الأبناء يدخلون المدرسة.. والآباء \"يفلسون\"


مع بداية العام الدراسي يعود كل شيء إلى مكانه الطبيعي. الكتب إلى الحقيبة، التلامذة إلى الصفوف، والأهل إلى الإستدانة والدفع. الهدوء يعود إلى البيت بكلفة باهظة جداً لا يعرفها إلا الأهل الذين توّجسوا طويلاً من هذا "الإستحقاق" الساقط كالمصيبة فوق رؤوسهم. العودة إلى المدارس هذه السنة تتزامن وموجة من التذمر والإعتراضات، ليس على غلاء الأقساط فحسب، بل أيضاً على غلاء الكتب والقرطاسية وما إلى ذلك، لكن لا أحد ينصت إلى إحتجاجات المواطن اللبناني الذي يتقن الشكوى ليعود ويرضخ للأمر الواقع من دون البحث عن حلول.

بداية السنة الدراسية محطة مثقلة بالمستحقات المتفاقمة عاماً بعد عام مع تأزم الوضع المعيشي. فعلى عتبة كل سنة تتجدّد معاناة معظم اللبنانيين في كيفية تأمين مدارس لائقة لأولادهم من دون أن يضطروا إلى إعلان إفلاسهم وإختصار حاجيات ضرورية. نعم، لقد أصبح همّ التعليم سبباً لتحديد النسل في لبنان. إذ غالباً ما نسمع عائلات لها ولد أو إثنان تردّد إنها ستكتفي بهذا القدر من الأولاد موضحة: "نريد أن نعلمهم وهذا مكلف جداً، نحنا هيك ومش ملحقين".

الهبات التي قدمتها المملكة العربية السعودية لجهة تسديدها اقساط التلامذة خففت كثيراً عن كاهل ذويهم، فيما يظل ذوو اقرانهم في المدارس الخاصة يرزحون تحت عبء الأقساط المرتفعة والقرطاسية الغالية والمطالب التي لا تنتهي، في ظل الوعود بإصلاح قطاع التربية والتعليم. اصلاحات لا تتعدى القرارات والإجراءات الآنية كلما علت وتيرة الإحتجاجات.

في لبنان صاحب المركز التربوي المرموق في محيطه، اصبح العلم حكراً على طبقات إجتماعية معيّنة لأن مجرد دفع القسط بدأ يعتبر "لوكساً" و"بريستيجاً" لا تبلغه فئات كثيرة أخرى. فمنذ أعوام والمدرسة الخاصة أصبحت لفئة خاصة، والمدرسة الرسمية للمهجّرين في زمن الحرب، ولـ"مهجّري" المدارس الخاصة في زمن السلم.

فهل يعقل أن يأتي يوم نترحّم فيه على أيام مدرسة تحت السنديانة، وعلى "ألبوم" مدرسي قديم إصفرّت صُوَره في ذاكرتنا؟ وهل أقساط المدارس إلى ارتفاع أم أن الوضع الإقتصادي السيئ للشعب يجعلها تبدو كذلك؟ وما عدد التلاميذ الذين سيقفون ـ بعد حين ـ على باب الإدارة لأن أهلهم لم يسدّدوا القسط؟ وكيف تتحمّل المدارس النفقات المتراكمة بحجة أن الأهل مفلسون؟؟؟

لم يكد الاولاد ينسون نغمة "يلَلا قوموا تأخرتو ع المدرسة"، التي تسحبهم من عزّ النوم، حتى عادت تتكرّر باكراً وباكراً جداً للإستعداد والتحضير: ورشة ثياب وفطور ومريول وحقيبة و"زوادة" وسباق مع "الأوتوكار". صبحيات ربات البيوت ستكون أهدأ: "ركوة" إثنتان، والتبضع أمتع: ساعة، ساعتان، وستسترخي النساء العاملات بعد عطلة كن يغتصبن فيها الوقت لتمضيته مع الأولاد.

أرباب العائلات يتلوون من الدفع، فالكتب في غلاء مستمر لأن أغلبها يتأثر بالدولار واليورو، هذا عدا عن ان كتباً تتغيّر كل عام حتى يبلغ سعر الواحد منها نحو ستين دولاراً ما يمنعهم من شرائها مستعملة، وعن هذا يقول أحد أولياء الأمور ساخراً: "ما عادت توّفي معهم عملية تبادل الكتب المستعملة، فكانوا أذكى منا".

أما لوازم القرطاسية فصارت تتطلب رصد موازنة خاصة بها، تصل أحياناً إلى مئتي ألف ليرة لبنانية، فهنا لا ينفع المستعمل ولا يباع. "90 في المئة سألوا هذه السنة عن الأسعار قبل أن يعدلوا ويشتروا شيئاً آخر، و10 في المئة إشتروا من دون سؤال" يقول صاحب إحدى المكتبات. كما راوحت أسعار الحقائب بين 20 ألفاً ومئة ألف ليرة، وأخرى سعرها بالدولار. أقلام "تتكمّش" بها دببة وقردة وأشكال وألوان يصل سعر بعضها إلى عشرة دولارات، والمبراة من دولار إلى أربعة دولارات حسب شكلها وحجمها، والممحاة من ألف ليرة إلى دولارين. حتى "المقلمة" أو حافظة الأقلام التي حافظت طيلة عقود على "كلاسيكيتها" أصبحت اسعارها كاوية تبعاً للون والحجم والماركة التي تصّر على إظهارها، فتبدأ أسعارها من 8 آلاف ليرة لتصل إلى 40 دولاراً. وراوحت أسعار الدفاتر من 3 آلاف ليرة إلى 15 ألف ليرة فهي أيضاً لها "ماركات" لا نستطيع تعدادها و"ما حدا أحسن من حدا"..

صاحب مكتبة أخرى في الحمرا يقول إنه لم يستورد كمية كبيرة من الكتب هذه السنة خوفاً من عدم تصريفها "إن طلب أحدهم كتاباً غالياً أؤمنه له في اليوم التالي على الطلب". حتى الكتاب الوطني إرتفعت أسعاره لأن كلفة الورق والحبر والطباعة أصبحت بالعملة الأجنبية. واللافت أن أسعار بعض كتب المرحلة الإبتدائية تخطت أسعار كتب المرحلة الثانوية و"من طلب العلى" أرق الليالي.

كذلك إعتلى الكتاب المستعمل "رفوف" الغلاء نكاية بالكتب الجديدة غير المرغوبة من البعض، وأصبح الواحد منها يباع بـ40 أو 50 ألف ليرة. "أرحم من الجديد" حسب سيدة فقدت صوابها، وأخرى تقول إنها لا تحتاج إلا كتاباً واحداً لأن أولادها إشتروا كتب زملائهم في المدرسة.

لكن المدرسة لا تعني كتباً وقرطاسية وقسطاً فقط، بل هناك أيضاً تكاليف نقليات كانت تراوح بين مئة ألف ليرة ومئة دولار بحسب المسافة في الشهر الواحد، ما يعني 900 ألف إضافية في العام. أما هذا العام ومع إرتفاع أسعار المحروقات بشكل هستيري عالمياً فقد أقرّت بعض المدارس وأعلنت عن زيادات هائلة في رسوم "الأوتوكار"، فيما يتكتمّ البعض الآخر عن الزيادة ويقول "مش عارفين بعد" تاركين ألأمر مفاجأة "غير سارة" للأهل بعد أن يكونوا قد سجلوا أولادهم وزادوا على فواتيرهم كلفة النقليات. هذا وقد إتخذ بعض الأهالي إحتياطات مسبقة لإحتمال إرتفاع أسعار المحروقات وزيادة الكلفة المحتملة على الفاتورة، وقرّروا التضحية بساعات الصباح الأولى من أجل توفير هذه النفقات.

دراسة و... طفر

في لبنان أكثر من 2698 مدرسة، 1361 منها رسمية، 370 مدرسة خاصة مجانية، 967 مدرسة خاصة. وتترك الحكومة لهذه الأخيرة حرية تحديد الأقساط المدرسية مع الأخذ في الإعتبار القوانين، والشروط الحكومية مثل القانون 515 الصادر في العام 1996 الذي يحدّد ما يشمله القسط من تعليم ونشاطات تربوية إلزامية وتأمين.

يبلغ القسط عن تلميذ واحد في مدرسة خاصة دينية نحو ثلاثة آلاف دولار والكتب نحو ثلاثمائة دولار، والقرطاسية نحو مئتي دولار، وملابس المدرسة اليومية والرياضية مئتي دولار أيضاً. من دون أن ننسى شراء بعض الكتب الضرورية التي تطلبها الإدارة والأساتذة لتطوير المستوى الثقافي للطالب ومستلزمات تطرأ طوال العام الدراسي، وكلفة النقل المدرسي (الأوتوكار) وبعض الملابس والأحذية الشتوية الضرورية لكل عام.

وفي عملية حسابية صغيرة لعائلة لها ولدان في مدرسة خاصة يكون مجموع ما عليها دفعه 3700 دولار زائد 3700 دولار أي 7400 دولار، وإن كان عدد الأولاد ثلاثة يتخطى المجموع الـ11 الف دولار. ولكن، حتى وإن تمكنّت هذه العائلة من الحصول على تسهيلات في الدفع تمتد على تسعة أشهر يكون عليها دفع مبلغ 822 شهرياً عن ولدين أو 1233 دولاراً شهرياً عن ثلاثة. فهل تتمتع كل العائلات اللبنانية بمداخيل على هذا القدر حتى تستطيع إقتطاع هذا المبلغ من مدحولها الشهري من أجل التحصيل العلمي؟ وهل يمكنها أن تأكل وتشرب وتلبس وتتعالج وتتدفأ وتدفع بقية الفواتير المنزلية الضرورية من هاتف وماء وكهرباء وضرائب من بقية الراتب المحترم؟؟؟

واكثر ما يسترعي الإنتباه التفاوت الخيالي بين الأقساط في المدارس الخاصة. ففي دراسة عن الأقساط المدرسية تبيّن أن القسط يمكن أن يصل في بعض مدارس لبنان إلى 13 مليون ليرة للتلميذ الواحد، وهي تتراوح بين نصف مليون ليرة و11.781 ليرة للتلميذ في مرحلة الحضانة والإبتدائية، وبين 750 ألف ليرة و12.568 ليرة للتلميذ في المرحلة المتوسطة، وبين مليون ليرة و13.045 ليرة للتلميذ في المرحلة الثانوية.

ويتوّزع التلامذة في لبنان على الشكل الآتي: 40.4 في المئة في القطاع العام، و59.6 في المئة في القطاع الخاص. أما في المرحلة الجامعية فيدرس في الجامعة اللبنانية 60 في المئة من مجمل الطلاب الجامعيين. وتساوي كلفة التلميذ ـ بحسب الإحصاءات ـ منذ ولادته وحتى حصوله على شهادة جامعية 96 ألف دولار أميركي، بينما تساوي كلفة التلميذ منذ ولادته وحتى حصوله على شهادة مهنية سش حوالي 76 الف دولار أميركي. هذا إذا لم نحتسب إمكان رسوبه لسنة أو أكثر.

عيون على الفاتورة

من الواضح هذا العام أن معظم المدارس الخاصة زادت أقساطها وتسعيرة بدل النقل "الأوتوكار" بسبب أسعار النفط المرتفعة عالمياً، كونها مادة حيوية لتدفئة المدارس وملء خزانات الباصات على ما يبرّر أصحابها ،علماً انه من المفروض أن القسط المدرسي منظم بالقانون الرقم 5151996 والذي تنصّ المادة الثالثة منه: "على كل مدرسة خاصة أن تقدّم إلى مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة، في مهلة لا تتعدّى آخر شهر كانون الثاني من كل سنة دراسية، نسخة عن موازنتها السنوية موقعة من مدير المدرسة ورئيس لجنة الأهل أو من مندوبي اللجنة في الهيئة المالية. وتضم الموازنة الرواتب والأجور وملحقاتها كمساهمة المدرسة في صندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية والتعويض العائلي والصندوق الوطني للضمان الإجتماعي وتعويض النقل. أما القسط المدرسي فيحدّد بقسمة مجموع النفقات على عدد التلامذة. أي أن القسط يتأثر بعدد التلامذة، فكلما إنخفض عددهم إرتفع. لذا فإن التسرّب الحاصل من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية البالغ سنوياً بين 10 و15 في المئة من عدد التلاميذ يؤثر سلباً في إرتفاع الأقساط، وهذا يعني باختصار بإن المدارس الخاصة الكبرى لا تخسر مادياً بسبب الضائقة المالية التي يعانيها الأهل بل تكتفي بأرباح أقلّ من ذي قبل.

بين الخاصة والرسمية

يقصد الأهل المدارس الخاصة أولاً للحفاظ على المستوى التربوي لأبنائهم على ما يقولون، لكن كم مدرسة في لبنان تستطيع تأمين هذا المستوى من دون أن تواكب التطوّر العلمي والتكنولوجي والتربوي والتجهيزات الإلكترونية والمعدّات المخبرية والرياضية "المسعّرة" بالدولار، من دون أن يؤثر ذلك في أقساطها؟ في هذا السياق تعتبر رئيسة إحدى المدارس الخاصة أن التطوّر التربوي يستلزم أيضاً إعداداً للمدّرسين ووجود إختصاصيين في علم النفس يهتمون بمتابعة أوضاع التلاميذ في المدرسة، وإختصاصيين في علم النفس التربوي ohcysp-seugogadep وموجّهين sruetneiro.

ويفضّل السكوت في هذه الحال عن المدارس الرسمية، التي لم تلحق في "عزّها" بالمدارس الخاصة، واليوم تتّسع الهوة وتكبر أكثر بين التعليم الرسمي والتعليم الخاص. و"الفضل" يعود إلى الدولة التي تبرز هذا الأمر بالعجز المادي، لكن الواقع أن الدولة تدفع كلفة التعليم الرسمي ثلاث مرات أكثر مما هي عليه في التعليم الخاص. والإهدار حاصل نتيجة دفعها إيجارات لمدارس لا تستفيد منها فعلياً ودفع رواتب لمعلمين ملتزمين وغير ملتزمين يقبضون سواء علّموا أم لم يعلّموا.

على باب إحدى المدارس الخاصة سيدة تعيد تسجيل أولادها الثلاثة رغم أحوالها المادية المتدهورة. تستغرب السؤال عن سبب اختيارها مدرسة خاصة مبررة بان مفهومها للمدرسة "هو مستوى علمي جيد وإنضباط ولغات، فليس لدي شيء آخر أورثه لأولادي". فيما تحتج نجوى عيناتي (أربعة أولاد) مطالبة الدولة بضرورة تحمّل المسؤولية في القطاع التربوي، وإلزامية التعليم المجاني خصوصاً في المرحلة الإبتدائية لكل اللبنانيين، اذ فليس عدلاً أن يرزح البعض تحت نير الأقساط بينما يتعلم آخرون مجاناً". مضيفة: "أن مجانية التعليم تتيح للأهل فرصة إختيار المدرسة التي يريدون، فمن حق كل عائلة أن تختار المدرسة الجيدة لاولادها مهما كان وضعها الإجتماعي".

وعلى أبواب المدارس الرسمية إحتجاج له صدى آخر: "مش كل المدارس الرسمية فاشلة" يصرخ أحدهم، و"المعلمون ملتزمون رغم الصعوبات المادية التي يعانون نتائجها". وتؤكد مديرة احدى الثانويات الرسمية للبنات أن "أكبر نسبة نجاح في الإمتحانات الرسمية هي لمدرستنا، لكن الناس يحبّون الأسماء الطنانة للتفنيص".

بكلمتين: فئة كبيرة من الناس عاجزة عن إدخال أولادها إلى المدارس الخاصة بسبب إرتفاع الأقساط في مقابل جمود دخلهم الشهري. ومن أرسل أولاده إلى المدرسة الرسمية العام الماضي لم يكن ممّتناً "لاحظنا خللاً بين المستويين التعليمي والإجتماعي". ولكن الأكثرية سوف تخضع هذا العام أيضاً لواقع تربوي يبدو أن لا علاج له على المدى القريب، أي سيرضخون لفكرة التقنين في المأكل والملبس و... عدم الهرب من الأقساط المرتفعة فلا يؤثر ذلك سلباً في تحصيل "أحباءهم" وفي مستواهم الدراسي.

ولا بدّ من الاشارة هنا، إلى أن وزارة التربية أعدّت خطة منذ سنوات تقضي ببناء مدارس رسمية جديدة في كل المناطق اللبنانية، قيل حينها أنه ستمّ بناؤها في غضون ثلاث سنوات، وتزويدها بتجهيزات حديثة بالإضافة إلى ترميم المدارس القائمة حالياً، وخصوصاً مع إزدياد عدد الطلاب فيها إذ وصل عددهم إلى 42 طالباً في الصف الواحد في العامين الماضيين من دون أن تحرّك الدولة ساكناً. فهل لكل هذا تأثير في الأهل حتى أصبحت المدرسة الرسمية تشكل مصيراً مجهولاً بالنسبة إليهم؟؟؟

بعض محللي الفوارق بين المدرسة الرسمية وبين المدرسة الخاصة يعزونها إلى إنقسام الناس إلى فئتين من رأيين متناقضين. فئة تعتبر الدولة مسؤولة عن همّ التربية والتعليم، وفئة تعتبر الأهل مسؤولين عن هموم أولادهم قبل الدولة. ولكن الواقع والحقيقة يشيران إلى أن لا أحد يتحمّل المسؤولية، ما ينعكس سلباً على إحتياجات المدارس وعلى خيارات الأهل وأفراد الهيئة التعليمية.

ويبقى وضع الطلاب المحتاجين إلى مساعدة مالية منوطاً بإدارة المدرسة أو لجان الأهل في ظل غياب كلي للدولة اللبنانية. ثمة مدارس ما زالت تدرس الوضع المادي للتلميذ وتحاول مساعدته وفق أنظمتها، واخرى تعمد الى تقديم منح داخلية تراوح بين 20 و60 في المئة وفقاً لحاجة التلميذ من دون التأثير في نتائجه، وغيرها وهي كثيرة باتت تسمح بالتقسيط حتى إثني عشر شهرا، كذلك ثمة مدارس ذات طابع ديني تقدم حسومات إن كان لديها أكثر من ولد ضمن العائلة الواحدة. هكذا نجد أن الجميع يجهدون من أجل مستوى علمي رفيع ولائق في إنتظار مشروع الدولة المؤجل بمجانية التعليم...فإلام الإنتظار؟؟؟



تعليقات: