الأطفال المشردون في ازدياد: كلُّ الأبواب مُغلقة في وجههم


لبنان

|

مجتمع

تزداد أعداد المشردين من لقطاء وأطفال تخلّى عنهم أهلهم في السنوات الأخيرة، وسط وصول غالبية الجمعيات المعنية إلى قدرتها الاستيعابية القصوى

يتجوّل عباس عوّاد، ابن الأحد عشر عاماً، بين أزقّة الأوزاعي ببنطال رقيق وحذاء مهترئ، في طقس شتوي بارد. وعند حلول الليل، لا يجد مأوى يلجأ إليه، للاحتماء من البرد والأمطار، عدا عن الأخطار التي تتربص به: النفسية والجنسية والصحية. ينام قرب مولّد كهرباء، ولا «يُؤنِس» وحشته إلا الفئران والجرذان. أما طعامه فغالباً ما يكون «غنيمة» مشاجرات تنتهي بضربِه، قبل أن تمنَّ إحدى الأيادي عليه بـ«سندويشة».

قبل شهر، وصل عباس إلى الأوزاعي هارباً من منظمة «الاتحاد لحماية الأحداث» التي كانت تتولى رعايته. وحين حاول العودة بعد أن خَبِر قسوة الشارع، اكتشف أن الأبواب أُقفلت في وجهه.

عباس ليس استثناءً. هو واحد من عشرات، وربما مئات الأطفال المتروكين لمصيرهم. «روحوا شوفوا الكوارث في الشمال»، تقول القاضية فاطمة ماجد، في إشارة إلى تفاقم أزمة التشرد «القديمة، والتي استفحلت مع الارتفاع الحاد في أعداد المشردين مقابل عجز الدولة عن حمايتهم».

أجساد صغيرة «تُرمى» على أبواب جوامع ودور أيتام وجمعيات، وأحياناً في القمامة، إضافة إلى «حالات تسيّب بالجملة في آخر ثلاث سنوات بعد تخلِي الأهل عن أولادهم سراً أو علانية»، كما تقول نائبة المدير العام لـ«دار الأيتام الإسلامية» سلوى الزعتري. وتشير إلى أن الدار استقبلت «أكثر من 35 طفلاً خلال السنة الماضية فقط».

في مقابل ربط كثيرين قضية تشرد الأطفال بالأزمة الاقتصادية، تؤكد الزعتري أن «الفقر لم يكن يوماً سبباً لتخلِي الأهل عن أولادهم بهذا الشكل، خصوصاً أننا نقدم الرعاية للأولاد الذين يحضرهم أهلهم إذا عجزوا عن رعايتهم». وتوضح أن الأسباب تعود إلى «الخلافات العائلية، ودخول أحد الوالدين أو كلاهما السجن، وتعاطي المخدرات، مقابل عدم احتضان العائلة الممتدة (عم/ جد/ خال...) للأولاد».

شبهات تُحيط بالجمعيات

وإذا كانت دار الأيتام لا تزال قادرة على استقبال المزيد من المشردين، فالجمعيات الأخرى بلغت الحدود القصوى لقدرتها الاستيعابية، ولم تعد تستقبل المزيد منهم. بذلك، يواجه عشرات الأطفال الخذلان مرتين: مرّةً من الأهل الذين أنجبوهم ثم تركوهم إلى مصيرهم، ومرّةً ثانية من الدولة التي تخلت عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها وألقتها على الجمعيات. مع العلم أن علامات استفهام كثيرة تحيط بتعاطي هذه الجمعيات مع هذا الملف الإنساني. ومن الأمثلة: المماطلة والخِفَّة التي أظهرتها جمعية «الاتحاد لحماية الأحداث»، الموكلة حماية الطفل عباس نفسه، بموجب قرار قضائي.

تقول يارا، التي تسكن في الأوزاعي، وحاولت إيجاد مأوى لعباس، إنها في كل مرة تتواصل فيها مع الموظفة في الاتحاد، «تخلق حجة جديدة تَحُول دون أخذ الطفل. مرّةً تجهل مكانه، رغم أنني أكدت لها أنني سأساعدهم في إيجاده. ومرّةً ثانية تتحجج بأن الأم موجودة وجاءت لأخذه، لكنها لم تجده في المكان المحدد». دفع ذلك يارا إلى الاستنكار: «كيف تُضيِّع أمٌ طفلها ولا تبحث عنه ثانية وتعود إلى منزلها وتتابع حياتها بشكل طبيعي؟».

استقبلت «دار الأيتام الإسلامية» أكثر من 35 طفلاً مشرداً خلال السنة الماضية

غير أن النقطة اللافتة، بالنسبة ليارا، كانت تركيز الموظفة على أن الطفل: «لديه منزل وعائلة، لكنه لا يريد أن يقعد تحت سقف»، محاولةً بذلك التنصل من المسؤولية ورميها على الطفل نفسه. ولا تكتفي بذلك، فتسأل: «إذا كانت سلوكياته سيئة كيف نضبطه؟»، قبل أن تتحجج: «لنفترض أننا أتينا لأخذ الطفل، وهو لا يريد العودة، فرمى بنفسه أمام السيارات!». أي إن الموظفة «خائفة عليه من حادث سيارة، ولا تخاف عليه من حوادث ضرب وتحرش واغتصاب قد يتعرض لها طفل في الشارع، عدا عن ظروف حياته الصعبة»، تُعلِّق يارا.

المشكلة ليست في تعاطي الجمعية فقط، بل في تخلِّي كل الأطراف عن مسؤولياتها، بدءاً من وزراة الشؤون الاجتماعية التي أحالت الملف إلى الجمعية، ورغم معرفتها أن الطفل لا يزال مشرداً، فلم تفعل شيئاً حيال ذلك. أما القضاء، فيشكو من محدودية عدد المؤسسات المتعاقدة مع الوزارة وضعف قدرتها على استقبال الأطفال المتواجدين في الشارع. وتؤكد ماجد، في هذا الإطار، أن «الجمعيات لم تعد تستقبل الأطفال الذين نُحِيلهم إليها، ونحن لا نستطيع إجبارها على ذلك إذا كان فعلاً ليس هناك أماكن شاغرة للمزيد من المشردين»، مشيرةً إلى «شروط باتت تضعها الجمعيات المتعاقدة معنا».

عوائق وتحديات

وتعود هذه «الكارثة الإنسانية»، إلى الأزمات المالية وعدم تقاضي هذه الجمعيات مستحقاتها من وزراة الشؤون الاجتماعية منذ العام 2022. لكن، الزعتري تتحدث عن تحديات أخرى، غير الهم المادي الذي «لا يقف في طريق رعاية أي طفل يُحِيله القضاء إلى دار الأيتام، شرط أن يكون لبنانياً». وأهم التحديات، بحسب الزعتري، تتعلق باللقطاء ومكتومي القيد، لأن «غياب الأوراق الثبوتية يحدُّ من قدرتنا على تقديم الخدمات التعليمية والطبابة، ولا سيما إدخال الأطفال إلى المستشفيات، ويمنع إدراج الأطفال في لوائح مُستحِقي الحماية في وزارة الشؤون الاجتماعية»، ولذا، «نحصل على تعهد من قضاء الأحداث لمساعدتنا في إصدار هويات لهؤلاء الأطفال».

التحدي الثاني يتعلق بالعمر، فالمشردون الرضع ودون الأربع سنوات هم «الفئة الأكبر، لكن نادراً جداً ما تتوافر أماكن لاستقبالهم، لغياب الفرق المختصة لرعايتهم». ومن هم فوق الـ 12 عاماً «غير مُفضِّلين لدى غالبية الجمعيات». والسبب، وفقاً للزعتري، «حساسية هذه الأعمار، وعدم قدرتنا فعلاً على رعاية جزء مهم ممن لديهم اضطرابات سلوكية متقدمة، لأننا مؤسسة رعائية وليست تأهيلية، لذا نطلب من القضاء البحث لهم عن مكان آخر».

وسط كل هذه السوداوية، ما هو الحل إذاً؟ أين يذهب الرضّع بأنفسهم؟ وكيف يتخلص المشردون من سلوكياتهم «السيئة» التي تُقفِل أبواب الجمعيات في وجههم؟ ومن يتحمل مسؤولية هؤلاء الأطفال الآن؟ تجيب ماجد: «نبحث في بعض الحالات عن عائلات تستقبلهم وتؤمن لهم مسكناً وطعاماً والحاجات الأساسية»، مؤكدةً في الوقت نفسه أن «هذا لا يكفي والأزمة بحاجة إلى تدخل سريع».

تعليقات: