الشاعرة هدى صادق: الخيام على حافة النور والرماد

الشاعرة هدى صادق: نبع الدردارة يفيضُ كما لو أنه يبكي بلطف من شدّة الذاكرة يمرّ على الوجوه فيغسل عنها الغبار ويترك الندى كآيةٍ على جبين الجمال
الشاعرة هدى صادق: نبع الدردارة يفيضُ كما لو أنه يبكي بلطف من شدّة الذاكرة يمرّ على الوجوه فيغسل عنها الغبار ويترك الندى كآيةٍ على جبين الجمال


لم تكن الخيام مجرّد بلدة تُطلّ من خاصرة الجنوب كحلم معلّق بين جبل وغياب بل كانت نايًا من ترابٍ يعزف الحياة على وتر الخطر بلدةٌ تتّسعُ كصدر أمّ وتضيقُ كخنجرٍ في خاصرة العدو

في كلّ حجرٍ من بيوتها جملةٌ ناقصةٌ من قصيدةٍ قديمة وفي كلّ غيمةٍ تعبر سماءها ظلّ لشاعر عاد ليزرع في الريح بيتًا جديدًا

يبدو سهلها الأخضر كصفحة من كتاب لم يُكتب بعد تموّجه السنابل ككلماتٍ تتلعثم في الحنين هناك تحت ضوءٍ مائل من المساء، تشبه الأشجارُ المصلّين الذين لا يرفعون رؤوسهم من السجود كأنهم يطلبون الصفح عن كل الحروب التي مرّت من فوقهم

ونبع الدردارة يفيضُ كما لو أنه يبكي بلطف من شدّة الذاكرة يمرّ على الوجوه فيغسل عنها الغبار ويترك الندى كآيةٍ على جبين الجمال

الخيام ليست جغرافيا فحسب إنها نص في الكتابة على الأرض فصلٌ من رواية الجنوب وسطرٌ مكتوب بالعرق والدمع لا بالحبر

حين تعبرها تشعر أن الوقت يمشي على رؤوس أصابع النسيم وأن الهواء مشبعٌ برائحة المعنى كأن الكلمات تنبت من التراب لا من الأفواه

وفي مقبرة الخيام لا يموت الشعراء بل يغيّرون نغمتهم

تحت الشواهد التي تغفو كأجنحةٍ من حجر

ولأن الخيام تقف على مفترق الأنين والماء فإنها تعرف أن البقاء ليس صدفة بل طقس من العناد الجميل في كلّ بيتٍ جرحٌ يضيء وفي كلّ طفلٍ ذاكرة تمشي على قدمين

هي البلدة التي تعلّمت أن تزرع القمح في الطلقات وتخبز الشمس من الرماد وأن تجعل من وجعها مدخلاً للجمال

وفي مساءاتها حين يهبّ النسيم من جهة المغتربين يُخيَّل إليك أن الأرض تستعيد نفسها وأن التلال تنحني لتسمع حكاية الجدّات وأن الحقول تصغي لنبض الشهداء الذين رحلوا عشقا للأرض

وكلّما غابت طائرة في البعيد نهضت شجرةُ صفصافٍ جديدة في مكانها لتقول للعالم هنا لا يموت الجمال بل يُهاجر قليلًا ثم يعود في شكل مطر وغيم

كأن الصباح في الخيام يُشبه صفحة من إنجيلٍ قديم تُفتَح على مهل كي لا يتناثر الحبر الذي سال من أسماء الراحلين الضوء هنا لا يُشرق كما في سائر الأماكن بل يتسلّل من بين أغصان التين كهمسةٍ من الزمن الأول كأن الشمس نفسها تخاف أن تجرح هذا السهل الغافي على خاصرة الجنوب

كل شيء في البلدة يُقيم على حافة النور والرماد الجبال التي تطلّ من الشرق تشبه ظهور خيولٍ متعبة والبيوت البيضاء تتكئ على سفوحها كما تتكئ الأرامل على ذاكرة من رحلوا في الأزقّة الصغيرة التي تفوح منها رائحة التراب المبلّل والخبز الطازج ما زال يمكن للمارّ أن يسمع صدى القصائد القديمة تلك التي كانت تُتلى في المجالس حين كان الشعر يُنقذ الناس من الحرب كما تُنقذ الأم طفلها من الحريق

يقولون إنّ الخيام سُمّيت بهذا الاسم لأنّ أهلها الأوائل كانوا يقيمون خيامهم قرب الماء يرحلون مع الينابيع ويعودون حين تنضج الشمس لكنّ أحدًا لا يذكر أن الخيام نفسها صارت عبر العصور خيمةً كبرى للوطن المشرّد مأوى للذين أتعبتهم الحدود ومأتمًا لجيلٍ لم يجد في الخرائط مكانًا كافيًا لأحلامه

إبنة الخيام هدى صادق

تعليقات: