المجازر والاغتصابات التي ارتكبتها إسرائيل في غزة 1956...


المذابح الإسرائيلية في غزة اليوم ليست إلا تكراراً واسع النطاق لما لم تتوقف إسرائيل عن ارتكابه منذ وطأت أقدام جنودها أرض غزة. ولم يكن ذلك عند احتلال عزة والضفة الغربية في حزيران 1967، وإنما في 1956 عندما احتلت إسرائيل غزة للمرة الأولى، ولمدة أشهر، في سياق العدوان الثلاثي على مصر. لكن كما العادة منذ 1948، ترافقت المجازر الإسرائيلية مع النكران وإخفاء الوثائق والحقائق، ومنع الوصول إليها وتداولها، وذلك لإشاعة نلك الأكذوبة عن "أخلاقية الجيش الإسرائيلي".

عن تلك المجازر الأولى التي ارتكبتها إسرائيل في غزة عندما احتلتها في 1956، وعن إخفاء حقائق تلك المجازر، كتب المؤرخ الإسرائيلي آدم راز، مقالاً نشرته صحيفة "هآرتس" قبل عامين، في 4 تشرين الثاني 2021، وهنا ترجمة عربية له نشرها الباحث اللبناني مروان أبي سمرا في صفحته الفايسبوكية (رابط المقال بالإنكليزية)

("رواية من العام 1956 تصف عمليات الذبح والاغتصاب التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة. هل هذا صحيح؟

قصة قصيرة نشرت بعد حملة سيناء وصفت العنف المروع الذي ارتكبه جنود جيش الدفاع الإسرائيلي ضد سكان غزة. إلى أي مدى كان الخيال بعيداً عن الحقيقة؟"

آدم راز

هآرتس 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2021)

_____________________


في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1956، بعد أسابيع قليلة من غزو قطاع غزة خلال حملة سيناء، ومباشرة بعد إنشاء الحكم العسكري الإسرائيلي قصير الأمد هناك، نشر الكاتب ماتي مجيد قصة قصيرة في صحيفة لاميرهاف اليومية بعنوان "النهاية المريرة للسيد D". صور مجد في قصته أفعال الحاكم العسكري المسمى د.، الذي حكم إحدى مدن غزة، وأعمال العنف والاغتصاب والقتل التي عمت المدينة المحتلة تحت رعاية الجيش الإسرائيلي.

بقلم حاد، وفي نقد غير مألوف في مشهد الأدب العبري في ذلك الوقت، أعلن مجد أن الاحتلال الإسرائيلي وحكمه العسكري هو الذي تسبب في الفساد الأخلاقي للحاكم د. ومرؤوسيه. الأعمال الأكثر شهرة التي تنتقد حرب الاستقلال - مثل "خربة خيزة" بقلم س. يزهار، و"الوجه الآخر للعملة" لأوري أفنيري - باهتة مقارنة بأوصاف مجيد الحية والوحشية. فلا عجب إذن أن يتم التغاضي عن أعماله وعدم مناقشتها في الأدبيات الواسعة التي نشرت على مر السنين حول الحملة. حالة النسيان هذه لا تتعلق فقط بهذه القصة بالذات، بل تنطبق أيضًا بشكل عام على الوعي العام بجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل خلال حملة سيناء، المعروفة أيضًا باسم عملية قادش.

وكانت الأخيرة عبارة عن حرب قصيرة شنتها إسرائيل وبريطانيا وفرنسا ضد مصر، والتي تضمنت غزو الجيش الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء، وجهود هاتين الدولتين الأوروبيتين للاستيلاء على قناة السويس بعد تأميمها من قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وفي نهاية المطاف، تراجعت بريطانيا وفرنسا وأخلت إسرائيل الأراضي التي استولت عليها.

إن حقيقة أن الأدب، مثل قصة مجيد، قد تم نسيانه بشكل أساسي، تعززت من خلال الرقابة الصارمة المفروضة على التوثيق التاريخي المتعلق بجرائم الحرب التي ترتكبها دولة إسرائيل منذ نشأتها وحتى يومنا هذا.

الفساد المتزايد للحاكم د. هو المحور الذي يحرك الحبكة في هذه القصة. وفي مركزها موافقته على أعمال الاغتصاب والمذابح التي ارتكبها جنود جيش الدفاع الإسرائيلي. تبدأ القصة بـ"فتاة داكنة البشرة، عارية حتى الخصر" تستقبل مختلف الضيوف في منزل الوالي، الذي بدوره يقدمها لكل ضيف محترم... الضيف]، يشعر بالخجل قليلاً في البداية، لكنه يعتاد بعد ذلك على الفكرة... يعتاد الجميع عليها. إن اغتصاب جنود جيش الدفاع الإسرائيلي لنساء غزة يتكرر، ويقول أحد الجنود لصديقه: "كان ينبغي أن ترى ما كان يحدث هنا الليلة الماضية... هؤلاء العرب القذرون، بعدما أخذنا نسائهم للعمل، بدأوا في أعمال الشغب. إذاً، ما الذي فعلناه؟ اقتدنا بعض النساء، الأصغر سناً، إلى أحد المنازل، وهددنا الرجال بأنهم إذا لم يتوقفوا عن أعمال الشغب سنغتصبهن جميعا أمام عيونهم... هل تعتقدون أنه لم يكن لذلك أي تأثير؟ بالطبع كان له التأثير المطلوب... لكن ذلك لم يمنعنا من تنفيذ ما وعدنا به، رغم أنهم أوقفوا أعمال الشغب.. كنا نحتفظ بهن هناك كل ليلة".

وبرر المحافظ تصرفات الجنود بالقول إنهم "لم يستخدموا القوة من الناحية التقنية. لقد أخبروا النساء فقط في بداية الفعل – كما أخبروني بالفعل – أنهن إذا ما قاومن فسوف يتم ذبحهن جميعاً. سيكون الأمر أكثر ملاءمة – قال لي أحد الجنود بسذاجة – أن يقوم ثلاثة آخرون بالإمساك بالمرأة من ذراعيها وساقيها". وقال الجنود إن الحاكم لم يهتم "إذا أصبحنا متوحشين".

وفي لحظة من الصراحة، أوضح المحافظ لأحد محاوريه أنه يريد منه أن يفهم "كيف يمكن لرجل مثلي أن يسقط إلى هذا الحد من السفالة حتى يأمر جنوده بإطلاق النار على المدنيين العزل". ويوضح مجيد، من خلال شخصية المحافظ، "أنه لم تحدث هنا أشياء أكثر خطورة مما حدث في أي جزء آخر من المنطقة المحتلة. على العكس تماماً. وحتى لو وقعت مذبحة هنا الليلة – فلن نكون في الطليعة… لقد حدث هذا بالفعل خلال الأسبوع الأول، وقُتل هناك العشرات من السكان العزل".

أثار نشر القصة ضجة. رد يتسحاق جفيرتز، ضابط الأركان العامة في جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة في ذلك الوقت، في "لامرهاف" بأن الرواية خلقت "مزاجًا صعبًا بين العاملين في الإدارة (العسكرية)"، لأن القصة "جاءت لوصف الوضع كما لو كان قد حدث بالفعل في مكان في الأراضي المحتلة". وبعد الاستفسار من الصحيفة، أوضح المحررون أن نشر العمل على دفعتين "تم دون دراسة كافية". كما ذكر مجيد ردًا على ذلك أن القصة خيالية، رغم أنه أضاف أنه "في كل منطقة من مجالات الإدارة العسكرية هناك خطر حدوث عملية مشابهة لتلك التي مر بها الأبطال". لكنه لم يذكر أنه بعد نشر القصة تعرض لهجوم من قبل مجهولين وتعرض للضرب المبرح، كما قال لجاره المؤرخ ييغال فاغنر لاحقا.

على حد علمي، كانت المؤرخة الراحلة إيال كفكافي أول من ذكر قصة مجيد في بضعة أسطر في كتابها الصادر العام 1994 (بالعبرية) عن حملة سيناء ("حرب اختيارية: إلى سيناء والعودة، 1956-1957”). وقالت كفكافي إنه ربما لأنه عمل أدبي، "لم يتم تطبيق أي رقابة عسكرية" عليه. وأضافت أنه ينبغي الافتراض أنه "لم تكن هناك فجوة كبيرة بين الخيال والواقع".

جرائم حرب

اليوم، بعد 65 عامًا من الأحداث المذكورة في قصة مجيد، ما زالت العقبات التي تضعها الدولة أمام الباحثين المهتمين بالعثور على توثيق تاريخي لجرائم الحرب المرتكبة خلال الحكم العسكري الإسرائيلي القصير في غزة، من نوفمبر 1956 إلى آذار/مارس 1957، كبيرة.

لم تُذكر جرائم الحرب التي ارتكبها جيش الدفاع الإسرائيلي خلال حملة سيناء إلا قليلاً في الماضي، وكان ذلك فقط في سياق معاملة أسرى الحرب. وفي منتصف التسعينيات، اعترف أرييه بيرو، الذي كان في العام 1956 قائدًا للكتيبة 890 من لواء المظليين، أنه خلال العملية أُعدم أسرى حرب مصريين. وفي مقابلة مع صحيفة يديعوت يروشلايم المحلية، العام 1995، قال: "لقد أطلقت النار على سجناء عند معبر ميتلا… لم يكن لدي الوقت للتعامل مع السجناء. أولئك الذين أمكننا القضاء عليهم، قضينا عليهم". أثارت تصريحاته ضجة، وبعد سنوات طالبت مصر إسرائيل بتشكيل لجنة تحقيق للتحقيق في "جرائم الحرب التي ارتكبها جنود جيش الدفاع الإسرائيلي ضد الأسرى المصريين" خلال عملية 1956-1957. واستندت السلطات المصرية في ادعاءاتها، من بين مصادر أخرى، إلى مواد منشورة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وخاصة شهادة بيرو.

لماذا، على الرغم من الشائعات العديدة التي انتشرت في العقود التي انقضت منذ الاحتلال الإسرائيلي الأول لغزة، لا نملك سوى القليل من السجلات التاريخية الثمينة عن ذلك؟ تكمن إحدى الإجابات في وثيقة السياسة الداخلية التي أعدها أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي ومؤسسة الدفاع في العام 1988 - "وثيقة المواضيع"، التي وضعت سياسة التصنيف لكل من أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي وأرشيف دولة إسرائيل، مع تحديد "محاور حساسية أمنية وسياسية وشخصية". لقد مرت هذه الوثيقة بالعديد من التطبيقات على مر السنين، لكن روحها لا تزال واضحة، وتفسّر سبب عرقلة الدولة لأي جهود للوصول إلى حقيقة الأحداث الدامية التي جرت بعد احتلال قطاع غزة، واستمرارها في التكتم معلومات تاريخية أخرى.


الاغتصاب، النهب، السلب

على سبيل المثال، تتناول المادة 3 من الوثيقة "المواد التي قد تضر بصورة الجيش الإسرائيلي [وتصويره] كجيش احتلال مجرد من الأسس الأخلاقية". وتحذر هذه المادة من نشر معلومات حول "السلوك العنيف ضد السكان العرب والأعمال الوحشية (القتل، القتل الذي لا يقتضيه القتال، الاغتصاب، النهب، السلب"). تشير المادة 4 إلى "المواد المتعلقة بالنزاع اليهودي العربي والتي قد تضر بأمن الدولة حتى اليوم". ومن الأمثلة الواردة في الوثيقة: "السلوك العنيف ضد السجناء المخالف لاتفاقية جنيف (القتل)؛ عدم أخذ للأعلام البيضاء بعين الاعتبار". وعندما تكون هذه هي المعايير التي تمنع رفع السرية عن الوثائق العسكرية والسياسية - فلا عجب أنه من الصعب جدًا تتبع الأحداث التاريخية.

ومع ذلك، فإن شهادات قادة الجيش وضباطه تخرج من الظلام بين الحين والآخر. على سبيل المثال، تذكر شاؤول جيفولي، قائد الكتيبة 128 من لواء مشاة يفتاح خلال حملة سيناء، والذي وصل إلى رتبة عميد وأصبح كبير ضباط التعليم في الجيش الإسرائيلي، في سيرته الذاتية التي نشرها العام 2014 بعنوان "قصص حياتي" التبادلات التالية مع قادة كتيبة أخرى: "عندما انتهت الحرب، سألني بيني، قائد الكتيبة 13، عما إذا كنت قد تلقيت الأمر بإطلاق النار على السجناء. أجبته بالإيجاب. "ما الذي فعلته؟" سألني بيني. أخبرته أن نيتي كانت إثارة الخوف والذعر من دون فتح النار على السجناء... "هل تلقيت هذا الأمر أن أيضأ؟" سألت بيني. "نعم! وأبلغتهم على الفور أنني لم أنفذ الأمر".

ما يبرز من هذه المحادثة ليس حقيقة أن القادة رفضوا الأمر، بل أن الأمر بإعدام السجناء صدر في المقام الأول.


كلمات ديان

إن حقيقة الأمر الذي تم إصداره تؤكده شهادة رئيس الأركان آنذاك موشيه ديان. وعندما مثل أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست في 23 نوفمبر 1956، بعد أيام قليلة من انتهاء القتال، شهد بأن معاملة أسرى الحرب تختلف من وحدة إلى أخرى. وقال إنه يعرف حالات قام فيها الجنود بصف السجناء وقتلهم، بدلاً من احتجازهم. لكنه لم يكشف للجنة أي معلومات تتعلق بإجراءات قانونية اتخذت ضد الجنود المذكورين، وبالفعل لا وجود لأي وثيقة متعلقة بملاحقة أي جندي بتهمة قتل أسرى حرب. ومن يريد أن يقرأ كلمات ديان الفعلية لا يستطيع أن يفعل ذلك: فالمحاضر الكاملة للجنة لم تعد محفوظة في أرشيفات الدولة. ولا تظهر تصريحات ديان إلا في ملحق أضافه الرسام الأميركي جو ساكو إلى روايته المصورة الصادرة العام 2009 بعنوان "هوامش في غزة". يمكنك قراءة كلمات رئيس الأركان الإسرائيلي العام 1956 باللغة الإنكليزية، ولكن باللغة العبرية - لا.

ساكو، مؤلف العديد من الروايات المصورة المتميزة، تناول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مرات عديدة. ورغم أنه غير معروف جيدًا في إسرائيل، إلا أن العمل الذي كتبه والذي يقع في 432 صفحة عن احتلال غزة العام 1956 يستحق القراءة، لأنه يعرض قصة مذبحتين مروعتين حدثتا هناك.


"هوامش في غزة"

إن قراءة كتاب "هوامش في غزة" تزيد من حدة كلمات ماتي مجيد، التي كتبها قبل عقود من الزمن. هل يبني مجيد، المولود العام 1923، وهو مقاتل سابق في البلماح ورجل يعرف شخصيا العديد من الجنود المشاركين في حملة سيناء، قصته على أحداث حقيقية؟ وإذا حدثت مثل هذه الأمور المروعة، فما هو نطاقها؟

بالنسبة للجمهور اليهودي في إسرائيل، فإن الأحداث الدموية التي وقعت في خان يونس في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، وفي مدينة رفح بعد تسعة أيام، تكاد تكون مجهولة. أما الذاكرة الفلسطينية فهي مختلفة تماماً. وفي كل عام تقام فعاليات تذكارية في هاتين المدينتين الغزاويتين، وهناك العديد من الصفحات الإلكترونية المخصصة لإحياء ذكرى الضحايا. وخلال إحدى الاحتفالات التذكارية التي أقيمت مؤخراً، طالب سليم السقا، وزير العدل الفلسطيني السابق ورئيس اللجنة التي توثق أحداث 1956-1957، بإعادة التحقيق في هذه الأحداث ومحاكمة المسؤولين عنها. ومن جانبه، وجه علاء الدين البطة، رئيس بلدية خان يونس جنوب قطاع غزة، أصابع الاتهام إلى المنظمات الحقوقية والباحثين الذين لم يبذلوا جهدا كافيا للتحقيق في الأمر برمته.


مجزرة خان يونس

وبحسب الرواية الفلسطينية المقبولة، فقد قُتل في مجزرة خان يونس نحو 275 فلسطينياً، بينما قُتل في رفح نحو 111 شخصاً. ومع ذلك، بعد مراجعة المواد المتاحة للاطلاع عليها، تبدو هذه التقديرات مرتفعة، ولكن لا شك أن المدنيين قتلوا على يد القوات الإسرائيلية. وحتى في تلك الأيام، نُشرت بعض التقارير حول الأحداث من قبل مراسلين أجانب ومسؤولين في الأمم المتحدة، مما أدى إلى ظهور بعض المقالات في الصحافة في إسرائيل وفي جميع أنحاء العالم.

المعلومات الواردة من مصادر حكومية وعسكرية أجنبية حول الفظائع محدودة. إن الجزء الأكبر من الوثائق الموجودة في أرشيف الجيش الإسرائيلي – بما في ذلك تقرير التحقيق الذي أجراه الجيش حول الأحداث – يعتبر سرياً. وقد رُفضت الطعون المتكررة من جهتي لمراجعة الوثائق. كان من الممكن الوصول إلى بعض الوثائق في الماضي، ولكن أعيد تصنيفها بعد أن كتبت مراسلة صحيفة هآرتس، أميرة هاس، مقالاً موجزاً عن كتاب ساكو بعد وقت قصير من صدوره في عام 2009. وتعكس ندرة الوثائق المتاحة في أرشيف الدولة السياسة الرسمية التي اعتمدتها إسرائيل ووزارة الخارجية لأغراض الدبلوماسية الدولية (الدبلوماسية العامة).

ومن ناحية أخرى، فإن التوثيق الفلسطيني للأحداث الدموية في غزة يعتمد إلى حد كبير على الشهادات الشفهية التي جُمعتْ على مر السنين، ولكن موثوقيتها وجودتها تتباين. كما أن التوثيق الذي قام به موظفو الأمم المتحدة على الأرض، والذي جمعه معهد أكيفوت في نيويورك، يقدم لمحة عن بعض الأحداث التي أعقبت الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.

ورغم أن المعلومات المتوافرة حول الأحداث الدموية التي وقعت في خان يونس ضئيلة للغاية، إلا أن لدينا صورة أكثر اكتمالاً بعض الشيء عن الأحداث التي وقعت في رفح يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني. ووفقاً لوثيقة وزارة الخارجية، فقد جرت مظاهرات في تلك المدينة في اليوم السابق ضد الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الوضع. وتصاعدت حدة التوترات بسبب إعلان رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون في اليوم السابق أن الأمم المتحدة طالبت إسرائيل بإخلاء الأراضي المحتلة. وقالت وزارة الخارجية للسفارة الإسرائيلية في واشنطن إن "الجيش اضطر" لوقف المظاهرات “بالقوة”، وتطور الوضع “إلى حد إطلاق النار على الغوغاء (مقتل 30 عربيا). ولم يتم تقديم تفاصيل إضافية.

من السهل أن تكون "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" عندما يتم تصنيف الوثائق التي تثبت خلاف ذلك.


اعتقال

بعد يوم من المظاهرات الدامية، صدرت تعليمات للكتيبة 44 من اللواء 12 (لواء النقب)، تحت قيادة الجنرال دافيد (دادو) العازر، باعتقال الرجال المحليين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عامًا واحتجازهم في معسكر اعتقال مؤقت. كجزء من البحث عن الأسلحة. وتم تنفيذ عمليات مماثلة في أماكن أخرى من القطاع، وغالبًا ما انتهت مثل هذه الأنشطة دون احتكاك عنيف. ولكن في صباح يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني، فُرض حظر التجول على سكان رفح، وسرعان ما تدهورت الجهود المبذولة لجمع وسجن الرجال المحليين وتحولت إلى حمام دم. بحسب الرواية الإسرائيلية للأحداث، التي قُدمت، من بين أمور أخرى، في الشهادة التي قدمها أليعازر للضابط المكلف بالتحقيق في القضية (شهادته سرية حاليًا): "فتحت الوحدة النار على من حاولوا الهروب وعلى من لم يمتثلوا للأوامر، ما أدى إلى مقتل 30 مدنياً". كما قدر أن عدد القتلى لم يتجاوز 40. وقدم أحد سكان غزة، الذي أدلى بشهادته بعد أسبوعين أمام ممثلي الأمم المتحدة في مكان الحادث، رواية مختلفة: "عمليات القتل لا تتوقف: لقد أمسكوا بـ 2000 شخص، وأوقفوهم في مواجهة الحائط وأطلقوا النار عليهم".

وأفاد مسؤولو الأمم المتحدة على الأرض أن عدد القتلى في رفح يتوافق مع العدد الذي قدمته إسرائيل، لكنهم رسموا صورة مختلفة. على سبيل المثال، كتب العقيد روبرت بايارد، رئيس لجنة الهدنة المصرية الإسرائيلية المشتركة، أنه بعد سماع عدد من الروايات، "توصل إلى نتيجة مفادها أن معاملة المدنيين قاسية وغير عادلة، وأن عدداً كبيراً من الأشخاص قُتلوا بالرصاص بدم بارد دون سبب واضح. لقد ذكر بايارد العديد من الشائعات حول الفظائع، وبينما يمكن تجاهل معظمها، إلا أن بعضها صحيح بالتأكيد. وميز في تصريحاته بين التقارير التي نشرت في وسائل الإعلام العربية بأن إسرائيل "تذبح" المدنيين الفلسطينيين تحت ستار البحث عن مقاتلين مصريين - وما اعتبره الوضع الفعلي. وفي برقية أرسلها إلى مسؤولي الأمم المتحدة في نيويورك حول الأحداث في رفح، كتب: "في صباح يوم الثلاثاء، أُمر الإسرائيليون رجال البلدة بالخروج للفحص لكنهم رفضوا مغادرة منازلهم. وعندما انتقل الجنود الإسرائيليون من منزل إلى منزل لإخراجهم، بدأ البعض بالفرار. وفتحت النار عليهم".

ربما يكون من الأفضل تقييم حالة المزاج العام في غزة على أساس الرسالة التي أرسلها جندي من لواء جولاني إلى صديقته في 6 تشرين الثاني (نوفمبر)، أي اليوم التالي لانتهاء حملة سيناء، والتي يتم الاحتفاظ بها في أرشيف الجيش الإسرائيلي. وكتب: "العرب وحدهم هم المسؤولون عن كل هذا، وأنا أنتقم منهم في كل فرصة". "أنا لست راضياً عن عدد [الأشخاص] الذين قتلتهم بالفعل؛ لقد قتلنا المئات، لكن هذا ليس كافياً بالنسبة لي. وفي كل فرصة تسنح لي أنتقم منهم، والفرص لا تنقص، خاصة هذه الأيام وأنا بين آلاف العرب. إنهم تحت حظر التجول، وهذه فرصة عظيمة لفعل أي شيء نريده لهم. وأنا أفعل ذلك بالضبط، ولن أتوقف حتى أعود إلى المنزل، أقسم لك".

ولم تنشر وسائل الإعلام الإسرائيلية أي تقارير عن أحداث غزة لمدة أسبوعين تقريبًا بعد وقوعها. وكان الاستثناء النموذجي هو صحيفة "هعولام هزيه" التي لم تعد موجودة الآن، والتي أشارت فقط إلى المذبحة في رفح، وذكرت في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) أنه "بغباء لا مثيل له، اعتقد هذا الجهاز (الإدارة العسكرية) أن مثل هذا الحدث يمكن إغراقه في الصمت... الصمت الإسرائيلي بدا للعالم أجمع وكأنه تعبير عن شعور بالذنب... هذه هي الحقيقة. من سمع عنها؟ ولا حتى شخص واحد".

وبعد نشر المقال غير الموقّع، أثارت عضوة الكنيست إستر فيلينسكا (ماكي) موضوع المجازر في الكنيست. "لقد سمعت البلاد بأكملها عن هذه الأفعال وتحدثت عنها. ويشعر الجمهور الإسرائيلي بالخجل من هذه الأعمال ويريد أن تتوقف فوراً. لا ينبغي تبرير جرائم القتل هذه بالقول أنها حدثت أثناء الحرب. لقد ارتكبت هذه الأفعال بعد الاحتلال ضد السكان المسالمين".

وفي إشارة إلى أحداث رفح، قال رئيس الوزراء ووزير الدفاع بن غوريون ردا على فيلينسكا "إن بعض سكان القطاع انتهكوا حظر التجول وفتحوا النار على الجيش. وبعد إطلاق بضع طلقات في الهواء، اضطر جنودنا إلى إطلاق النار على مثيري الشغب؛ فقُتل 48 وأصيب عدد آخر. ولم يتم حتى ذكر الأحداث في خان يونس.


وفي أوائل شهر مارس/آذار 1957، انتهت الإدارة العسكرية الإسرائيلية في القطاع.

إن دوافع إخفاء توثيق أحداث خان يونس ورفح في تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، هي نفس الدوافع التي تمنع حتى يومنا هذا من الكشف عن التوثيق الكامل لمجزرة كفر قاسم التي وقعت أيضاً في تلك الأيام. الصمت المدوي لأرشيفات الدولة هو جزء من جهاز الإخفاء الذي يعمل على خلق صورة الجيش الإسرائيلي باعتباره مستنيرا. فمن السهل أن تكون "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" عندما يتم تصنيف الوثائق التي تثبت خلاف ذلك.

تعليقات: