مي عبدالله: العالم يتشكّل بمنطق القوة لا القانون.. غرينلاند نموذجاً


ليست غرينلاند جزيرةً بعيدة؛ إنها اليوم نقطة ارتكاز جديدة في السياسة العالمية: مساحة هائلة في قلب القطب الشمالي، يلتقي عندها الأمن بالتكنولوجيا، والموارد بالممرات البحرية، وتتصادم فوقها إرادات القوى الكبرى. غرينلاند إقليم يتمتّع بحكم ذاتي ضمن مملكة الدنمارك، لكن شؤون الدفاع والسياسة الخارجية والالتزامات الدولية الكبرى تظل في الإطار السيادي العام للدولة الدنماركية. ويكفي الرجوع إلى قانون الحكم الذاتي لعام 2009 لفهم هذه المعادلة: صلاحيات محلية واسعة، مع حساسية واضحة حين تتصل المسألة بالأمن والدفاع والاتفاقات الدولية.

هذه الحقيقة وحدها تجعل ما يجري اليوم أكثر من نزاع دبلوماسي: لأن جزيرةً كهذه، حتى وهي تحت سيادة دولة صغيرة نسبيًا، تقع فعليًا على أحد أهم مفاتيح التفوّق الجيوسياسي في القرن الحالي.

أطماع أميركا ليست جديدة… بل قديمة بملابس جديدة

من يظن أن اهتمام واشنطن بغرينلاند وُلد مع دونالد ترامب يقرأ المشهد من منتصفه. فالولايات المتحدة رسّخت حضورًا عسكريًا في غرينلاند منذ الحرب العالمية الثانية، ثم جاء ما بعد الحرب ليحوّل الجزيرة إلى عقدة في هندسة الردع الأميركية. تاريخيًا، يُشار الى "محاولة الشراء" الأميركية في العام 1946 كإشارة مبكرة إلى أن الجزيرة كانت تُرى في واشنطن كقيمة استراتيجية صافية، لا كقطعة جغرافيا هامشية. Wikipédia+1

لاحقًا تكرّس الوجود العسكري الأميركي عبر ترتيبات ما بعد الحرب، وصولًا إلى القاعدة المعروفة تاريخيًا باسم "ثول" (Thule)، التي تحولت في العصر الجديد إلى قاعدة فضائية ضمن بنية الردع والإنذار المبكر الأميركية. أعيد تسميتها رسميًا إلى "Pituffik Space Base" عام 2023 ولم يكن ذلك تفصيلًا لغويًا؛ إنها علامة على انتقال القطب من هامش الدفاع إلى قلبه، ومن زمن الرادارات إلى زمن الفضاء. Force Spatiale+1

لماذا عاد ملف غرينلاند بهذه السخونة الآن؟

ذاب الجليد، فظهرت الثروات وبدأ الصراع. وما كان مستورًا تحت الجليد صار قابلًا للحساب السياسي والاقتصادي. ذوبان الجليد ليس قضية بيئية فقط؛ إنه يفتح شهية العالم على ممرات بحرية أقصر، ويعيد ترتيب خرائط الشحن بين أوروبا وشرق آسيا، ويمنح "القطب" وظيفة تجارية إضافة إلى وظيفته العسكرية. بعض الدراسات الحديثة تشير إلى إمكان تقليص المسافات/الأزمنة بشكل كبير عبر "الممر البحري القطبي" بين أوروبا وشمال شرق آسيا، في حال تزايُد قابلية الملاحة. Nature+1

لكن الأهم أن ما يظهر مع تراجع الجليد ليس طريقًا فقط، بل مواد خام تُعَدّ عصباً للصناعات المتقدمة: المعادن الحرجة وعلى رأسها عناصر الأرض النادرة، التي تدخل في تصنيع المغناطيسات الدائمة (الأساسية للمحرّكات المتقدمة)، وفي تقنيات الاتصالات والطاقة والرقائق، وفي منظومات تسليح حساسة. تقارير دولية تتحدث عن نمو الطلب على هذه المعادن مع توسّع تطبيقات الطاقة والتكنولوجيا. IEA+1

وهنا نصل إلى بيت القصيد: الصراع الحقيقي تحت عنوان غرينلاند هو صراع أميركي–صيني. الصين لا تملك الحصة الأكبر من الاستخراج فحسب، بل تمتلك – وهذا أخطربالنسبة للولايات المتحدة – مركز الثقل في التكرير/المعالجة وسلاسل القيمة، أي حيث تتحول المعادن إلى قدرة صناعية فعلية. وكالة أسوشييتد برس تحدثت بوضوح عن هيمنة الصين على جانب كبير من المعادن النادرة المُكرَّرة عالميًا، وعن لجوء بكين إلى تنظيم القطاع وفرض قيود وتراخيص تصدير مشددة. AP News+1

بمعنى آخر: من يملك "التكرير" يملك النفوذ، لأن التكنولوجيا لا تقوم على وجود المعدن في باطن الأرض فقط، بل على تحويله إلى مادة قابلة للدخول في السلاح والرقاقة والمحرّك والذكاء الاصطناعي.

ترامب يعيد طرح الفكرة… لكن بلهجة “النفوذ” لا بلغة الاحتلال

في هذا السياق تعود "الذهنية الترامبية" لتلبس الملف ثوبًا أكثر صراحة. في 2019 ظهر الكلام عن شراء غرينلاند. أما اليوم، فالقضية لم تعد مجرد "فكرة"؛ بل تحولت إلى مسعى سياسي يتخذ شكل إجراءات ورموز. أحدثْ التطورات أن ترامب عيّن مبعوثًا خاصًا لغرينلاند (في ديسمبر/كانون الأول 2025)، وأثار ذلك غضبًا رسميًا في الدنمارك وغرينلاند، لأن التعيين فُهم كخطوة تمهيدية لتحويل الجزيرة إلى منطقة نفوذ أميركي أو إلى “ارتباط سياسي–أمني” بواشنطن. Le Monde.fr+2Le Wall Street Journal+2

لماذا يريد ترامب هذا النفوذ؟ لأن الجزيرة تمنح واشنطن، عمليًا، ثلاثة مكاسب كبرى في آن واحد:

1. مكسب استراتيجي قطبي يضغط على روسيا من الشمال ويُحكِم المراقبة على طرق التحرك في القطب.

2. مكسب صناعي–تكنولوجي عبر تحصين سلاسل توريد المعادن الحرجة وتخفيف الاعتماد على الصين.

3. مكسب عسكري–فضائي لأن قواعد القطب ليست مجرد مدرجات طيران؛ إنها عيون إنذار مبكر ومنصات فضائية ضمن معادلة الردع الأميركية. Force Spatiale+1

والمهم هنا أن ترامب لا يحتاج إلى سيناريو احتلال لكي يحقق الغاية؛ يكفيه توسيع النفوذ عبر الاقتصاد والأمن والدبلوماسية القسرية، ثم فتح الباب أمام خيارات سياسية داخلية في الجزيرة نفسها تحت عنوان تقرير المصير.

للدنمارك حقٌ قانوني… لكن هل يكفي في عالم القوة؟

قانونيًا، سيادة الدنمارك ثابتة، ورفض البيع أو الضم حق رسمي واضح. لكن السؤال الذي يريد هذا المقال أن يدفع القارئ إليه هو: هل يكفي الحق القانوني وحده في عصر تُدار فيه الملفات بمنطق القوة؟

الدنمارك دولة أوروبية صغيرة، وتعتمد في أمنها على منظومة الناتو التي تقودها الولايات المتحدة. حتى لو اصطفّ الأوروبيون خطابيًا خلف كوبنهاغن، فإن هشاشة التضامن تظهر عادة عند أول اختبار مصالح كبرى، أو عند تهديدات اقتصادية. وحين يصبح الاقتصاد جزءًا من الضغط السياسي، تصبح دولة صغيرة قابلة للاستنزاف: عبر رسائل استثمار، أو تلميحات عقوبات، أو خلق أزمة دبلوماسية متدرجة. التطورات الأخيرة تعكس حجم التوتر: ردّ دنماركي وغرينلاندي حاد، واستدعاءات دبلوماسية، ومحاولة أوروبية لإظهار دعم سياسي، مقابل إصرار أميركي يلبس عباءة “الأمن القومي”. Le Monde.fr+2Le Wall Street Journal+2

والأخطر أن نقطة الضعف لا تأتي من الخارج فقط، بل من الداخل أيضًا: فغرينلاند تمتلك تيارًا سياسيًا واجتماعيًا يتطلع إلى الاستقلال مستقبلًا. هنا يمكن للسياسة الترامبية أن تلعب على وتر "تقرير المصير" ليس بوصفه حقًا أخلاقيًا، بل كأداة لإعادة التموضع: دعمٌ اقتصادي مشروط، شراكات أمنية أوسع، ثم تحويل الخيارات الداخلية إلى سُلّم نفوذ. وفي هذه الحالة، يصبح القانون – مرة أخرى – نصًا جميلًا، بينما الواقع يتحرك بمنطق آخر.

من القطب إلى المشرق: المنطق واحد… والخرائط تتبدّل

إن سلوك ترامب في الشمال الأطلسي ليس بعيدًا عن سلوكه في المشرق العربي؛ فقط الأدوات تتغيّر. في الشرق الأوسط رأينا طويلاً كيف تتراجع قوة القانون أمام منطق القوة، وكيف يصبح “الالتزام الدولي” لغة تُستخدم انتقائيًا بحسب ميزان المصالح. وفي الشمال الأطلسي، تتكرّر الفكرة نفسها على مسرح مختلف: من لا يملك أدوات حماية سيادته يُدفع إلى التكيّف مع مصلحة الأقوى.

ومن هنا يمكن أن نستنتج أن العالم لا ينتقل من الشرق الأوسط إلى القطب بمعنى أنه يترك الأول؛ بل يعيد توزيع ساحات الصراع بحسب مفاتيح التفوق الجديدة: المعادن، والفضاء، والممرات البحرية، والذكاء الاصطناعي. إذا كان الشرق الأوسط لعقود ساحة طاقة وممرات ونفوذ، فإن القطب الشمالي يصبح تدريجيًا ساحة التكنولوجيا والموارد الحرجة والردع الفضائي. IEA+2Nature+2

هذا المقال لا يهدف إلى “تبجيل” الدنمارك ولا إلى “شيطنة” أميركا؛ بل إلى وضع القارئ أمام حقيقة صعبة: في عالم تُعاد صياغته بمنطق القوة، تصبح السيادة مفهومًا يحتاج إلى سند مادي، لا إلى نص قانوني فقط. وغرينلاند ليست إلا المثال الأوضح الآن: جزيرةٌ تُشبه بوابة، من يعبرها يضع يده على مفاتيح التفوق في القرن الحادي والعشرين… ومن يقف أمامها بلا عناصر قوة تحمي سيادته، سيجد نفسه مضطرًا إلى المساومة على ما كان يظنه غير قابل للمساومة.

_
_____________

المراجع والمصادر (كما وُثِّقت داخل المقال)

1. Act on Greenland Self-Government (2009) – النص القانوني للحكم الذاتي. English STM+1

2. Financial Times – تصريح ترامب وتجديده السعي لامتلاك/اكتساب غرينلاند وتفاصيل المبعوث الخاص وسياق الأمن القومي (23 ديسمبر 2025). Financial Times

3. Le Monde – تعيين مبعوث خاص لغرينلاند وردود الدنمارك وغرينلاند (23 ديسمبر 2025). Le Monde.fr

4. The Wall Street Journal – تفاصيل رد الفعل الدنماركي والأوروبي وسياق التحرك الأميركي (23 ديسمبر 2025). Le Wall Street Journal

5. U.S. Space Force (official) – تغيير اسم Thule Air Base إلى Pituffik Space Base (6 أبريل 2023). Force Spatiale

6. Air Force Times – توضيح وظيفة القاعدة كمنظومة إنذار صاروخي وإطار التسمية الجديدة (10 أبريل 2023). Air Force Times

7. International Energy Agency (IEA) – نمو الطلب على المعادن الحرجة ودلالاته (Global Critical Minerals Outlook 2025). IEA+1

8. Nature Communications (2025) – أثر “الممر البحري القطبي” في تقليص المسافات/الأزمنة بين أوروبا وشمال شرق آسيا. Nature

9. Associated Press – لوائح الصين الجديدة للمعادن النادرة وهيمنتها على المُعالَج/المُكرّر عالميًا (2025). AP News

10. Reuters – الصين تمنح تراخيص تصدير جديدة/مبسطة في سياق حساسية سلاسل توريد المعادن النادرة (18 ديسمبر 2025). Reuters

11. Arctic Portal – الإطار العام للممرات القطبية (Northwest Passage) وتقليص المسافات بين شرق آسيا وأوروبا. Arctic Portal

#غرينلاند

#القطب_الشمالي

#الشمال_الأطلسي

#الجغرافيا_السياسية

#الصراع_الدولي

تعليقات: