»وسط بنت جبيل« لن يعود كما كان

ورشة اعادة الاعمار
ورشة اعادة الاعمار


لم يبن وسط مدينة بنت جبيل كما خطط له. عاد أهل الحارات إليها، لكن ليس ضمن النسيج الذي كانت عليه. المنازل المبنية على الطراز القديم استبدلت بأخرى بطبقات، والأحياء باتت كثيفة البناء.

وكانت مجموعة من مهندسي قسم العمارة في الجامعة الأميركية قد زارت بنت جبيل نهاية حرب تموز مباشرة، ووضع أفرادها تصوراً وتصاميم خاصة بطريقة البناء، كي تحافظ الأحياء ذات الأبنية التراثية على طابعها. إلا أن أسباباً عدة حالت دون تنفيذ ذلك.

واجه المهندسون المنفذون أكثر من معضلة: أولها عددهم المحدود، ثم إنهم وجدوا أنفسهم مضطرين للتعاطي مع عملية فرز الأراضي وهي بمعظمها غير مفروزة، وبالتالي الدخول في مسائل الملكية والتعويضات، وصولا إلى رغبة كل مالك ببناء منزله على طريقته الخاصة. ولم يعرض على بنت جبيل مشروع شامل كمشروع »وعد« في الضاحية الجنوبية، فبات كل مالك يبني كما يرغب من دون وجود أي إجراءات ملزمة تتعلق بالمساحات المشتركة وضرورة إقامة حدائق ومراعاة المساحات المشتركة.

بالإضافة إلى ذلك كله، كان يتعين مراعاة كون بنت جبيل مدينة حدودية معرضة باستمرار للعدوان، مما يحتم تلاصق البيوت لحماية السكان، مما يجعل التصرف بالمساحات المشتركة أمراً صعباً.

النسيج الاجتماعي

وتوضح مسؤولة قسم العمارة الإسلامية في الجامعة الأميركية هويدا الحارثي أن المشروع الذي نفذ فعلا نجح في إعادة الناس الى منازلهم، وفي فرز العقارات وتحديد الملكيات، إلا أن نسبة النجاح العمراني تقارب الخمسين في المئة.

وكانت الحارثي قد سلمت التصميم العام للمدينة القديمة إلى المهندسين المتعاقدين مع المشروع القطري لإعادة الإعمار.

وبعد تولي المهندس نصر شرف الدين مسؤولية المكتب الفني المشرف على إعادة الإعمار، أبدى تأييده لتوجه مهندسي الأميركية بضرورة بناء المنازل بما يناسب النسيج الاجتماعي: لجهة كيفية استخدام المساحات، وإجراء عمليات تشجير، وتأمين مواقف السيارات وبناء الساحات العامة.

وتقول الحارثي إنه بعدما أوقف المهندسون عملية جرف المباني المتصدعة وتبنى المكتب الفني وجهة نظرهم، اطمأنوا إلى سير المشروع، لكن ذلك الاطمئنان لم يكن على ما يبدو في محله.

تضيف: »أعرف أن الظروف صعبة، لكن خسرنا المنازل كتجمعات، ودخل المكتب الفني في موضوع الملكية والتعويضات، وتلك المسائل ليست من مهماته. كان يجب وضع نظام شامل للمنازل الجديدة وتلك الباقية من المنازل لقديمة«.

وهي ترى أن الخطأ الكبير شمل ثلاث مسائل هي: أولا، وضع نظام للتعويضات قبل إجراء المسح الشامل للمنازل المهدمة والمتضررة، ثانيا، عدم ترميم منازل الحجر قبل بناء المنازل المهدمة، لأنه لو بنيت قبلا فسيراها الناس ويقررون إذا كانوا يريدون بناء منازلهم على مثالها، وثالثا، عدم مشاركة فريق هندسي أكبر من الموجود في الإشراف على المشروع، وعدده يتراوح بين عشرة وخمسة عشر مهندسا.

لكن الالتباس يقع كما يبدو في مسألة إذا كانت بنت جبيل تبنى ضمن مشروع كامل للإعمار، وقد أوضح النائب محمد حيدر ممثل حزب الله في التنسيق مع مسؤولي المشروع القطري أنه اقتُرح على الأهالي إعداد مشروع كامل لإعادة البناء، على غرار مشروع »وعد« في الضاحية الجنوبية، لكن ذلك الاقتراح لم يجد طريقه إلى التنفيذ، بسبب مطالبة أهالي المدينة بتولي بناء منازلهم بأنفسهم، بينما رضي أهالي الضاحية بمشروع »وعد«، فاستُعيض عن المشروع بوضع بعض الضوابط التي يقوم بها المكتب الفني.

بداية من الصفر

وقد استند رئيس المكتب الفني المهندس نصر شرف الدين إلى عدم وجود مشروع، لكي يتحدث عن الصعوبات التي واجهت عملية البناء، قائلا: اضطررنا للبدء من الصفر، أي من مرحلة إجراء عمليات فرز للعقارات لأن بنت جبيل غير مفروزة عقاريا، وتسمى حتى اليوم أرض بنت جبيل، ثم تعاملنا مع ألف وخمسمئة صاحب ملكية، كل واحد منهم يريد إعادة بناء منزله كما يناسبه، من دون الأخذ بعين الاعتبار صغر المساحات في وسط المدينة. وأوضح أن المكتب اضطر للتدخل لدى صاحب كل ملكية على حدة، وأكثر من مرة، من أجل وضع بعض الضوابط في عملية البناء.

وقد سألت الحارثي شرف الدين خلال ورشة أقامها المكتب في بنت جبيل عن المساحات الفارغة بين المساكن، بعدما جرى تكبير مساحاتها، وما إذا كان يمكن فرض بعض المرونة في البناء، فرد أن البناء يطال مدينة مهدمة يريد سكانها العودة اليها، ولا يمكن انتظار الوقت من أجل البحث في كيفية توزيع المساحات.

وسألت المهندسة هلا علم الدين التي كانت ضمن مجموعة مهندسي الأميركية، لماذا لم يُعتمد التلاصق بين المنازل ما دامت المدينة قديمة، من أجل ترك مساحات عامة؟

وتقول الحارثي إنه لا يمكن ترك مسألة التحكم بمساحة البناء لصاحب الملك، ويجب على المكتب الفني الحفاظ عليه.

النظري يخالف الواقع

إلا أن شرف الدين أوضح أنه من أجل فرض عملية التلاصق وترك مساحات بين المباني، وضع المكتب مسألة إقامة الحدائق شرطاً في البناء، لكن ذلك كان أمرا نظريا، »على الأرض وجدنا مثلا عقارا تبلغ مساحته ألف متر مربع، يملكه خمسة عشر شخصا، يريد كل منهم عقاره، كما وجدنا عقارا مساحته مئتان وخمسون مترا مربعا، أراد صاحبه بناء منزل على كامل مساحته، فأوضحنا له أن المكتب يوافق على البناء بالمساحة نفسها لكن على طابقين«.

وأوضح شرف الدين أنه لا يستطيع تصميم المنازل، وعندما وافق على تولي مسؤولية المكتب الفني، قدر أنه لو استطاع تطبيق ما نسبته أربعين في المئة من المخطط له فسيكون ذلك جيدا.

ثم أردف أنه يشرف على بناء مدينة حدودية سوف تسعى إسرائيل للدخول إليها مرة جديدة، عاجلا أم آجلا، وهو قد واجه معضلتين في عملية البناء: الأولى عسكرية، والثانية عقارية وهي أن كل صاحب ملك يريد البناء في ملكه.

ويرد المهندس اسماعيل الشيخ حسن وهو من جمعية »صامدون« على كلام شرف الدين معتبرا أن »وجهة نظره عمومية وليست وجهة نظر تتعامل مع حالات خاصة«.

ويوضح المهندس موسى شمس الدين وهو من المشاركين في نقاش كيفية إعمار بنت جبيل منذ بدايتها أنه لا مناخ ثقافيا يجعل كل الناس مدركين لأهمية الحيز العمراني في المدينة القديمة، كما لا تمويل كاملا لمشروع ترميم المنازل الحجرية، ولا نمط صارما من السلطة يحدد ما هو مطلوب في عملية البناء.

إلا أن علم الدين تشدد على أن الحفاظ على النسيج الاجتماعي هو من أهم مقومات عملية البناء، وكان يجب اعتماد معايير بيئية تساعد في بقاء ذلك النسيج مثل الضوء والفراغ.

ويسأل اسماعيل الشيخ حسن ما إذا كان المكتب الفني يملك صلاحية التدخل في عامل الاستثمار، موضحا أنه يشارك في تصميم المنازل في مخيم نهر البارد حيث هناك ألفا مبنى، لكن لا ملكية للأراضي.

وعلى الرغم من ذلك جرى التوصل إلى نظام عام يمكن من خلاله تصميم المنازل.

وقد انتهى النقاش إلى إبداء كل من مهندسي الأميركية ومسؤولة قسم التراث في الجامعة اللبنانية في طرابلس المهندسة ياسمين معكرون الاستعداد لتوجيه عملية ترميم المنازل الحجر الباقية وعددها يقارب مئة وأربعة منازل فقط، بالإضافة إلى اتفاق الحارثي مع شرف الدين على رصف ثلاث ساحات عامة ما زالت فارغة، بالحجارة المهدمة.

تعليقات: