
راشد شاتيلا – ناشط اجتماعي ومختص في الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات
في زمن تتقاطع فيه التهديدات البيئية مع الانقسامات الاجتماعية وسباق التطور التكنولوجي، لم يعد الحديث عن حماية الطبيعة، أو احترام القانون، أو تعزيز الوحدة الوطنية ترفًا خطابيًا، بل أصبح مسألة وجود ومصير. العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة لم تعد ملفات متفرقة؛ بل تشكّل اليوم نسيجًا واحدًا، لا يكتمل فيه خيط دون أن يتشابك مع الآخر. فبيئة بلا قوانين مهددة بالانهيار، وقوانين بلا وعي جماهيري تبقى حبراً على ورق، ووحدة وطنية بلا رؤية جامعة لا تتعدى كونها صدى بلا أثر. ومن هنا تبدأ الحكاية.
لم تعد البيئة مشهدًا أخضر للتمتع البصري، بل تحوّلت إلى مرآة تكشف صحة المجتمعات وقدرتها على البقاء. تغيّر المناخ، تلوّث المياه، تآكل التربة، وارتفاع الانبعاثات، كلها ليست أحداثًا عابرة بل مؤشرات خطيرة على اختلال العلاقة بين الإنسان وكوكبه. البيئة اليوم تكتب إنذارها الأخير: إمّا إصلاح جذري، أو انزلاق نحو مستقبل لا يُطاق العيش فيه. والمفارقة أن الخطر الحقيقي لا يكمن في التلوث نفسه، بل في تعوّدنا عليه كأنه قدر لا مفر منه.
في الدول التي يُهمَل فيها القانون البيئي أو يُطبّق بانتقائية، يصبح الانهيار البيئي مسألة وقت فقط. القانون ليس مجرد نص بروتوكولي؛ بل هو صمام الأمان الأهم في وجه العبث المنظم بالطبيعة. احترام القانون هو احترام للحياة، وللأرض التي نعيش عليها. فالتجارب الناجحة لم تُبْنَ فقط على موارد أو إمكانات، بل على قوة القانون وعدالته، وعلى تطبيقه العادل على الجميع. أما القانون غير المطبّق، فهو مساهمة غير مباشرة في الجريمة البيئية.
التكنولوجيا بدورها لم تعد ترفًا، بل أصبحت سلاحًا حاسمًا في معركة البيئة. الذكاء الاصطناعي بات قادرًا على تحليل الهواء بدقة، مراقبة الأنهار لحظة بلحظة، كشف المخالفات وتتبع مصادر الانبعاثات قبل أن تتفاقم. لكن جوهر الذكاء الاصطناعي لا يكمن في أدواته بل في وجهة استخدامه: فإما أن يُسخَّر لخدمة البيئة، فيصبح شريكًا في الحل، أو يُستغل لأهداف ربحية، فيتحول إلى سلاح إضافي ضد الكوكب. فالتكنولوجيا دون قيم، خطر؛ ومع القيم، تصبح أملًا.
حماية البيئة لا تنفصل عن سلطة القانون. التلوّث ينتشر حين يغيب الردع، وتدمير الغابات يحدث عندما يغيب التنظيم، واستنزاف الموارد يتسارع عندما يفقد الإنسان شعوره بالمحاسبة. القوانين المتطورة لا تكفي وحدها، بل المطلوب ثقافة قانونية راسخة تجعل المواطن شريكًا حقيقيًا في حماية بيئته. فما جدوى القانون إن لم يتحول إلى سلوك يومي؟ وما جدوى الوعي البيئي إن لم يُترجَم إلى التزام قانوني فعلي؟
قد يبدو الربط بين البيئة والوحدة الوطنية غريبًا، لكنه في جوهره ضرورة. فالتجربة تثبت أن الأوطان المنقسمة تفشل حتمًا في حماية بيئتها. البيئة لا تعترف بالطوائف ولا بالحدود الضيقة؛ فهي مجال مشترك يتأثر ويؤثر. نهر ملوث في قرية يهدد صحة مدينة، وحريق في غابة يعكّر مناخ دولة بأسرها. الوحدة الوطنية ليست مجرد شعار سياسي، بل شرط أساسي لأي خطة بيئية جادّة. فالتحديات الكبرى لا تواجهها إلا المجتمعات المتماسكة.
وعندما تلتقي التكنولوجيا مع القانون تحت مظلة وطنية موحّدة، يتكوّن درع حقيقي لحماية البيئة. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يدعم القضاء بالبيانات الدقيقة، ويمنح الوزارات أدوات فورية لمراقبة الانتهاكات، ويخلق منظومة شفافة تُقلّص من هامش الإهمال. أما الوحدة الوطنية، فتوفر الغطاء السياسي والاجتماعي الذي يضمن استمرارية هذا التغيير بعيدًا عن التجاذبات التي تعطل القوانين وتشلّ المؤسسات.
ما نحتاجه اليوم ليس قرارات متفرّقة أو مبادرات موسمية، بل رؤية متكاملة تجعل حماية البيئة واجبًا وطنيًا، وتطبيق القانون مسؤولية جماعية، وتوظيف التكنولوجيا جزءًا من مشروع إنقاذ متكامل. الأرض التي نعيش عليها ليست ملكًا لجيل واحد، بل أمانة بين أيدينا للأجيال القادمة. والوحدة الوطنية ليست خيارًا، بل حجر الأساس لأي إصلاح فعلي. من دونها، يبقى خطاب البيئة مجرد أمنيات. ومن دون القانون، يبقى التلوث سيّد الموقف. ومن دون التكنولوجيا، يبقى الإصلاح متأخرًا وعاجزًا عن مواكبة العصر.
هنا يبدأ التغيير: من احترام القانون، إلى احترام الأرض، إلى احترام الإنسان. هكذا فقط يُمكن للوطن أن ينهض، وللبيئة أن تتعافى، وللمستقبل أن يُكتب من جديد، باسم الأمل والعدالة والحياة.
راشد شاتيلا
الخيام | khiyam.com
تعليقات: