ابراهيم الأمين: جمهرة من أبالسة وعنصريّين


ثمّة في لبنان من يدفع المرء الى جلد ذاته مرات ومرات، لأنه محسوب على هذا الشعب. وثمّة سلوكيات لا صلة لها بأيّ شيء يتعلق بالإنسان، لا لجهة حقوقه أو حرمته أو حريته أو مصالحه، وهي سلوكيات عنصريّة مقيتة، تنمّ عن أحقاد يتمّ إفراغها في وجه من يعتقد هؤلاء أنه العدوّ الأقل مهابة. وليس عند اللبنانيين المشاركين، تحريضاً أو تجييشاً أو صمتاً على الجرائم التي ترتكب بحقّ السوريين، سوى تبرير عجزهم عن معالجة مشاكلهم. وهم يعمدون، كما في كل مرة، الى رمي الكرة بعيداً صارخين: إنها حروب الآخرين على أرضنا!


ثمّة حاجة الى علماء اجتماع ونفْس لفهم سلوك هذا القسم من الجمهور اللبناني. وهو الجمهور الذي أعاد انتخاب الطبقة التي أفقرته على مدى عقود، واستسلم مجدّداً لمرجعيات سياسية ودينية وخارجية تقبض على روحه منذ قرون، فأعفاهم جميعاً من المسؤولية عن مآسيه، وقرر أن يحمّل النازح السوري المسؤولية عن كل ما أصابه ويصيبه وما قد يصيبه.

وإذا كان عدد غير قليل من السياسيين في لبنان لا يهتمّون إن ارتكبوا خطأً في التقدير أو في الأفعال، فكيف يرضى بعض الناس بالمضيّ في السير خلف هؤلاء، يردّدون ما يقال لهم، ويسيرون نحو ارتكابات أين منها أيام الاستعباد، ثم يجدون من يصفّق لهم، ويروّج لما قاموا به على أنه عمل بطوليّ يجب تعميمه. وهناك من يعدهم، إن هم أمعنوا في الجريمة، بأن يدفع لهم مقابل ما يقومون به!

اللبنانيون يعرّفون عن أنفسهم بأنهم «مغامرون»، قادرون على حمل حقيبة صغيرة، والسفر الى دول عربية أو غربية طلباً للعلم أو بحثاً عن عمل. وهم عندما يصلون الى ديارهم الجديدة، لا يوفّرون جهداً للحصول على رضى حكام تلك البلاد ومواطنيها. هل سمعتم أن لبنانياً واحداً شكا من تعامل أنظمة الخليج معه كعامل أو موظف؟ وهل اتّهم لبناني الشرطة الفرنسية بالعنصرية، أو الشرطة البريطانية بالفاشية، أو أجهزة الأمن الأميركية بأنها أهانته... ألا نعرف جميعاً حكاية اللبناني الذي يبدأ منذ الساعات الأولى لوصوله الى أيّ دولة في بناء شبكة علاقات، ومراضاة هذا أو ذاك، ومحاولة إقناع أبناء تلك الدولة نفسها بأن الواسطة أمر مستحبّ وله فوائده، ثم يقاتل بكل ما أوتي من قدرة للحصول على إقامة أو جنسية، ويحتال على القانون متى أتيح له، ويلتزم به متى كان العقاب قاسياً لأنّ المهم ألّا يُطرد من هذه الجنان!


مجانين يسيرون خلف مجرمين سيخرجون علينا غداً ليقولوا مجدّداً إنها حروب الآخرين على أرضنا!


هذا اللبناني نفسه الذي يقبل القيام بمهن كثيرة في بلاد الغربة، ويعود ليروي لأحفاده وجيرانه كيف اضطرّ إلى النوم على الأرصفة، وأمضى فترات يعيش على وجبة واحدة يومياً، وعمل لساعات طويلة بنصف أجر، وكافح للوصول الى ما وصل إليه... أي حصوله على رضى السلطات هناك، هو نفسه اللبناني الذي يتهم النازح السوري اليوم بأنه يأكل طعامه، ويحرمه من عمله، ويستولي على مقعد ابنه في المدرسة، الى آخر المعزوفة المقيتة. وهو نفسه اللبناني الذي يبحث عن أيّ جنسية غير جنسيّته، لكنه لا يريد منح جنسيّته لأحد حرصاً على نقاوة الدماء، وهو نفسه الذي يسافر اليوم ليعمل بأقل من 20 دولاراً في اليوم، لكنه لا يرضى بأقل من 30 دولاراً في اليوم في لبنان، وإذا ما قرّر صاحب العمل استخدام أجير سوري بكلفة أقل، يثور ضد العامل السوري، من دون أن يجرؤ على مواجهة رب العمل الذي فضّل السوري ليس فقط لأن أجره أقل، بل لأنه غير ملزم بتوفير الضمانات الصحية والاجتماعية له، وفوق ذلك، كونه يمارس فوقيّته عليه ويذلّه في كثير من الأحيان!

اللبنانيون الذين يريدون التخلص من السوريين بأيّ ثمن وبأيّ شكل، لا يريدون محاسبة أركان حكوماتهم، وقادة أحزابهم، ومراجعهم الدينية المنخرطة في إدارة شؤون البلاد والعباد، ولا يريدون أن يسألوهم يوماً عن سبب عدم إقامة معاهد فنية عالية الجودة، توفر جيشاً من الخريجين القادرين على القيام بأعمال لا يحترفها غير السوري اليوم في لبنان. الغاضبون من الجمهور اللبناني، لا يسعهم إلا «فشّ خلقهم» بمجموعة من العمال السوريين الذين خرجوا مع طلوع الشمس بحثاً عن رزقهم في هذه الورشة أو ذلك الحقل. وأبناء الأثرياء من العنصريين يصرخون لأنهم يعانون من «تلوّث بصري» بسبب وجود النازحين السوريين، وهم أنفسهم الذين تكتب روايات طويلة حول علاقاتهم المقرفة مع العاملات في المنازل، أو الذين تعوّدوا على ترك عشرين عاملاً ينامون في غرفة واحدة، ولا من يسأل عن هواء نظيف أو طعام كافٍ أو دواء يعين!


الجريمة المستمرة التي ترتكب اليوم بحقّ النازحين السوريين جريمة موصوفة، وكل من يشارك فيها، تحريضاً أو تجييشاً أو صمتاً، مجرم كامل الأوصاف، وهو خادم لنفس الحكومة العالمية التي تعبث بكل الكوكب، وتشنّ الحروب هنا وهناك خدمة لمصالح أقلّية لا تعرف حدوداً للنهب والجشع. ومن يعتقد أنه بضرب هذا النازح، أو طرد ذاك من عمله، أو حرق غرفة مبيت لآخرين، يمكن معالجة أزمة النازحين، فهو واهم ومخبول، بل هو أداة في من يريد إشعال النار في هذه البلاد. يفعلها اليوم باسم المعركة ضد النازحين السوريين جميعاً، ثم يعمل غداً على فرزهم طائفياً فيصبح هذا مقبولاً والآخر مرفوضاً، ثم يصنّفهم بحسب درجة الولاء لهذا الزعيم أو ذاك، قبل زجّهم هم أيضاً في حروبنا اللبنانية اللامتناهية... ثم يخرج علينا من حصل على وسام الرجل الأبيض ليقول لنا في آخر المحاضرة: إنها حروب الآخرين على أرضنا!

تعليقات: