مي عبدالله: الفاتيكان تعرف ما لا نعرفه


بينما كانت الشاشات تتابع زيارة البابا ليو الرابع عشر إلى لبنان، كانت تل أبيب تعيش حدثًا استثنائيًا: رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو يطلب عفوًا رئاسيًا عن محاكمته الجارية بتهم الفساد، وفق ما نقلته وكالة رويترز في 30 تشرين الثاني 2025، وهي خطوة وصفها محللون إسرائيليون بأنها “غير مسبوقة” في تاريخ الحياة السياسية لدى الكيان.

هذا التوازي بين اهتزاز الداخل الإسرائيلي وإطلالة الفاتيكان على المنطقة لا يبدو مجرّد صدفة زمنية. فبين تل أبيب والفاتيكان، تتكوّن ملامح مرحلة جديدة… مرحلة تتغيّر فيها قواعد اللعبة من تحت الطاولة.

على مدى ثلاثة عقود، رسم نتنياهو الخط العريض للعقيدة الإسرائيلية: ردع قائم على قوة النار بلا أفق سياسي، وحروب تُدار كامتداد لمعركة البقاء في الحكم. هذا ما أشار إليه عدد من محللي الصحافة الإسرائيلية، خصوصًا بعد اتساع دائرة التحقيقات بحقه، وتحوّل الحروب — من غزة إلى لبنان وسوريا — إلى جزء من "إدارة الأزمات" الداخلية أكثر منها استراتيجية إقليمية واضحة.

اليوم، هذه العقيدة نفسها تبدو أمام اختبار صعب. فطلب العفو — بحسب مراسلي BBC وEuronews — يعكس إحساسًا متزايدًا لدى نتنياهو بأن البيئة السياسية والقضائية لم تعد في صالحه، وأن شرعيته التي بناها على صورة "حامي الأمن" تتعرض لتصدع عميق. يضاف إلى ذلك أن إسرائيل مقبلة بحكم القانون على انتخابات تشريعية في خريف 2026، وسط استطلاعات رأي ترجّح تقدّم المعارضة.

من هنا يصبح السؤال مشروعًا: ماذا يعني بقاء نتنياهو أو رحيله بالنسبة للبنان والمنطقة؟

في سيناريو البقاء، تستمر العقيدة نفسها: تصعيدات متقطعة، عمليات محسوبة على الجبهة الشمالية، غارات تحت عنوان "منع تعاظم قوة حزب الله"، واستثمار الساحة اللبنانية في لعبة الداخل الإسرائيلي. هذا ما عبّرت عنه تقارير متعددة في صحيفة هآرتس حول كيفية لجوء نتنياهو إلى "المعركة بين الحروب" كلما ضاق الخناق القضائي عليه. وفي مثل هذا السيناريو، يبقى لبنان أمام نمط مألوف: هدوء مشوب بالتوتر، وحدود تتحرّك بين الهدنة المؤقتة والاشتباك المحدود.

أما في سيناريو الرحيل، فالصورة تختلف. فبحسب تحليل نشرته The Guardian وForeign Policy، فإن غياب نتنياهو لن يعني السلام، لكنه يعني دخول إسرائيل في مرحلة انشغال داخلي يمتد أشهرًا — انتخابات، مفاوضات ائتلافية، وصراع على صياغة عقيدة أمنية جديدة. في هذه المرحلة، تتراجع شهية أي قيادة جديدة لفتح حرب شاملة على لبنان، بينما يزداد تأثير الضغط الأميركي والدولي لضبط الجبهة الشمالية، وإعادة ترتيب قواعد الاشتباك، وفتح مسار تهدئة أطول عمرًا… حتى لو لم يُسمّ اتفاقًا رسميًا.

ومن الضروري التمييز بين ما تصنعه التحولات داخل إسرائيل، وما يلتقطه الفاتيكان من إشاراتها البعيدة. فالفاتيكان لا يصوغ هذه اللحظة ولا يفرض مسارها؛ الانهيار الذي يعيشه النظام السياسي الإسرائيلي، وتصدّع العقيدة التي بناها نتنياهو على مدى ثلاثة عقود، هما أولًا وأخيرًا نتاج أزمة داخلية بحتة. لكن الفاتيكان، بخبرته التاريخية في قراءة اللحظات الهشّة في المشرق، يدرك أن المنطقة تدخل طورًا أقلّ توترًا بحكم الإنهاك الإسرائيلي، فيتحرّك بحسّ توقيت لا بسلطة نفوذ، ويسارع إلى تموضع رمزي يمنحه دور"راعي السلام" في مرحلة لم يصنعها، بل استشرف مآلاتها قبل أن تكتمل معالمها. هكذا لا يصبح الحضور الفاتيكاني صانعًا للحدث، بل قارئًا ذكيًا لخطوته التالية، في لحظة تتغيّر فيها الخرائط أكثر مما تتغيّر الشعارات.

زيارة البابا ليو الرابع عشر، كما غطّتها منصة Vatican News، جاءت بلغة سلام واضحة: دعوة إلى الوحدة الداخلية في لبنان، وتأكيد على "أهمية الاستقرار في منطقة تستنزفها الحروب". البابا لم يتبنَّ السرديات التي أراد البعض فرضها عليه، ولم يدخل في صراع سياسي محلي، بل قدّم خطابًا أقرب إلى قراءة بعيدة المدى: تهيئة الوجدان العام في لحظة يُرجَّح أن تشهد المنطقة تحوّلًا كبيرًا في إسرائيل نفسها.

قد لا يقول الفاتيكان هذا صراحة. لكن التوقيت، وطبيعة الخطاب، وخيار زيارة لبنان تحديدًا — في ظل كل ما يحيط به — تجعل من الصعب تجاهل أن الفاتيكان يرى أن المنطقة مقبلة على نافذة تهدئة، ليست نتيجة اتفاقات تاريخية، بل نتيجة تعب داخلي إسرائيلي وانهيار مرحلة سياسية امتدت لثلاثة عقود.

ولبنان، كالعادة، يقف في نقطة تقاطع كل هذه التحولات: بلد دفع ثمن عقيدة نتنياهو منذ 1996، ويدفع اليوم ثمن ارتجاجها… لكنه أيضًا البلد الذي قد يلتقط إشارات التغيير قبل غيره: انخفاض منسوب التهديد بالحرب، عودة الاهتمام الدولي باستقراره، وإمكانية إعادة تعريف دور الجيش والمقاومة ضمن معادلة إقليمية أكثر هدوءًا.

بين تل أبيب والفاتيكان، لا نجد صراعًا بل مشهدًا يتغيّر: عقيدة تتهاوى، وكرسي يهتز، وصوت روحي يحاول أن يسبق السياسة بخطوة. ما يحدث ليس وعدًا بالسلام، ولا انتصارًا على الحرب… بل لحظة انتقال، على المنطقة أن تفهمها قبل أن تعيشها.

تعليقات: