
على مرّ السنوات، لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة في لبنان من معالجة أزمة النزوح السوري، والتي تكبّدت الدولة من خلالها خسائر مادية هائلة، كما لم تنجح الخطط الموضوعة لهذه الغاية من حلّ هذه الأزمة. لكن رغم كل ذلك، فإن خطة العودة المنظمة للنازحين السوريين مستمرة
في بداية صيف العام 2025 عهد الأمر الى لجنة وزارية برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء طارق متري لوضع خطة لبدء العودة المنظمة للنازحين السوريين بالتعاون مع المديرية العامة للأمن العام، برعاية وتنسيق مباشر مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة الهجرة العالمية. فكيف يتم تقييم خطة العودة المنظمة؟ وهل من عوائق أمامها؟
"الأمن العام" التقت أستاذ الجغرافيا وعضو المجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتور علي فاعور.
ما هو تقييمك للخطة التي وضعتها الحكومة والمنظمات الدولية في شأن العودة المنظمة للنازحين السوريين؟
تكاد الأزمة السورية اليوم تنهي عامها الـ 15، في غياب الأرقام والإحصاءات نتيجة تزايد أعداد النازحين، حيث باتت حالة لبنان، وفق المراقبين، هي الأسوأ بين دول الجوار وفي العالم. مع تشكيل الحكومة الجديدة، تم تكليف لجنة وزارية برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري وعضوية عدد من الوزراء. فباشرت عملها بداية تشرين الأول 2025 بعدما وضعت خطة جديدة لإعادة النازحين السوريين تقوم على مراحل عدة. يتم في المرحلة الأولى تسجيل الأسماء وتأمين حافلات لنقلهم إلى الداخل السوري، على أن يحصل كل نازح على مبلغ 100 دولار تقدمه المفوضية عند المغادرة و 400 دولار في سوريا لكل عائلة. أما في خصوص العودة غير المنظمة فهي تترك لكل نازح حرية تحديد موعد العودة، وتأمين وسيلة النقل، وهو سيحصل أيضاً على 100 دولار. كما تترافق الخطة مع تسهيلات يوفرها الأمن العام، من ضمنها إعفاء المغادرين من الغرامات. لكن ملف الحكومة كما يبدو، يفتقر إلى الأرقام الدقيقة، حيث ستتولى وزارة الشؤون الاجتماعية في المرحلة الأولى، بالتنسيق مع بقية الوزارات والأجهزة المختصة، تحضير قاعدة بيانات النازحين والتواصل مع UNHCR و IOM لتأمين الدعم المطلوب لتسهيل متطلبات العودة. أما المرحلة الثانية في الخطة، فهي تتركز على دور الجهات الدولية للمساعدة في توفير الدعم للعائدين، والتعاون مع الحكومة السورية لضبط المعابر الحدودية بين البلدين. يلاحظ أيضاً أن تنفيذ خطة العودة الطوعية المنظمة بدأ في تموز 2025، في إشراف وتنظيم الأمن العام، بالتنسيق المباشر مع المفوضية والمنظمة الدولية للهجرة، وذلك بهدف مساعدة ما بين 200 ألف و 400 ألف لاجئ على العودة إلى ديارهم في سوريا، فيما تمتد هذه المرحلة فترة 6 أشهر حتى نهاية العام 2025.
كيف تُقرأ مسار تطبيق الخطة؟
رغم التغيّرات السياسية وإزاحة الكثير من العوائق، فإن مسار التنفيذ يؤكّد أن هذه الخطة لا تختلف كثيراً عن سابقاتها. كان المطلوب أن تترافق تدابير العودة مع خطة أمنية موازية، تُنفّذ على مراحل زمنية، وتكفل تطبيق القوانين اللبنانية التي تنظم كل أشكال الإقامة والعمل في الداخل، وكل ما يتعلق بتنظيم العمالة السورية من خلال منح الإجازات والإقامات. كذلك الطلب من المؤسسات المخالفة تسوية أوضاعها، وتطبيق قوانين العمل.
ويبدو أن الاجتماع الأخير الذي عُقد بين وزير العمل محمد حيدر والمدير العام للأمن العام اللواء حسن شقير، وضع الأسس لمعالجة هذه الأمور، وهي إجراءات تمثل القاعدة الأساسية لمواكبة خطة العودة، وتسوية أوضاع المخالفين لنظام الإقامة. في موازاة هذا العمل، يتم التواصل مع الحكومة السورية لتسهيل إجراءات العودة، وضبط المعابر الحدودية، والتشدد في منع التسلل، ووقف موجات النزوح الجديدة إلى لبنان كما في آذار 2025.
الإرباك في تنفيذ العودة المنظمة هو نتيجة قرار الحكومة اللبنانية في 15 تشرين الأول 2025، بالسماح للمدارس الرسمية بقبول تسجيل التلامذة السوريين غير الحائزين الإقامة. علماً أن التساهل أدى إلى تراجع معدل الإقامة القانونية، حيث بلغت نسبة الأفراد من النازحين السوريين (ممن هم في عمر 15 سنة وأكثر) الحاصلين على إقامة قانونية 17% عام 2022، بعد أن كانت هذه النسبة 27% عام 2018، مع وجود تفاوت شاسع بين المناطق اللبنانية، حيث تنخفض النسبة إلى 9% في عكار، و12% في بعلبك الهرمل والشمال، وإلى 25% في بيروت وجبل لبنان.
ما هو انطباعك حول التعاون بين اللجنة الوزارية والأمن العام ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة الهجرة العالمية؟
منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، استهلكت المفوضية مع المنظمة الدولية للهجرة والشركاء موارد الدولة اللبنانية كافة في عمليات دمج النازحين السوريين في المجتمعات المضيفة، ووضع العقبات أمام عودتهم إلى ديارهم في سوريا. لكننا اليوم أمام مرحلة جديدة، حيث باتت المفوضية عاجزة عن المتابعة نتيجة النقص في التمويل الدولي.
وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس قال إن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الموجودة على الأرض اللبنانية لا تحترم السياسة التي تعتمدها الدولة اللبنانية. كذلك، وبحسب منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في لبنان فيليب لازاريني عام 2018، وخلال كلمة ألقاها في الجامعة الأميركية في بيروت، قال: «بالكاد أستطيع أن أتخيل أي دولة أخرى لديها مثل هذا العدد الكبير من اللاجئين لكل فرد لبناني، وتُظهر درجة عالية من القبول والتضامن، على الرغم من القلق وعدم اليقين اللذين تسببت بهما هذه الأزمة». مما بات يرهق الخزينة، البيئة، والأمن، والبنى التحتية.
كما أدى ذلك إلى تزايد التوترات والصدامات بين النازحين السوريين وغيرهم من اللبنانيين في المجتمعات المضيفة. كان يجب على كل دول العالم مساعدة لبنان في استضافة اللاجئين دون أن يبلغ حافة الهاوية، وتطبيق مفهوم تقاسم المسؤولية، حيث تستضيف معظم البلدان الغنية العدد الأقل من اللاجئين ولا تلتزم بالمعايير الدولية، بحيث مثلًا يشكل اللاجئون قرابة 2% من مجمل عدد سكان الاتحاد الأوروبي. وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنه عندما تخطى عدد اللاجئين حاجز المليون في لبنان، فإن “تدفق مليون لاجئ على أي بلد لهو أمر هائل”، حيث يستضيف لبنان أكبر كثافة للاجئين في التاريخ الحديث.
كيف تنظر إلى العوائق الموجودة أمام خطة العودة؟
نحن أمام تغيير واضح في خارطة الشرق الأوسط، فقد تبدلت المعطيات بعد مرور 14 سنة على وجود النازحين السوريين في لبنان، إذ بدأت مرحلة جديدة بعد إزالة العوائق التي كانت تمنع عودة النازحين، أهمها:
• التغيير السياسي الجديد في سوريا، وإذا كان “الترحيل القسري والجماعي غير وارد”، كما يقول نائب رئيس الحكومة طارق متري، بات الطريق سالكة لعودة النازحين وفق قاعدة: “إنشاء مناطق آمنة في سوريا تقابلها عودة آمنة للنازحين في لبنان”.
• التبدل الحاصل في الموقف الأميركي والدولي، الذي كان يربط عودة النازحين بالتغيير السياسي في سوريا.
• بداية رفع العقوبات التي كانت مفروضة على سوريا، ثم بدء التحضير لإعمار المناطق المدمرة، مما يشكل الدافع الرئيسي لعودة النازحين والمشاركة في إعادة إعمار سوريا.
• النقص الكبير في التمويل المخصص لإقامة النازحين في لبنان، وبداية وقف المساعدات التي كانت تقدمها المفوضية، علمًا أنها المرة الأولى التي تعلن فيها برامج لتأمين العودة الطوعية إلى سوريا بعدما كانت تعارض العودة لعدم توافر الظروف المواتية.
يبقى أن العائق الرئيسي يتمثل أيضًا في النقص في الأرقام والإحصاءات عن أعداد السوريين في لبنان، بحيث إن أرقام المفوضية لعدد المسجلين لديها لا تعبر عن العدد الحقيقي الموجود على الأرض. حيث تبين بحسب آخر معطيات صادرة عن المفوضية في خطة الاستجابة الإقليمية، أن عدد اللاجئين المسجلين لديها في لبنان بلغ 636,051 لاجئًا، يتوزعون على 156,131 أسرة حتى نهاية أيلول 2025. لكن بحسب خطة مفوضية اللاجئين “استقصاء إقليمي سريع” في شأن تصورات اللاجئين السوريين ورغبتهم بالعودة إلى سوريا الصادر في شباط 2025، فقد بلغ عدد اللاجئين السوريين المسجلين نحو 1,478,141 لاجئًا. في المقابل، بلغ عدد اللاجئين المسجلين لدى المفوضية نحو مليون لاجئ في الأردن، العراق، ومصر، مما يؤكد مدى الأعباء والتداعيات الضخمة التي يتحملها لبنان.
ما هو المتوقع من هذه الخطة في المرحلة المقبلة؟
إن لبنان اليوم على مفترق خطر، فهو يقوم بسرعة بعد سنوات طويلة من عمليات دمج اللاجئين السوريين، مما أدى إلى شكل جديد ديموغرافيًا. مثال ذلك، بعد سنوات ونحن نشهد تعثر عودة النازحين إلى سوريا، ونشهد عودة خلال عامي 2017 و2018، إذ عادت موجات النزوح غير النظامية عبر الحدود. لقد فاق استقبال اللاجئين ودمجهم مع الدعم الذي قدمته المفوضية والمنظمات الدولية قدرات لبنان، خصوصًا في ظل غياب الدعم الفعلي من الدول الأوروبية. فشهدت دولة في العالم حتى بات لبنان في مواجهة أزمة وجودية، مع تحميله عبئًا يفوق قدرته على التحمل، ووقوعه عمليًا على خط الدفاع الأول عن أوروبا، والدولة التي تحمل أعلى معدلات النزوح بالنسبة لعدد السكان.
بالنسبة إلى الداخل السوري، ومع وعود السكان، فإن التغير في الظروف السياسية والأمنية في سوريا يشكل عاملًا مشجعًا لعودة النازحين، خصوصًا بعد تأكيد الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن معظم النازحين السوريين المقيمين في لبنان يفكرون بالعودة خلال الـ15 سنة الماضية نتيجة الدعم والرعاية الدولية، في حين اليوم تشير المعطيات إلى أن نسبة تقارب 3 من كل 10 نازحين يفكرون بالعودة. ما يستوجب التخطيط لعودتهم خلال فترة زمنية محددة.
أما خطة العودة، فهي تتطلب إعادة تنظيم عمليات سكنية متكاملة داخل سوريا، إذ لا يمكن أن تكون العودة عشوائية تشمل كل التوزيعات الجغرافية على الأرض، وإنما يجب أن تكون العودة منظمة وفق آليات واضحة تشمل تأمين البنى التحتية، وفرص العمل، والخدمات الأساسية.
كما أن الإجراءات العملية لسلسلة العودة في هذه المرحلة يتم تنفيذها اعتبارًا من بداية العام 2026، علمًا أن نجاح خطة العودة يتطلب إضافة إلى مشاركة مفوضية اللاجئين، تحديد معابر العودة، وضبط الحدود، ومشاركة الدول المانحة بتوفير الدعم والتمويل اللازمين.
ما الذي تغيّر في خطة عودة النازحين السوريين عام 2025؟
في مراجعة للسنوات السابقة، يتبين أن الحكومة اللبنانية شاركت في وضع خطة الاستجابة لأزمة النازحين التي بدأت عام 2017، حيث شارك لبنان، لكن من دون أي أثر فعلي له في المؤتمرات التي عُقدت في بروكسل. تظهر الأرقام التي تعلنها المفوضية حتى نهاية أيلول عام 2025 وجود فجوة كبيرة بين التمويل المطلوب مقارنة بالتمويل المحصّل والخسائر التي يتحمّلها لبنان، ذلك أن مجمل متطلبات التمويل المخصص لتغطية حاجات اللاجئين في لبنان بلغت في الفترة بين 2012 ونهاية 2025 مبلغ 30.98 مليار دولار (لمدة 15 سنة)، بينما نجد أن مجمل الأموال المدفوعة بلغت 12.7 مليار دولار (51%)، بحيث بلغت قيمة الفجوة المالية 18.23 مليار دولار.
أما الجهات المانحة الرئيسية، فتشمل الولايات المتحدة بنسبة 37%، ألمانيا 22.6%، المملكة المتحدة 9.8%، والاتحاد الأوروبي 5.2%. كما يبدو من الأرقام، فقد ارتفعت نسبة النقص في التمويل المتوافر لرعاية النازحين من 10% عام 2012، لتبلغ نحو 73% عام 2023، وبلغت 90% عام 2024، و91% عام 2025. أي إن التمويل المحصّل والدعم الدولي يتراجعان إلى ما دون 9% من المطلوب، فيما الخسائر على لبنان باتت جسيمة.
فقد أعلنت المفوضية عام 2025 أن التمويل المحصّل بلغ نحو 265 مليون دولار من أصل التمويل المطلوب، وهو 3 مليارات دولار. أما على مستوى قطاعات الدعم، فقد أوقفت المفوضية الدعم عن العديد من البرامج، وما تقدمه المنظمات الدولية اليوم من دعم مالي هو بمعدل محدود جداً مقارنة مع الدعم السابق، وكذلك بالنسبة إلى الخسائر الضخمة التي يتحمّلها لبنان.
المصدر: مجلة الأمن العام -
عدد 147 – كانون الأول 2025
مقابلة كارول سلّوم
carolsalloum11@gmail.com



الخيام | khiyam.com
تعليقات: