
لم تكن الحياة عاديّة عند غالبيّة أبناء القرى الحدوديّة والخلفيّة، وإنّما صعبة وشاقّة، طوال العامين السابقين، وبخاصّة من اختار الصمود في أرضه، على رغم الدمار الكبير والإعتداءات الاسرائيليّة المستمرّة في المنطقة ووقف إطلاق نار هشّ.
لكنّ الصورة هناك، لم تخلُ من بعض مظاهر الحياة، ومنها الأسواق الشعبيّة التي تنتشر في قرى حدوديّة عدّة، منها الخيام وبنت جبيل وميس الجبل وتبنين وشقرا والطيبة وغيرها كثير، وباتت تشهد حركة تجاريّة ولو خجولة في بعض الأحيان.
ويقصد أبناء القرى الأسواق الشعبيّة والمتنقّلة لشراء مختلف حاجيّاتهم من ملابس وأحذية وخضار وحشائش ومؤونة بلديّة مصنوعة محلّيًّا وأدوات تنظيف إلى غيرها من سلع غذائيّة واستهلاكيّة، بعدما تضرّرت الأسواق التقليديّة في عديد من قرى وبلدات جنوبيّة.
سوق الخميس من جيل لجيل
في الخيام، يُطلق أبناء البلدة على سوقهم الأسبوعيّة اسم “سوق الخميس” نسبة إلى اليوم الذي يجتمع فيه التجّار القادمون من مختلف المناطق لعرض أنواع مختلفة من السلع وبيعها، ويهرع إليها الناس لشراء حاجياتهم.
“أمّ أحمد” سيدة ستّينيّة واحدة من هؤلاء، تقصد السوق للتبضّع مذ كانت طفلة، أيّ منذ سبعينيّات القرن الماضي، تقول لـ”مناطق نت”: “هذه السوق محفورة في ذاكرتي منذ الصغر. آنذاك كانت تتمركز قرب مدرستي، كان والدي وفي كلّ يوم خميس يصطحبنا معه للتسوّق، في وقت الفرصة، فنشتري كلّ ما نريد”.
وكذلك فعلت هي مع أطفالها، كرّست هذا الأمر في إجازاتهم المدرسيّة. “لطالما شكّلت السوق فسحة فرح لأطفالي، اعتادوا التنّقل بين باعة المثلّجات والعصائر والسكاكر والألعاب وأدوات الزينة للفتيات” تُعلق أم أحمد، وتتابع: “أذكر تمامًا أنّ السوق كانت مقسومة إلى ساحتين، الفوقا وفيها الخضار والفاكهة، والتحتا وفيها مختلف السلع الأخرى”.
في حديثنا معها، تُخبرنا أكثر عن سوق الخيام، تستعيد ذكرياتها معها وتسرد كيف تبدّل المشهد هناك، إذ إنّ الأحوال ما بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، ليست كما قبلها. تقول: “كانت تمتلىء بالبسطات والبضاعة المختلفة، أمّا اليوم، نفتقد إلى كثير من السلع؛ لم تعد توفّر لنا كلّ ما نحتاجه، وهي حاجيّات أساسيّة في أحيان كثيرة” وتردف “لكن حمدًا لله أنّ التجّار ما زالوا يقصدوننا ولو بما توافر! إذ نعيش ظروفًا غير طبيعيّة واستثنائيّة للغاية”.
تُعدّد أمّ أحمد السلع التي كانت تشتريها، وهي: البياضات المنزليّة والملابس والأدوات المنزليّة التي كانت تتوافر بأسعار مخفوضة مقارنة بتلك المعروضة في المحال التجاريّة والأسواق التقليديّة، وتتابع: “يأتي تجّار البسطات من مناطق مختلفة وقاصية؛ من مسيحيّين ودروز ومسلمين، أمّا اليوم فبعضهم خسر مصدر رزقه وبعضهم الآخر لا يزال نازحًا في مكان بعيد”.
نقطة اتّصال وتلاقٍ
نقطة أخرى وربّما تكون أكثر أهمّيّة من تأمين السلع الاستهلاكيّة نفسها، تتطرّق إليها السيّدة أمّ أحمد، عن السوق بمعناها المعنويّ، فعلى مرّ العقود السابقة، شكّل هذا المكان “مركز تجمّع لمختلف أبناء البلدة، حيث يلتقي الأحباب والأقارب” وعلى رغم أنّ السوق فقدت جزءًا كبيرًا من متاجرها وبسطاتها إلّا أنّها لا تزال نقطة تلاقٍ لجميع أبناء الخيام الصامدين هناك.
ولطالما كانت سوق الخيام، مقصدًا لأبناء القرى المجاورة، من كفركلا وحتّى ميس الجبل (في قضاء مرجعيون)، حيث يتوافر كلّ ما يبحث عنه الناس. لكنّ هذه القرى دمر العدوان الإسرائيلي عليها وعلى مدى أكثر من سنتين أجزاء كبيرة منها ولا تزال غالبيّة أبنائها تعيش تجربة النزوح.
فعل تحدٍّ وصمود
يتحدّى الأهالي من خلال ريادة سوق الخميس وبمظاهر حياتيّة أخرى، المسيّرات الإسرائيليّة والوضع الأمنيّ المتزعزع، وهي بدورها توفر للأهالي فسحة التلاقي هذه وتأمين حاجيّاتهم بأسعار مقبولة في ظلّ ظروف اقتصاديّة صعبة راهنًا.
على رغم أنّ السوق فقدت جزءًا كبيرًا من متاجرها وبسطاتها إلّا أنّها لا تزال نقطة تلاقٍ لجميع أبناء الخيام الصامدين هناك
تقول أمّ أحمد “أشتري غالبيّة احتياجاتي من السوق وفي حال عدم توافر بعض السلع، نضطرّ للخروج إلى أماكن أبعد من البلدة، وهذا الأمر محفوف بالمخاطر، لأنّ طرقاتنا غير آمنة؛ والمسيّرات ترافقنا باستمرار” وتضيف عن شراء حاجيّات العيد “لدينا شهداء ما زلنا نواظب على زيارة قبورهم ونفتقد للأهل والأصدقاء والجيران، في الحارة التي أسكن فيها أصابتها إسرائيل بـ21 غارة غيّرت ملامحها، والناس لا تزال نازحة” وتختم: “نشتاق إلى أن تعود الخيام إلى سابق عهدها، الدينمو والمحرّك الاقتصاديّين في المنطقة هنا”.
“أكثر من ممتاز”
وفي السياق نفسه يُخبرنا رئيس بلديّة الخيام عبّاس السيّد علي، عن عمر السوق المديد، والذي يعود إلى عشرات السنين، ويقول: “عادت السوق بعد توقّف قسريّ في أثناء الحرب الأخيرة على لبنان” ويضيف لـ “مناطق نت”: “يمكن القول إنّ إقبال التجّار عليه، أكثر من ممتاز. تتراوح أعدادهم بين 70 و75 تاجرًا، نصفهم تقريبًا من أبناء الخيام والنصف الآخر من خارجها”.
وعن حركة الزبائن والبيع والشراء يقول: “تُعدّ الحركة مقبولة في ظلّ ظروف راهنة تعيشها الناس، حتّى إنّ الزبائن يأتون إلى السوق من سكّان الخيام ومن قرى مجاورة أيضًا”. ويختم: “لطالما اعتدنا على مثل هذه الأسواق في البلدات الجنوبيّة الحدوديّة الكبرى، وعلى سبيل المثال سوق الأربعاء في الطيبة (مرجعيون) وسوق الخميس في بنت جبيل وغيرها كثير من الأسواق”.
التجّار وسط حركة خجولة
تقول السيدة “زهرة” وهي صاحبة بسطة ملابس في سوق الخيام: “أقصد السوق منذ إعادة افتتاحها في أواخر أب (أغسطس) الماضي، فأبيع الملابس النسائيّة” وتضيف لـ “مناطق نت”: “الحركة التجاريّة في السوق لا تزال على حالها، لم تتبدّل قبيل الأعياد”. وتلفت إلى أنّ هذه الحركة تتأثّر بشكل مباشر في الوضع المادّيّ للأفراد وبالوضع الأمنيّ في المنطقة هناك.
زهرة كانت تملك متجرًا مخصّصًا لبيع الملابس، لكنّ إسرائيل دمّرته بالكامل خلال الحرب: “عملت في هذه المهنة أكثر من 15 سنة. الآن بدأت مرّة أخرى ومن الصفر، لتأمين حاجيّات الزبائن بسلع تناسب ميزانيّاتهم والحصول على مدخول ولو كان الربح قليلًا، كذلك أوفّر خدمة توصيل الملابس إلى منازل السكّان هنا”.
في شقرا (بنت جبيل) لا زال التجار يقصدون البلدة في كلّ يوم إثنين، يحملون معهم أنواع السلع المختلفة، على رغم انخفاض أعدادهم مقارنة بما كان قبل الحرب
يشير معظم التجّار ممّن تحدّثنا إليهم في هذه الأسواق إلى أنّ الحركة التجاريّة ليست على مستوى الأمنيات، ولكنّها متوقّعة ومقبولة في ظلّ كلّ ما يعيشه الناس. يقول أبو علي، وهو أحد تجّار الملابس الرجاليّة الذين يتنقّلون بين الأسواق الشعبيّة إنّ “حركة البيع منخفضة مقارنة بالفترة نفسها من الأعوام السابقة” ويضيف لـ “مناطق نت”: “لكنّنا ما زلنا نسعى إلى مصدر رزقنا، نمتهن بيع الملابس منذ نحو عقدين ونؤمّن حاجيّات بعض السكّان، بأسعار زخفوضة تناسب الجميع”.
ويتدبّر الناس أمورهم الأساسيّة بما هو موجود ومتوافر في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة راهنًا خصوصًا في القرى الحدوديّة والخلفيّة، حيث خسر أكثر الناس مصدر رزقهم وحتّى منازلهم، وبحسب أرقام مجلس الجنوب يقيم راهنًا حوالي سبعة آلاف عائلة أو أكثر بقليل في القرى الحدوديّة والخلفيّة وتبلغ نحو 40 قرية وبلدة.
سوق الإثنين شقرا كمتنفس
في شقرا (بنت جبيل) لا زال التجار يقصدون البلدة في كلّ يوم إثنين، يحملون معهم أنواع السلع المختلفة، على رغم انخفاض أعدادهم مقارنة بما كان قبل الحرب الإسرائيليّة على لبنان، تقول مروى زريق إنّها تزور السوق “مثل غالبيّة سكّان البلدة لشراء الخضار والملابس والمكسّرات والأحذية” فهي أمّ لطفلين، وتحتاج أحيانًا كثيرة لشراء حاجيّات متنوّعة لهم، وبأسعار متدنّية.
وتُعد هذه السوق من الأسواق القديمة في المنطقة، تقع على مقربة من بركة البلدة، ويرتادها الناس من البلدات المجاورة، مثل: حولا وبرعشيت وميس الجبل ويقصدها التجّار من مناطق قريبة أو بعيدة لا سيّما حاصبيا، لكن الإقبال بات خجولًا على مستوى التجّار والزبائن، في ظلّ الوضع الأمنيّ الراهن، على حدّ تعبير زريق. ويؤكد الأهالي هناك أنّ هذه السوق ازدهرت في العقدين الأخيرين، لكنّها عادت وانتكست قليلًا خلال فترة كورونا والأزمة الاقتصاديّة وأخيرًا الحرب الإسرائيليّة. وبحسب زريق “تُقدر مساحة السوق بـ 300 متر، تمتدّ على طول الشارع الرئيس في حيّ السوق”.
سوق الجمعة
في ساحة البلدة القديمة في تبنين (بنت جبيل)، بالقرب من السرايا الحكوميّة وجامع البلدة القديم، تقع السوق الشعبيّة أو ما تُعرف بسوق الجمعة، وغالبًا ما يقصدها عدد كبير من تجّار الأسواق الأخرى، إذ يتنقّلون بين القرى، ومن سوق إلى آخرى. تقصد ابنة البلدة مي فوّاز، السوق التي ترتبط بذاكرتها في سنوات الطفولة، تقول لـ “مناطق نت”: “أقصدها حاليًّا عند الحاجة” على عكس ما يفعله والدها، فهو يتردّد أسبوعيًّا إلى السوق: “يأخذ أحفاده معه، كلّما سمحت له الظروف، بحسب إجازاتهم المدرسيّة، وفي معظم أيّام الجمعة من كلّ صيف”.
يشتري والد فوّاز، حاجياته من السوق، ويقصدها خصوصًا للتبضّع من الخضار الطازجة، وهي سوق قديمة، يقول المؤرخون إنه يعود إلى العام 1892، وكانن تُقام كلّ نهار ثلاثاء من كلّ أسبوع، ليصبح يوم الجمعة منذ العام 1946، وفق المعلومات التي توثّقها بلديّة تبنين في كتيّبات عن البلدة.
وهكذا تمتدّ هذه الأسواق الثابتة منها والمتنقّلة، من القرى الحدوديّة وصولًا إلى صور مرورًا بحاريص وقانا وغيرها كثير من القرى والبلدات.
سوق المدينة العتيق (صور)
وعلى بعد مسافة قصيرة، تتربّع السوق القديمة في صور على عرش الأسواق، هي مقصد الناس من مختلف مناطق لبنان، وعلى رغم ذلك فإنّ “التسوّق هذا العام ليس على قدر الحدثين، الميلاد ورأس السنة”، وفق ما أكّده عضو جمعيّة تجّار صور غزوان حلواني لـ “مناطق نت”.
ويضيف: “لطالما كنّا متفائلين، ولكن، أحيانًا كثيرة، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ إنّ الناس في حال قلق مستمرّة، والناس تتسّوق ما هو ضروريّ فقط ليس أكثر”.
إلّا أنّ المدينة بخصوصيّتها التي اعتاد الناس عليها، وتحديدًا عند السوق القديمة، ازدانت بزينة الميلاد ورأس السنة، يقول حلواني: “القرية الميلاديّة منحت المدينة رونقًا خاصًّا، وهي نتاج تعاون بين بلديّة صور وبعض جمعيّات المجتمع المدنيّ وتمتدّ من ساحة “القَسَم” في صور مرورًا بميناء الصيّادين، وصولًا إلى السرايا الحكوميّة، ما خلق جوًّا عامًّا من الفرح لدى الناس المتعطّشة لمثل هذه المساحات والتي تشكّل متنفّسًا لها ولأطفالها وأحبابها”.
ويختم: “الحركة الاقتصاديّة ليست على الشكل المطلوب ولا تشبه الفترات عينها في السنوات السابقة. لكنّنا نأمل في أن يحمل لنا الغد ولكلّ الناس ما هو أفضل بكثير”.

سوق الخميس في بلدة الخيام الحدودية

سوق الجمعة في بلدة تبنين
الخيام | khiyam.com
تعليقات: