طبول الحرب تُقرع ولا خطّة حكوميّة و“لا من يحزنون“


”طبول الحرب تُقرع“، هذا ما يغوص به معظم المحلّلين السياسيّين وتردّده شاشات التلفزة ونشرات الأخبار ليل نهار، فيما يتلقّفه المواطنون بكثير من الخوف والتشاؤم، بخاصّة أبناء الجنوب الذين يعيشون الحرب فعليًّا، وليس قرع طبولها وحسب، فالاستهدافات هناك لم تتوقف منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار الهشّ في الـ 27 من تشرين الثاني (نوڤمبر) 2024 وآخرها كان ما حصل أمس في قرى وبلدات محرونا وجباع والمجادل وبرعشيت، حيث طالت استهدافات إسرائيلية بيوتًا في تلك البلدات أسفرت عن تدميرها.

وعلى الرغم من التطوّرات السياسيّة المتسارعة والمتمثّلة بتعيين دبلوماسيّ لبنانيّ على رأس الوفد اللبنانيّ المفاوض ضمن لجنة ”الميكانيزم“ هو السفير السابق سيمون كرم، إلّا أنّ ذلك يُظهر سباقًا محمومًا بين الجهود السياسيّة والجموح نحو الحرب. في ضوء ذلك يبقى السؤال الأهمّ والملحّ: ماذا حضّرت الحكومة تجاه احتمال الحرب؟ كيف سيغاث مليون ونصف مليون لبنانيّ في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبيّة وبعلبك إن تجدّد العدوان؟

لا خطّة طوارئ حكوميّة

حتّى الآن لا شيء يدلّ على أنّ الحكومة قامت بأيّ تدبير يحاكي ذلك السيناريو، من خطّة طوارئ وما شابه، ما يشي بأنّ لبنان يعتمد مجدّدًا استجابة الأمر الواقع! هذا ما أثاره الناشط السياسي والأستاذ الجامعي الدكتور علي مراد على صفحته ”الفايسبوك“ إذ يقول: ”يفترض بالحكومة أن تنكبّ على إعداد خطّة طوارئ متكاملة لاحتمال اندلاع الحرب، تشمل الإغاثة والإيواء وتأمين الموادّ اللازمة وشرائها وتخزينها مسبقًا. كذلك يتوجّب عليها عقد اجتماعات تنسيقيّة مع البلديّات والجمعيّات وتقييم قدرة الاستجابة، وعدم انتظار وقوع المحظور كما جرى في العام الماضي. فالاستعداد المسبق لا يرهب الناس، بل يطمئنهم ويعزز ثقتهم بقدرة الدولة على حمايتهم“.

”مناطق نت“ التقت الدكتور مراد فأضاف: ”لا شكّ في أنّ الناس تعيش على وقع القلق من تجدّد الحرب، والمناطق في الضاحية وبعلبك وجنوب لبنان تختبر وضعًا اجتماعيًّا وسكّانيًّا يفتقر إلى الاستقرار، فمعظم السكّان استأجر شققًا خارج بيروت، وهناك من نزح بشكل تامّ ولم يعد منذ نهاية الحرب“.

يفاقم معاناة النزوح، وفق مراد، غموض طبيعة العدوان المحتمل ”لا أحد يستطيع أن يتوقّع طبيعة الحرب، وما ستكون عليه، أكثر وطأة ووحشيّة أم أقلّ؟ أو إذا كانت ستتوسّع دائرة المناطق الخالية من السكّان والمناطق المدمّرة؟ علمًا أنّ أكثر من 100 ألف نازح من القرى الحدوديّة ما زالوا نازحين عن مناطقهم منذ تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 ولم يعودوا إليها حتّى اليوم.

بعلبك: إهمال مضاعف

مِهاد حيدر، مؤسّسة شريكة لمكتبة ”ميلي“ في بعلبك. صبيّة لبنانيّة من منطقة نكبتها الحرب، ولم تحظَ سوى باهتمام إغاثيّ وإعلاميّ من درجة ثانية، حاولت تعويضه من خلال التطوّع للإغاثة.

تزاول مٍهاد حياتها يومًا بيوم، بعدما تبيّنت أهمّيّة الحفاظ على ”جهازنا العصبيّ الذي تآكل بفعل الحرب الأخيرة“. تتابع لـ ”مناطق نت“: ”أعيش في بلدة كفردان (غرب بعلبك)، ويتناهى إلى مسامعنا من وقت إلى آخر هدير الطائرات الإسرائيليّة ودويّ الغارات، ومع ذلك، ليس بوسعي الإعداد للحرب الآن. حين ستأتينا إنذارات بالإخلاء، تعلّمنا على الأقلّ أن نأخذها على محمل الجدّ، ونُخلي المنازل فورًا، كي لا نحاصَر“، تقول مِهاد.

حيدر: جدّتي في رياق، زوّدتها منظّمة دوليّة بعباءة وصفّارة وفانوس لاستخدامها عند نداء الاخلاء

تقيس مِهاد تعاطيها الشخصيّ على حالة عامّة، تنقسم إلى مشهدين، فـ ”هناك مَن يعتمدون آليّة دفاعيّة في الإنكار، وأعادوا إعمار منازلهم، واستعادوا نمط حياتهم الطبيعيّ. وهناك من يدّخرون المال إلى أيّام سوداء ربّما تأتي، وهذا ينطبق على أهلي“. وتضيف ”علّمت الحرب أهالي بعلبك أنّ التخزين والمؤونة لا لزوم لهما، لأنّ من سيهرب لن يهرب مع مأكولاته“.

وتتطرّق إلى ما تسمّيه ”بعدًا طبقيًّا للاستجابة. فهناك مَن يستأجر شاليهات في جبل لبنان وكسروان، أو استأجروا بيوتًا خارج بعلبك منذ شهور، ولكن ليس بوسع الجميع أن يستأجر بيتًا احتياطًا إلى أجل غير مسمّى“.

الحرب بلا استعدادات

على المستوى الرسميّ، تلاحظ مِهاد غيابًا تامًّا لخطط إغاثة أو حديث حول عودة الحرب، بل على العكس، تعكف بلديّات على ترميم الطرقات وتعبيدها.

وتعتبر حيدر أنّ ”العقبة الأهمّ أمام أهالي بعلبك، هي إمكانيّة الفرار، وهذا ما اختبروه خلال العدوان الأخير. كذلك عانوا من إغلاق قنوات تدفّق السيولة النقديّة، فقد تغلق شركات الحوالات أبوابها إن تجدّد العدوان“، مضيفة أنّ ”المنظّمات الدوليّة كانت ترفض إمداد النازحين بالأموال لشراء مستلزماتهم لأنّ ذلك قد يكون تمويلًا للإرهاب، فبعلبك منطقة حمراء“. وينتهي الأمر إلى منح الأهالي مساعدات لا يحتاجونها، وتعطي مثالًا ”جدّتي في رياق، زوّدتها منظّمة دوليّة بعباءة وصفّارة وفانوس لاستخدامها عند نداء الاخلاء“.

وتستنتج الناشطة حيدر ”في المقابل، برهن المتطوّعون قدرتهم على التنظيم الذاتيّ. استثمرنا علاقاتنا لحشد تمويل كنّا نتلقّاه من مراكز حوالات خارج بعلبك، وكنّا نزوّد العائلات وبخاصّة النساء بحاجيّات ندوّنها من خلال لقائهنّ مباشرة، وكنّا ننجح في إيصال المساعدات مع عناصر متفانين في الدفاع المدنيّ، ينقلونها بسيّاراتهم الخاصّة تفاديًا للاستهدافات، ويحدّدون مناطق أقلّ توتّرًا كي يلتقوا الأهالي“.

وعلى الرغم من هذا التراكم في العمل الميدانيّ والخبرة والالتزام، لا تزال الحلقة ضائعة بين جهود المتطوّعين، وبين خطّة وموارد حكوميّة لم يلمّح حتّى بها.

طرابلس ومشاكل مراكز الإيواء

على المنوال نفسه، تبقى الصورة مبهمة في طرابلس وعكّار، اللتين استقطبتا نسبة مرتفعة من النازحين، من دون بوادر وجود احترازات جدّيّة أو الاستفادة من التجربة الأخيرة.

عياش: لم نسمع بتحضيرات للجنة الطوارئ الحكوميّة ولم ندعَ إلى أيّ اجتماع، علمًا أنّنا كنّا ننسّق معها خلال الحرب الأخيرة

ينقل هذا الواقع مراد عيّاش، المؤسّس الشريك لمجموعة العمل الاجتماعي- الاقتصادي ”سياق“، والذي كان من الكوادر الميدانيّة في الإغاثة. يقول لـ ”مناطق نت“: ”لم نسمع بتحضيرات للجنة الطوارئ الحكوميّة ولم ندعَ إلى أيّ اجتماع، علمًا أنّنا كنّا ننسّق معها خلال الحرب الأخيرة، وراكمنا خبرة عمليّة يجب أن نُحسن توظيفها في حال تجدّد النزوح“.

يستخرج عيّاش فجوات جوهريّة، تبدأ من تنظيم مراكز الإيواء نفسها. ويوضح أنّ ”في مدينة مثل طرابلس تضمّ أكثر من 40 مدرسة رسميّة، تضمّنت اللائحة الرسميّة لمراكز الإيواء فقط مدرستين، من ضمنهما المعهد الفندقيّ الذي كان مقفلًا وغير مجهّز لغاية نزوح المدّ البشريّ الهائل يوم الـ 23 من أيلول (سبتمبر) العام الماضي، حين افترش الناس كورنيش الميناء بانتظار تجهيزه. وكلّنا يعلم أنّ عدد النازحين تجاوز بأشواط القدرة الاستيعابيّة لمدرستين، ففُتح مركز ”كواليتي إنّ“ بقرار سياسيّ، وفتحت مدارس أخرى أبوابها. يضاف إلى ذلك أنّ مديري المدارس لم يكونوا مُعدّين ليكونوا رؤساء مراكز إيواء، وليس كلّ مدير مؤهّلًا لأداء هذا الدور“.

استجابة بطيئة وقصيرة النظر

ويصف عيّاش الأداء الرسميّ بأنّه ”بطيء للغاية ولم يرقَ إلى مستوى احتواء تسارع الأزمة وتدفّق النازحين. كذلك اشتكت مناطق بعيدة في عكّار وقراها الحدوديّة من عدم وصول المساعدات. ولم تزوّدنا الجهات الرسميّة بقاعدة بيانات أو استمارات موحّدة حول توزّع النازحين واحتياجاتهم، فلجأنا إلى إحصائهم ميدانيًّا، ووجّهنا نداءات لحشد التمويل عبر دوائرنا الاجتماعيّة ومنصّات التواصل. وكانت الاستجابة الرسميّة غير استباقيّة بحلول الشتاء وتحدّيات الطقس، فبادرنا إلى إطلاق حملة لشراء مدافئ متعدّدة الاستخدامات“.

يعرّج عيّاش على غياب الحساسيّات السياسيّة والثقافيّة المناطقيّة في الحسابات الرسميّة. ويؤكّد أنّه على رغم الانقسامات المناطقيّة العميقة ”فإنّ المواطنين يتعاضدون خلال الأزمات. وطرابلس، كما غيرها، تعكس ديناميّات سياسيّة واجتماعيّة كان يجب ضبطها حكوميًّا. باتت الإجراءات اليوميّة خاضعة لقرارات مديري المدارس، تفتقر إلى الخبرة، والبعض أقفل أبوابه بمجرّد عودة جزء من النازحين“.

يضيف: ”حين نجحنا، كمؤسّسات مدنيّة وناشطين محلّيّين، في تنظيم أنفسنا داخل مراكز إيواء محوريّة، وتوصّلنا إلى إرساء نموذج إغاثيّ متكامل، ربذما يُعَدّ ترفًا في الحالة اللبنانيّة آنذاك، من إنشاء مستشفى ميدانيّ وصيدليّة، إلى مساحات للدعم النفسيّ ومكان للصلاة، أجهِض هذا النموذج بفعل تدخّلات سياسيّة وجماعات محلّيّة، كان ينبغي أخذها في الحسبان ومنعها من فرض سلطة الأمر الواقع. ومع ذلك، بذلنا أقصى ما يمكن للحفاظ على مستوى مقبول من الاستجابة، ولا يمكن إغفال الدور الكبير للجيش اللبنانيّ في حماية هذه المراكز والحفاظ على الأمن والاستقرار“.

ضعف شفافيّة وتوزيع مساعدات

تأسيسًا على التجارب ودروسها، تقدّم خطّة الطوارئ المعتمدة العام الماضي دليلًا دامغًا على هشاشة النظام اللبنانيّ وارتجاليّته في الاستجابة الإنسانيّة للحرب.

هذا ما أكّده أسعد ذبيان، مؤسّس مبادرة ”غربال“، خلال مؤتمر صحفيّ انعقد لإطلاق تقرير بعنوان ”العدوان الإسرائيلي 2024: توزيع المساعدات تحت المجهر“ عن ثغرات بارزة في استجابة الدولة اللبنانيّة للمساعدات الإنسانيّة، أبرزها غياب الشفافيّة وغموض المعايير وتناقض البيانات بين الاستلام والتوزيع، وخلص إلى أنّ 17 في المئة من المساعدات المستلمة لم توزّع.

تصدّرت الإمارات قائمة الدول الداعمة، تليها السعوديّة وتركيّا وباكستان، مع تسجيل وصول مساعدات من دول وجهات لم يُعثر على أيّ مستند يثبت توزيعها مثل رومانيا و“تيكا“

استخرجت ”غربال“ فجوات بنيويّة في البيانات حول المساعدات، أهمّها غياب تعريف موحّد لوحدات قياس المساعدات بين الإدارات (صندوق، علبة، قطعة، كيلوغرام؟)، وتضارب كبير بين أرقام الاستلام والتوزيع، ما يثير شبهات حول دقّة التسجيل أو احتمال سوء الاستخدام، ويجعل تتبّع مسار المساعدات شبه مستحيل.

والبارز أنّ الهيئة العليا للإغاثة أشارت في التوزيع الجغرافيّ للمساعدات أنّ 71 في المئة منها (1,501,628 وحدة) موزّعة في موقع ”غير معروف“، وهي الجهة التي استقبلت أكبر كمّيّة من المساعدات (أكثر من 90 في المئة). وأظهر التحليل أنّ لجنة الطوارىء الحكوميّة تعكس درجة عالية من الاتّساق الداخليّ والقدرة على إتمام التوزيع بنسبة 99.25 في المئة، يليها مجلس الجنوب بنسبة 98.48 في المئة، وفي الدرجة الأخيرة الهيئة العليا للإغاثة بنسبة 82.84 في المئة.

أما على صعيد المانحين، فتصدّرت الإمارات قائمة الدول الداعمة، تليها السعوديّة وتركيّا وباكستان، مع تسجيل وصول مساعدات من دول وجهات لم يُعثر على أيّ مستند يثبت توزيعها مثل رومانيا و“تيكا“.

الشفافية احترامًا للشهداء

استندت ”غربال“ إلى معلومات منشورة على المواقع الرسميّة وعلى طلبات تقدّمت بها وفق قانون الحقّ في الوصول إلى المعلومات. إلّا أنّ وزارتَي الصحّة والشؤون الاجتماعيّة لم تردّا، فيما جاءت ردود الجهات الأخرى ناقصة. كما امتنعت الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد عن تزويد المعلومات بسبب السرّيّة المرتبطة بالتحقيقات.

وعلى سبيل تعزيز الشفافيّة، وتلبية اللبنانيّين المتضرّرين وإغاثتهم في الحرب أو أيّ أزمة وشيكة، أوصت ”غربال“ في تقريرها بسلسلة خطوات، أهمّها توحيد وحدات القياس، واستبدال تقارير PDF بأنظمة بيانات قابلة للبحث، وتحديد وجهة التوزيع جغرافيًّا، وإنشاء هيئة تنسيق موحّدة للمساعدات مع لوحة معلومات عامّة، وتدقيق مستقلّ منتظم لضمان الشفافيّة والمساءلة في أيّ استجابة طارئة مقبلة.

يختم أسعد ذبيان بالقول ”إنّ الحرب لا ينبغي أن تكون سببًا للاستغناء عن الشفافيّة، بل على مختلف الهيئات الحكوميّة أن تتوخّى الشفافيّة العالية خصوصًا في الأزمات، لنضمن التوزيع العادل على الناس المتضرّرين، وكي لا يتاجر بدماء الشهداء وإصابات الجرحى وآلام النازحين“.

وبغرض تعزيز الشفافيّة تمهيدًا للمحاسبة، أطلقت “غربال” موقعًا إلكترونيًا يتيح الاطّلاع على البيانات الخاصّة بالمساعدات المستلمة والموزّعة خلال فترة الحرب، وهي تؤسّس لتوثيق المساعدات خلال أيّ عدوان محتمل لا يرجوه اللبنانيّون، في وقت لم تعدّ الحكومة خطّة أو حتّى خطوة لاحتواء تداعياتها الانسانيّة.

نازحون من الجنوب في إحدى المدارس التي تحوّلت إلى مركز إيواء خلال الحرب الماضية
نازحون من الجنوب في إحدى المدارس التي تحوّلت إلى مركز إيواء خلال الحرب الماضية


تعليقات: