
في السنوات الأخيرة تصاعد خطاب التخوين في الحياة العامة اللبنانية حتى بات جزءًا من اللغة اليومية. يُستخدم هذا الخطاب لتوصيف كل اعتراض أو اختلاف سياسي على أنه انحياز إلى العدو، ولإدراج فئات واسعة من اللبنانيين في خانة العمالة أو "الصهيونية". وعلى الرغم من خطورة هذا التوصيف، فإن انتشاره لم يأتِ من فراغ، بل من سياق اجتماعي وسياسي معقد تشكل عبر عقود من الصراعات والحروب والتجارب المتراكمة التي تركت أثرها العميق على بنية المجتمع اللبناني.
الهواجس المتبادلة وأصل الأزمة:
ليست المواقف المتشددة التي تصدر أحيانًا عن بعض الفئات تعبيرًا عن تبنّيها لمشروع العدو، بل انعكاسًا لمخاوف وجودية عميقة. فالمجتمعات اللبنانية ليست كتلة واحدة، بل مجموعات تختلف ذاكرتها الجماعية، وتجاربها الأمنية، ومصادر التهديد التي تستشعرها. وهذا التنوّع لا يصنع التناقض في ذاته، لكن تراكم الأحداث، وتغيّب الدولة، وانعدام الثقة بين المكوّنات، جعل كل فريق ينظر إلى الآخر بعين الريبة.
الخوف، أكثر من القناعة السياسية، هو الذي يحرّك غالبًا المواقف الحادّة. وحين يشعر جزء من اللبنانيين بضعف الدولة أو غيابها، أو بوجود سلاح عقائدي لا يخضع لمنظومة السيادة، أو بسياسات خارجية تتجاوز المصلحة الوطنية، فإن ردود الفعل تأخذ طابعًا حادًا لا يعكس بالضرورة الانحياز إلى الخارج بل قلقًا داخليًا لا يجد من يطمئنه.
دروس من التاريخ القريب:
الذاكرة اللبنانية مليئة بأمثلة تؤكد أن المواقف السياسية ليست ثابتة، وأنها تتغيّر تبعًا للظروف والهواجس. خلال اجتياح عام 1982، رحّبت شرائح لبنانية بدخول الجيش الإسرائيلي، معتبرة أنه قد يشكل خلاصًا من صراعات محلية عاشتها مع فصائل فلسطينية وحلفائها اللبنانيين. إلا أن هذه المجموعات ذاتها أو أبناؤها كانوا لاحقًا في صلب المواجهة مع الاحتلال، وشاركوا في مقاومته.
هذه التجربة، وغيرها الكثير، تشير إلى أن ما يُظن خيانة في لحظة ما قد يكون انعكاسًا لمخاوف ظرفية، وأن اللبنانيين، حين تتبدل الظروف وتتوضح النتائج، يعيدون تموضعهم وفق المصلحة الوطنية. الخطأ لم يكن في الناس، بل في الظروف التي حاصرتهم، وفي غياب دولة قادرة على ضبط الصراعات وتطمين مخاوف الجميع.
التخوين كأداة انقسام لا كمعيار وطني:
تحوّل الخطاب التخويني إلى وسيلة لتكميم الأفواه وإلغاء النقاش العام، بدل أن يكون نقاشًا حول الخيارات السياسية. وهو بذلك يعيد إنتاج الانقسام اللبناني بدل معالجته. فالخلاف السياسي، مهما كان جوهريًا، لا يصح أن يتحوّل إلى اختبار لوطنية الناس أو انتمائهم.
الإشكال اللبناني لم يبدأ مع هذا الفريق أو ذاك، ولا مع هذا السلاح أو ذاك، بل مع منظومة طائفية أنتجت فئات خائفة، وأخرى متوجسة، وثالثة تبحث عن حماية خارج الدولة، ورابعة تشعر أنها صاحبة حق حصري في تعريف الهوية الوطنية. وفي ظل هذا التنافر، يصبح التخوين أداة سهلة لتثبيت الاصطفافات بدل السعي إلى إصلاح الخلل البنيوي الذي تنتجه الدولة الهشة.
الدولة الغائبة والحاجة إلى إطار جامع:
لا يمكن معالجة هذا الواقع من دون مواجهة السبب الجوهري: غياب الدولة القادرة والعادلة. فحين تكون الدولة ضعيفة أو محكومة بمنطق المحاصصة، تصبح الجماعات أكثر التصاقًا بهواجسها، وتتعامل مع الآخر باعتباره تهديدًا لا شريكًا. السلاح خارج الدولة يصبح تهديدًا للبعض وطمأنينة للبعض الآخر؛ التدخلات الخارجية تصبح حماية لفئة وخطرًا على فئة أخرى. وفي غياب منظومة سيادية واضحة، يغدو النقاش الوطني مجرد صراع على توازنات داخلية هشّة.
الحلّ لا يبدأ بنزع السلاح أو تثبيته قبل بناء الدولة، ولا بتخوين فئة أو تبرئة أخرى، بل يبدأ بإنشاء إطار سياسي جامع يعترف بمخاوف الجميع ويعطيهم ضمانات متبادلة ضمن مؤسسات قادرة، عادلة وغير خاضعة لميزان القوى الطائفي.
نحو خطاب يعيد الثقة:
ما يحتاجه لبنان اليوم ليس المزيد من الاتهامات، بل خطابًا جديدًا يركّز على فهم دوافع الناس بدل إدانتها، وعلى معالجة الهواجس بدل تحويلها إلى أحكام. فالوطنية لا تُقاس بالشعارات، بل بالقدرة على حماية السلم الأهلي وبناء دولة تحمي مواطنيها من الخوف قبل أن تحميهم من العدو.
إن مستقبل لبنان لن يُبنى على التخوين، بل على الاعتراف بأن جميع مكوّناته — بكل اتجاهاتها — شركاء في القلق كما هم شركاء في الهوية. وعندما يتفق اللبنانيون على أن الدولة هي المرجعية الوحيدة، وأن السيادة مسؤولية جماعية لا فئوية، يمكن للبلاد أن تبدأ مسارًا جديدًا نحو الاستقرار والازدهار.
المصدر : Transparency News
الخيام | khiyam.com
تعليقات: