في جبلٍ تربّى على المقاومة، لا تُقاس الكرامة بعدد المقاتلين، بل بصلابة الموقف. من ثورة سلطان باشا الأطرش إلى انتفاضة الجولان، ومن صمت مشايخ الجبل إلى بياناتهم المدوية، بقي الدروز نموذجًا نادراً: طائفة قليلة العدد، لكن كبيرة بمقدار ما ترفض الانحناء، مهما اشتدت الرياح.
تُعدّ محافظة السويداء في الجنوب السوري موطنًا للطائفة الدرزية التي لعبت دورًا بارزًا في صياغة الهوية الوطنية السورية، انطلاقًا من إرثها النضالي وتماسكها الاجتماعي. غير أن هذه الطائفة، التي آثرت الحياد المسلّح طوال السنوات الماضية من الصراع السوري، تجد نفسها اليوم في مهبّ مشروع متعدّد الأوجه، يستهدف استقلالها الرمزي والمعنوي، قبل استهداف وجودها السياسي والأمني. وتأتي واقعة الاعتداء على عدد من مشايخ الدروز وحلق شواربهم لتشكّل لحظة رمزية مفصلية تستدعي قراءة معمّقة تتجاوز الحدث، نحو تحليل دلالاته في ميزان التاريخ والواقع والاستراتيجيا.
أولًا: جبل العرب – الجغرافيا والهوية
يقع جبل العرب جنوب شرق سوريا، ويُعرف أيضًا باسم جبل الدروز. يشكل مركز الثقل السكاني للطائفة الدرزية في سوريا، وهو متصل جغرافيًا بمحافظة درعا غربًا والبادية شرقًا، ويجاور الجولان المحتل جنوبًا.
الدروز طائفة دينية توحيدية باطنية تعود أصولها إلى بدايات القرن الحادي عشر الميلادي (408 هـ)، وقد انبثقت عن المذهب الإسماعيلي، ثم تطوّرت إلى منظومة لاهوتية مغلقة تقوم على العقل والتأويل العرفاني والولاء الداخلي.
(المرجع: كمال جنبلاط، "المذهب التوحيدي"، دار الفتى العربي، 1975.)
ثانيًا: من الثورة إلى الحياد – موقع الدروز في التاريخ السياسي السوري
يُعرف عن الطائفة الدرزية حضورها البارز في مناهضة الاستعمار الفرنسي من خلال "الثورة السورية الكبرى" بقيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925، والتي انطلقت من السويداء وامتدّت إلى مختلف المناطق السورية، رافعة شعار: "الدين لله والوطن للجميع".
(انظر: الأطرش، سلطان باشا. مذكراته. دار الطليعة، بيروت، 1973.)
بعد الاستقلال، شهدت العلاقة بين الدروز والدولة المركزية توترات حادة، كان أبرزها حملة القمع التي شنّها الرئيس أديب الشيشكلي عام 1954، والتي تم خلالها قصف السويداء بالطيران الحربي. هذا الحدث شكّل منعطفًا في وعي الطائفة تجاه السلطة المركزية، ورسّخ ميلها نحو التنظيم الذاتي والحياد عن النزاعات الداخلية.
(انظر: فياض، نبيل. "الدروز في التاريخ"، رياض الريس، 2000.)
ثالثًا: الشارب كرمز اجتماعي وثقافي في الموروث الدرزي
في ثقافة الدروز، لا يُعدّ الشارب مجرد زينة وجه أو علامة رجولة تقليدية، بل هو امتداد رمزي للهيبة، والعهد، والانتماء إلى تاريخ مشايخ وعشائر ضارب في الأرض والجبل. الشارب عند الدروز يُربى كما تُربى الكرامة: لا يُقصّ إلا موتًا أو حدادًا، ولا يُمسّ إلا بإذن صاحبه. ومن يقصه عنوة، لا يستهدف شكلاً... بل يذبح معنًى.
لهذا، فإن من أمر بـحلق شوارب كبار السن من مشايخ الدروز في السويداء، لم يفعلها عن جهل، بل عن معرفة تامة بثقل هذا الفعل. كان يدرك أنه لا يُهين شخصًا، بل يُهين رمزًا. كان يقصّ سيرة بأكملها، ويُعلن أن الطائفة التي اختارت الحياد والكرامة، ستُدفع إلى المذلّة ما لم تخضع.
حلق الشارب هنا لا يشبه أي إذلال آخر. إنه هتك رمزي للعرض المعنوي، يشبه في قاموس القيم ما يشبه اقتلاع العمامة أو نزع الرداء عن قاضٍ على الملأ. وقد استُخدم – عمدًا – في السويداء، لا بوصفه عقوبة، بل رسالة: ثمن الحياد سيكون الهوان. وثمن الاستقلال عن معسكرَي النظام والجهاديين هو أن تُنتزع عنك رموزك قطعة قطعة.
إن من يعتدي على الشيب، وعلى لحية وقورة نبتت في الكرامة، لا يستهدف شخصًا بل مشروعًا: مشروع الطائفة التي أرادت النجاة من طاحونة الدم، فرفضت الاصطفاف، وآثرت الصمت الملتزم على الضجيج التابع.
في عالم يُعاد فيه ترتيب الخرائط على أساس الاصطفاف، فإن الطائفة التي ترفض أن تكون رقمًا في معادلة أحد، تُغدو خصمًا يجب إذلاله أولًا… ثم جره إلى بيت الطاعة، ولو بالحديد والنار.
الطائفة التي ترفض كل ولاء، ولا تبني لنفسها شبكة أمان، تصبح عارية في زمن الذئاب. والاستقلال لا يعني الانفصال. والحياد لا يعني العزلة. إن الطائفة التي ترفض كل دعم، وتقطع خيوط التلاقي مع محيطها المقاوم، ستُترك وحيدة حين تُغدر. كما تُرك الأكراد، وكما تُرك اليزيديون، وكما تُرك المسيحيون في نينوى.
الجبل ليس بحاجة إلى من يُشيد بتاريخه، بل إلى من يُبقيه واقفًا في الجغرافيا.
لا تُستعاد الكرامة عبر الذكريات فقط، بل عبر إعادة ترتيب الصفوف، قبل أن تأتي اللحظة التي يُقال فيها: "كان هناك جبل… اسمه جبل العرب."
ولا يجب أن ننسى أن ما يجري اليوم في السويداء وإن كان خارج الحدود اللبنانية، فهو ليس خارج حدود المصير. فخارطة المنطقة لم تعد تفصل بين بلدٍ وآخر، بل تتشابك كخيوط العنكبوت، حيث أيّ اهتزاز في طرفها يترك أثرًا في الأطراف كلها. وما يحدث هناك هو بمثابة إنذار مبكر لما قد يُراد تكراره هنا، لذا فإن تحليل المشهد ليس ترفًا، بل ضرورة لفهم ما يُحضّر، واستباق ما يُراد.
ويبقى أن يكون الدروز أمام خيارين: إما المقاومة، وإما القبول بالحماية الإسرائيلية التي لا بد أن يتبعها أثمان، أقلها الانكفاء عن أي موضع عربي–مقاوم. سيكون الثمن باختصار هو الهوية، والقرار، والدور.
وبرأيي أن الطائفة الدرزية في هذا السيناريو ستكون في أكثر زمن إحراجًا على امتداد التاريخ والمستقبل، حيث سيتطلب منها ذلك إقناع نفسها بأنها طائفة مُستهدفة دائمًا ويجب أن تتحالف مع الأقوى لا الأصدق، وتقديم إسرائيل كـ"الحَضن الآمن". وهذا يتطلب إعادة كتابة سردية التاريخ – من سلطان الأطرش إلى الشهيد كمال جنبلاط – بما يتماشى مع المصالح الجديدة. وهو ما ينذر لا فقط بانعزال الطائفة الدرزية، بل بانهيار ما تبقّى من النسيج الوطني السوري، حيث كل طائفة يُراد لها أن تعيد تعريف ذاتها على أسس أقلية خائفة، بدلًا من أن تكون جزءًا من كيان وطني متماسك.
ولعل ما يزيد خطورة المشهد هو تشابك المصالح الإقليمية، حيث تظهر ملامح كباش خفي بين إسرائيل وتركيا على حدود النفوذ في الجنوب السوري، وسط صمت دولي مريب واستعداد محموم لتقسيم النفوذ لا الجغرافيا فقط.
كلمة أخيرة
إن الدفاع عن النفس والكرامة والعِرض ليس فقط حقًا مشروعًا، بل فريضة مقدسة تنص عليها كل شرائع السماء والأرض. ومن ينتظر أن يُستباح بيته ومشيخته ليقرّ بضرورة الدفاع، فقد خان فطرته وخذل قومه.
لقد رأت المقاومة الإسلامية هذا الخطر قبل أن يصل، فنبّهت إليه، ومدّت يدها للردع والتنسيق والتكامل، لكنّ البعض فضّل العزلة... حتى أصبحت العزلة فخًّا.
والآن، أمام هذا المشهد، لا نملك إلا أن نرفع الصوت: الاستعداد ليس تهديدًا، بل ضمانة. والدفاع ليس عدوانًا، بل كرامة.
مي حسين عبدالله
تعليقات: