، إلى فكرة الدولة. رهان على إدخال الشيعة مجدداً في إطار الدولة، لا كجماعة ملحقة، بل كمواطنين كاملين. ويبرز في هذا السياق رهان أساسي على دور نبيه بري، باعتباره قادراً على إيجاد تسوية تُدخل الشيعة في الدولة، بما يحفظ وجودهم وحقوقهم، على قاعدة المساواة مع باقي المجموعات اللبنانية.

في المقابل، لا يزال المشروع الإسرائيلي مشروعاً توسعياً. وفكرة "السلام" الإسرائيلية، أو التحالف مع الأقليات، لا تسري على الشيعة. هم غير مقتنعين بهذه الصيغة، ولا يرون فيها ضمانة حقيقية. لذلك، يبدو السلام في الجنوب، ومع الجنوبيين، مستحيلاً في ظل التهجير المستمر والأزمة العميقة التي تعيشها الطائفة الشيعية. لا سلام مع اقتلاع الناس من أرضهم، ولا استقرار مع غياب الأمان الوجودي.

حتى الآن، وبعد تهجير من الأرض 3 سنوات، لا يبدو الأفق واضحاً، لا لناحية العودة، ولا لناحية الاستقرار، ولا لناحية بناء مشروع وطني كامل يحوي الشيعة ويضمن إعادتهم إلى مناطقهم وأراضيهم. الفراغ هو العنوان، والانتظار سياسة غير معلنة.

"تفككنا عندما خرجنا من الجنوب"

في القرى الجنوبية والضيَع تحديدًا، لم يكن السكن مجرّد جغرافيا، بل هو امتداد للعائلة نفسها. البيت الواحد كان يُبنى عموديًا كي يحتمل الجميع: طابق للأهل، طابق للعمّ، وطابق للأخ.

منذ ثلاث سنوات، بدأ هذا البناء يتفكّك، لا كحجر فحسب، بل كفكرة متوارثة عن تماسك العائلة. الحرب، والنزوح المتكرّر، دفعا العائلات إلى التبعثر. من كان يسكن فوق أهله بات في مدينة أخرى، أو دولة أخرى.

تقول أم حسن، وهي أمّ لخمسة أبناء نزحوا من مارون الراس: "بنيت طابقاً فوق آخر كي لا يبتعد الأبناء أو يتفرقوا. والآن بتُّ بلا بيت وبلا أبناء". وتتنهد قليلًا، ثم تضيف: "أصعب شيء في الأمر أن أحداً لم يترك بيته برغبته، بل فُرض علينا ترك بيوتنا، والتشرّد. كل واحد من أفراد العائلة بات بجانب عائلته في منطقة مختلفة عن الأخرى. كنا نلتقي طوال الوقت، والآن بالكاد نحظى بلقاء"، متمنية أن تعود إلى قريتها وتعود حياتها كما كانت.

نحو إعادة تكوين الهوية الوطنية

أمام هذا الواقع، لا خيار أمام الشيعة سوى إعادة تكوين هويتهم الوطنية بالانسجام مع الدولة، لا بالاغتراب عنها. دولة تكون إطاراً حامياً، لا مساحة شكّ. وفي المقابل، تقع مسؤولية كبيرة على الدولة نفسها، وعلى باقي المجموعات اللبنانية، من أجل احتضان الشيعة ودمجهم فعلياً في الدولة للحفاظ على لبنان الكبير، لا كحدود جغرافية فقط، بل كفكرة جامعة لا تقوم على الإقصاء ولا على الخوف.

تعليقات: