رحيل حسين ماضي.. روح الشرق الزخرفية ووثبة الحداثة الغربية


رحل الفنان اللبناني المخضرم، أبن بلدة شبعا حسين ماضي، وهو رسام ونحات ونقاش و"لاعب أشكال"، وأحد أشهر الفنانين في الشرق الأوسط والعالم العربي، عاصر أكثر من جيل، وكان الفن بالنسبة إليه نوعاً من حياة.... قالت الناقدة زينات بيطار بأنه في "تجربته التشكيلية تستفيق روح الشرق الزخرفية الأصيلة لتتلقف وثبة الحداثة الغربية، وتطوعها بمهارة الحاذق ورفعة العارف".

وقال الشاعر عباس بيضون "ماضي بحق لاعب أشكال بقدر ما هو صانع أشكال، إنه أيضاً في نقطة التوتر بين الإرادة والحرية فماضي لا يصنع أبجديته لكنه أيضاً يصنع عالمه الذي يملك في أحيان ما وجوداً فيزيائياً. انه لا يعود دائماً إلى وحداته البسيطة فحسب ولكنه يعود أيضاً إلى موضوعاته. له القدرة على ان يقضي العمر كله بين حيواناته الأثيرة ونباتاته الأثيرة ونسائه الأثيرات وداخلياته الأثيرة أيضاً". وعمل ماضي رقيق وساخر في الوقت ذاته، ويدلّ بحسب الناقد جوزف طرّاب "على الفهم البديهي العميق للتقاليد الشرقية الفنية والروحية"، ويلمح طرّاب إلى أن أعمال ماضي لا ترتبط بالتقليد أو إعادة الانتاج أو النقل، ولكنها تبدأ باستيعاب روح القوانين التي تحكم حضارة الشرق، ومن ثم تخلق أشكالا جديدة حيّة وديناميكية.

عايش حسين ماضي وعاصر ظهور تيارات فنّية حداثية عدة في الخمسينيات والستينيات في بيروت وروما وباريس، وتحمل أعماله في مجالات الرسم والنحت والطباعة الفنية أبعاداً روحانية وفلسفية، وهو تميّز بألوانه الخاصة والفرحة، وبخطوطه المنكسرة والمنحنية والانسيابية بشكل دقيق، بعض لوحاته كما لو أنها رسمت بالقص، وضربات فرشاته إيمائية جريئة وتنبض بإيقاع راقص، كان على الدوام مسحوراً بأشكال الطيور، ربما توحي له دينامية أجنحتها بهذه القوة الخلاقة، التي يرى من خلالها العالم بعيني الفنان التشكيلي. يقول بعض النقاد إنه جمع بين حداثة بيكاسو في تحوير واختزال الأشكال والأحجام وزخرفة ماتيس الشرقية الأصول... ولكن ماضي كان يغضب عندما تتم مقارنة أعماله بأعمال هذين الفنانين، بل ويثور على موضوع التأثيرات الفنّية، قائلاً: "الفنان يتأثر بكل شيء، وهو إلهام ووحي إلهي، شئنا أم أبينا، الخالق الأكبر هو الذي يمنح الأعمال التشكيلية العظيمة قيمتها وجماليتها. كل شيء من الخالق. أنا أعمل ضمن قواعد الطبيعة وما توحيه لي، وليس ما أتأثر به من الفنانين".

ولد حسين ماضي في بلدة شبعا الجنوبية الحدودية في 4 شباط العام 1938. والده علي ماضي كان عسكريًا في قوى الأمن الداخلي، ما اضطر العائلة مرات إلى الانتقال من منطقة لبنانية إلى أخرى، وهكذا اختزن ماضي في ذاكرته ومخيّلته الكثير من جمال طبيعة، بل قال "الطبيعة معلمتي"، له فلسفته ونظرته الخاصتين، ويقول في هذا الإطار "جميع الناس يرون الطبيعة، ولكن كثيرون منهم لا يتقنون قراءتها ولا يتمكنون من الدخول إلى معاني أشيائها، لأن الله خلقها قبل الإنسان. إنها مبدأ هندسي حسابي، وكل شيء في الكون مرسوم بالخطين، المستقيم والمنحني، ومبدأ التكوين، ثابت لا يتغير على مرّ الزمن". ويعتبر الناقد فاروق يوسف "أن شغف حسين ماضي بالطبيعة جعله يتخطى مرحلة القرب منها ليقيم في قلبها ويتلمس الطريق إلى جوهرها. إنه يرسم وينحت لا بإلهام منها بل كما لو أنه يؤدي عملها". وأكثر ما انطبع في نفسه هو تلك النزهات البرّية التي كان يقوم بها برفقة "معلمه" جده موسى ماضي في منطقة شبعا، أحبّ مشاهدته وهو يتوجه إلى الحقول للقيام بأعماله اليومية... يشرح له خصائص كل ما كان يشاهده في الطبيعة من أشجار وأزهار وفواكه...

حمل حسين ماضي إرث الطبيعة معه في ترحاله وتنقله، وقد ترك ضيعته ليكمل تعليمه المتوسط والثانوي في مدينة النبطية، وكان أهله غير راضين عن إضاعته الوقت من منظورهم في ملء دفاتر الرسم بالرسومات عوضاً عن الاهتمام بالمدرسة وبمستقبله. ثم انتقل إلى بيروت في الخمسينيات ليدرس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة "ألبا"، التي كانت آنذاك في بناية العازارية في وسط بيروت، كانت حاجته إلى المال تدفعه للرسم على قصاصات الورق التي يرميها الطلاب المترفون والأغنياء في الأكاديمية. فيتلقفها ليرسم على قفاها (أي على الجهة الأخرى منها). أنهى دراسته في "الألبا" عام 1962. وعمل في الصحافة في فن الكاريكاتور في عام 1963، ثم سافر إلى بغداد ليعمل فن التصميم والرسم الإيضاحي. عرف في العراق على فنون بلاد ما بين النهرين من خلال المتحف وزيارة بعض المدن الأثرية والتاريخية ومنها سامراء، في كانون الأول من العام 1963، نال منحة من وزارة الثقافة، وسافر إلى روما وانتسب إلى أكاديمية الفنون "Faculty of Arts" ودرس فيها أصول الرسم والنحت والموزاييك والفريسك. ذُهل ماضي بروما النابضة بالحياة والحيوية -والتي مثّلت انعكاسًا لفنّه الحي الذي كان يُبدعه. كما أنّه تأثّر بشدة بالفن والهندسة المعمارية في إيطاليا، واستوحى إلهامه من الأشكال والأساليب الفنّية التي وجدها في اللوحات الجدارية والفسيفساء القديمة والنحت البرونزي...

يقول ماضي في حوار مع الروائي شاكر نوري: "إيطاليا صقلت ثقافتي الفنية. لم أدرس هناك، ولم أتابع أية مدرسة أكاديمية أو أنكب على دراسة كتب الفن، بل كنت أتعلّم وأكتسب من التردّد على الغاليريهات والمتاحف، لكي أربي رؤيتي البصرية. وتعلّمت أيضاً كيف أتذوق الموسيقى والأوبرا والمسرح، إضافة إلى ما قدمته لي تجربتي في مقابلة الفنانين والتحاور معهم"... يضيف: "واكتشفت روما، حيث بقيت فيها نحو عشرين سنة، كما تعرّفت إلى روح تلك المدينة، وإلى أجيال من الفنانين والمهندسين والبنّائين الذين بنوا مدينة الحضارة تلك. صغت علاقات مع الشوارع والساحات والنصب والتماثيل والمتاحف والكاتدرائيات. وتواصلت مع الناس، وتعمقت معها في معرفة مفاهيم السلام، وطبعتني تلك السكينة هناك، وأخذني حبّ الشعب الإيطالي للحياة، وطبعاً الإنسان الذي يحب الحياة هو حتماً ينتمي إلى حضارة"...

كان يدرس الفن ويرسم في الشوارع والمقاهي والكنائس ويسافر إلى الريف والمدن الإيطالية الأخرى كفلورنسا وسينيا والبندقية ليرسم المناظر الطبيعية وفن العمارة والناس والنبات والحيوان وكل ما تقع عليه عيناه، ثم يعود بها إلى روما ليبيعها ويكمل دراسته بثمنها. باع في إيطاليا المئات من أعماله التي غطت مساحة زمنية مزدهرة من عمره الفني، وتلك الأعمال كان أشبه بالضائعة، لكن القيّم الفني عبد القادري أصدر كتاباً عنها وأجرى حوار استثنائيا مع حسين ماضي عن مرحلة روما (1964-1970) يقول فيه "في أحد أحياء روما المكتظة القريبة من أكاديمية الفنون، يجلس فنانٌ شاب في مقهى "بار العرب" كما كان يحلو لرواده من الفنانين تسميته. عند المغيب، ينتظره وكما في كلّ يوم فنجان القهوة الإيطاليّة. يمسك بكرّاسٍ من أوراق بيضاء، ويدير ظهره لجدارية كبيرة تطالع الزائرين، يخط أشكالاً مبهمة، خطوطاً منحنية وأخرى مستقيمة، مذيّلاً هامش الصفحة بملاحظات دقيقة. يعود إلى محترفه ليناظِر لوحة نفّذها بالأمس على عجلٍ لمشهدٍ طبيعي عند تخوم العاصمة الإيطاليّة الساحرة، يتذكّر اللحظة يبتسم ويقلب اللوحة. في المحترف أسطحٌ بيضاء كثيرة في انتظاره، يلتقط واحداً منها ويباشر رسم عصافيره وشخوصه، وربّما نفسه. كلها لها الشكل نفسه. ربما هو نفسه العصفور، ورقة شجر الصفصاف الإيطاليّة أو ذاك الشيء القابع بين الشيء وظلّه".

فتحت روما أمام حسين ماضي أبواب التعرف على الحضارات الشرقية. فهو بعد عام من وصوله زاره أحد الفنانين الإيطاليين الكبار في محترفه، واطلع على أعماله، وحين همّ بالحديث عن فنه قال له "ويحك ماذا تفعل في بلادنا، فبلادك مهد الفن والحضارات الأصيلة، عد إلى ينابيعك وأبق ذاتك". دفعته هذه النصيحة لدراسة التراث الحضاري المشرقي. وهناك اختار موضوع أطروحته للدراسات العليا "منشأ وتطور الخط العربي، الخط العربي فن قائم بذاته مع صور إيضاحية". ونال عليها درجة 29 من 30 / ممتاز. كان ذلك عام 1968. ورغم أن فنانين كباراً اثروا فيه وفي توجهه التقني، إلا أنّه اتجه أكثر نحو اكتشاف جوهر التراث العربي الاسلامي، ليبني منه لوحته وخطوطه وألوانه وزخرفاته وتنميقاته.

وفي إشارة إلى تاريخ الفن الكلاسيكي الذي أسر مُخيلة الفنان خلال إقامته الممتدة في إيطاليا، كان للشكل الأنثوي حضور متكرر في أعمال ماضي، متجسدًا في صورة امرأة مستلقية، وغالبًا ما تكون عارية، قارب الدكتور علي العلي في كتابه "الأنثى نواة الفن الأول، وقوعات في تجارب تشكيلية لبنانية" عالم ماضي، من خلال ما صارح نفسه به مراراً حين قال: "أحبّ النساء، وحبي لهنّ يدفعني إلى رسمهنّ وتلوين أجسادهنّ ووجوههنّ على القماشة. كذلك أشتغل على جسد المرأة نحتاً، وفي ذلك متعة كبيرة لي، فمعرفة النسب والمقاييس الجمالية لجسد المرأة هي الحافز الأساسي في هذه المغامرة الفنية الممتعة". وتقول زينات بيطار "نساء حسين ماضي قويات الحضور، لهن شخصيتهن الوجودية والتأملية، غريبات، دائمًا يوحين بالوحدة والعزلة أو الفرادة، حتى لو كن في مشهدية ثنائية أو جماعية، ملامح وجوههن اصطلاحية لا تتعدى خطين مستقيمين للعين، يتجاوران أو يتقاطعان مع خطين للأنف وخطين متعرجين لإبراز الفم المكتنز الشفاه. هذا الوجه المختزل والمحور يندرج تقريبًا على مجمل وجوه نساء حسين ماضي، المتشابهات في ملامح الوجه المختصرة والأرداف العريضة والصدور العارمة، والسيقان الملتفة، والأحذية ذات الكعب العالي (أحيانًا كثيرة تزيّنها أربطة أو جزمة عالية حتى الركبة)" تضيف "وبما أنه لا يطلق تسميات على لوحاته، فإن نساءه يبقين غامضات، استثنائيات وعصيات على الفهم والقبول من المجتمع. إنهن المتحررات من كل الموروث الشرقي في أدوارهن ووظائفهن (العارضات والعاريات والسابحات والعازفات والمدخنات للنرجيلة والفارسات (اللواتي يمتطين الخيل، وراكبات الدراجات)، لكن حسين ماضي أعاد هذه الصورة الأيقونية الجديدة أو المودرن للمرأة، إلى إطارها الشرقي الوثير بزخارفه النباتية والهندسية، التي تملأ الأرض والمقاعد والستائر والوسادات التي يتكئن عليها، تحيط بهن كل أدوات الزينة الشرقية من زهريات وطنافس وطاولات وآلات موسيقية كالعود بشكل أساسي وعصافيره الأسطورية السوداء المنتشرة في أرجاء الغرفة، وغالبًا ما يضع نساء لوحاته في إطار محترفه ومحتوياته".

أقام الفنان منذ بداية ستينيات القرن الماضي ما يزيد على ستين معرضا فردياً، شارك في معارض دولية، منها بينالي الإسكندرية؛ وبينالي القاهرة الدولي؛ والبينالي الدولي، ساو باولو. أعماله مقتناة من مؤسسات منها المتحف البريطاني؛ والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة؛ ومؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة؛ ومؤسسة رمزي وسعيدة دلول للفنون ومتحف سرسق، ومعهد العالَم العربي، باريس؛ كما عرض أعماله في متحف أوينو في طوكيو، وكذلك في متحف الشارقة.

حصل العام 1965على الجائزة الأولى في الرسم من متحف سرسق في بيروت، وفي عام 1968 حصل على الجائزة الأولى في النحت من المركز الثقافي الإيطالي في بيروت، كما حصل في عام 1974 على الجائزة الأولى في فن الغرافيك من مدينة ليتشي، إيطاليا. إضافة إلى تقليده وسام فارس نجمة التضامن الإيطالي من قبل الحكومة الإيطالية في العام 2003.










تعليقات: