برنار كوشنير «اللبناني»: من المبضع الى الكي دورسيه!

يجيد دبكة «الهوارة والدلعونا»... ويملك موهبة «الصوت الجميل»

ربما كان الدكتور كامل مهنّا في طور الاعداد لكتاب يسرد سيرة 32 سنة من الصداقة المميّزة، والمتمايزة بقوة، مع وزير خارجية فرنسا الحالي، برنار كوشنير، ولكن له، ولصديقه ايضا، أن يعبّا من نهر الامجاد حتى الثمالة، وقد نجحا في تحويل بؤس الحياة الى فرح العطاء، في جمهورية الاحزان الكبرى، حيث البشرية المسحوقة بفعل سياسة الكبار، وحيث المعاناة موزّعة بالتساوي ما بين المرضى والجرحى والمصابين وحتى أولئك الذين تركهم القدر داشرين على قارعة التشرد والحرمان؟!.

لا أدري ما إذا كان كوشنير قد احتل المنصب الذي كان يدغدغ احلامه، لكن شعبيته الواسعة في «جمهوريته الانسانية البلا حدود» محضته الثقة والدعم، حتى ربما لترقي المنصب الافخم!، ولعل هذا «الحربوق» الجديد، نيكولا ساركوزي، الذي يخلف اليوم هامات شامخة مرّت في قصر الاليزيه من الجنرال شارل ديغول، الى جورج بومبيدو، الى فاليري جيسكار ديستان، الى فرنسوا ميتران، الى جاك شيراك، قد اكتشف شيئا في هذا الطبيب الساحر، وعرف عمق توغله في الاوساط الفرنسيّة خصوصا الشبابيّة منها، فما كان منه إلاّ أن جذبه من اليسار الاشتراكي ليبوئه عرش الدبلوماسيّة الفرنسية، وهنا حصلت المفارقة الكبرى: «عندما حاول الحزب الاشتراكي ان يطرده من صفوفه، تأنيبا للنقلة النوعيّة هذه، احتضنه الرأي العام الفرنسي برحابة وتعاطف كبيرين؟!».

كوشنير الانسان: رحلة اسطورية مع المبضع، والآهات الحارقة، والأنين الملتاع، والدم النازف من عمق الجرح. وقد يكون أولا وقبل كلّ شيء، جرح بالكرامة قبل ان يكون في الأعضاء... هذا الكوني بإنسانيته استلهم «التشي غيفارية» في مسيرته الطويلة في وادي الدموع والدماء، وراح يبتكر منظمة «أطباء بلا حدود»، ليصول ويجول في مطهر البشرية التي تسقط في أتون التجربة، كما تسقط الفتات عن وليمة الكبار في صراعهم الدائم والمستمر حيث الاولوية دائما للعبة المصالح والمطامع المتطاحنة والتي لا تعرف الهوادة؟!.

عام 1979 ضاقت عليه الدائرة، وهو الحرك، النشط، المتوثب، الحاضر، والمستنفر لتلبية النداء الانساني في اي بقعة من العالم، فطلّق «أطباء بلا حدود»، ليؤسس منظمة «أطباء العالم» بذهنية جديدة وديناميّة مختلفة، وراح من جديد يجوب أصقاع الدنيا ليؤكد بأن الواجب الانساني كما الحق يعلو ولا يعلى عليه.

ذاكرة الدكتور مهنا لا تزال خضراء خصبة، فيروي: «كنت طبيبا متطوعا في النبعة لمعاينة الجرحى والمصابين نتيجة المواجهات التي كانت محتدمة في محور تل الزعتر ـ النبعة، والزمن هو العام ,1976 حيث اسس يومها الامام المغيّب موسى الصدر «مستشفى المحرومين» في النبعة، وفي ظلّ أعمدة النار والدخان، وصل الى المكان العضو في حركة المحرومين الدكتور فؤاد البستاني ومعه وفد من اطباء «بلا حدود» يرأسه برنار كوشنير، وكان التعارف، ومن ثم التعاون، ومكث مع بعثته حوالى الاسبوعين قبل ان يعود أدراجه من حيث أتى؟!».

وما بين الموقع النضالي المتقدم الذي شغله الدكتور مهنا في باريس، ومساحات البؤس والمعاناة في لبنان والتي كانت ـ ولا تزال ـ فسيحة، ورحبة أمام كلّ عمل إنساني، تكررت زيارات كوشنير، وتوطدت أواصر الصداقة والتعاون، كيف لا والهوية هنا إنسانية مشتركة لا تعرف حدودا ولا تعترف بسدود عندما يكون الواجب الانساني هو الداعي، فكانا معا في المستشفيات الميدانية التي كانت منتشرة في العام ,1982 في مناطق عدّة، وعلى مساحة الوطن الذي كان يجلد بقوة وشراسة لا تعرف الرحمة، وكانا على توافق مهنيّ دائم، ولكن أيضا على افتراق شبه مستمر في النظرة لمقاربة الاحداث والتطورات، وأيضا في التوجهات والمقاربات السياسيّة، وكان هذا طبيعيّا جدا بين لبناني مؤمن بشراسة المصالح الاقليمية والدولية التي تطحن الساحة اللبنانية، وبين فرنسي يريد من خلال مراسه الانساني ان يبيّض صفحة بلاده، ويظهّرها ـ على الرغم من كلّ المآخذ ـ كأم حنون للبنان؟!.

ويطلّ كوشنير مرّة اخرى على بحر بيروت في العام 1986 وهو على متن باخرة ضخمة من المساعدات «لكل لبنان»، وربما وفرّت له المناسبة فرصة مكنته آنذاك من ان يحتكّ بكامل النسيج اللبناني الرسمي والسياسي والطائفي والجمعيات والمنظمات والنوادي الناشطة في المجتمع الاهلي، وهذا ما جعله يختبر المعدن اللبناني بكامل عناصره وطبقاته، ويقرّ كم ان هذا الشعب تليق به الحياة، وكم يملك من قدرة التكيف مع تقلب الاحوال والظروف.

في مطعم الآغا التقوا يومها الدكتور مهنا، وطلال سلمان، وباسم السبع، وغيرهم وغيرهم، وعندما اصطفت الصحون وما تحوي من أطايب الطعام صاح كوشنير: «ما أراه أكثر بكثير مما تحمله الباخرة على متنها؟!»، وهو الذي اختبر عن كثب كرم الضيافة، وراح يدافع في مجالسه الخاصة والعامة عن إرادة الحياة عند اللبناني، ومدى تشبثه بالعيش الحر الكريم رغم ناب الدهر ونوائبه؟!.

ولج السياسة من محراب العمل الانساني، ويقول عنه سفير لبنان في يوغوسلافيا ـ السابقة، نصرت الاسعد، بأنه صاحب نظرية «حق التدخل الانساني» في أي دولة تدهمها الازمات، ويكون الانسان فيها المطيّة والضحيّة، ولعب دورا رياديّا على هذا الصعيد في كوسوفو، غيرها من الجمهوريات الناشئة هناك.

أسهمت ديناميته في بروز تيار فرنسي شعبي متضامن مع نزعته الانسانيّة، وأعطته الصحافة ووسائل الاعلام ما يستحق من ومضات التعاطف والتأييد، حتى أنه شخصيّا لم يقصّر في هذا المجال، وكان الى جانب عمله الانساني صحافيّا بامتياز حيث كتب المقال، وأجاد في صياغة التحقيق الصحفي لكبريات الصحف والمجلات الفرنسيّة والاوروبيّة، خصوصا وانه اعتمد في كل ما كتب على الرصانة والجديّة والمعلومة المدققة، والتحليل الذي يسبر غور الحاضر والمستقبل الاتي، فأضحى مرجعية لا يستهان بها عند كبار صنّاع الكلمة المتخصصة في التعاطي مع أعتى الازمات الناشبة في العالم حيث كان لكوشنير دور وحضور إنسانيين فيها.

رصدت دوائر القرار أهمية وجسامة الحركة التي يكون محورها، ويتولّى إدارتها فعيّن وزيرا للشؤون الانسانية، نهاية الثمانينيات، ومطلع التسعينيات، وعندها بدأت سبحة المناصب الرسميّة تكرّ، فإن لم يكن وزيرا في الحكومة الفرنسيّة، فهو مفوّض عام للامم المتحدة للشؤون الانسانية وبرامج الاغاثة، بحيث سطع نجمه وتعاظم رصيده الشعبي والمعنوي داخل فرنسا وخارجها.

عندما أعلن الرئيس جورج بوش الحرب على العراق، متخطيا سقف الامم المتحدة ومجلس الامن، ومنسّقا خطواته بالتعاون والتضامن مع حليفه رئيس الوزراء البريطاني المستقيل طوني بلير، وقف الرئيس جاك شيراك معترضا منددا، فيما وقف برنار كوشنير مؤيدا، وكان يومها الصوت الفرنسي الاقوى في الدفاع عن تلك الحرب لإسقاط نظام الرئيس الراحل صدام حسين، لكنه عاد فانتقد بشدة الادارة الاميركية على السياسة التي اتبعتها، وأدت الى الكوارث التي يشهد العراقيون فصولها الدمويّة يوميّا.

لم يلتزم كوشنير عقيدة حزبيّة، ولكن فطرته الانسانيّة ـ الامميّة جعلته أقرب الى الحزب الاشتراكي الذي استفاد منه أكثر مما أفاد هذا الرجل المعطاء، وعندما قرر الحزب طرده من العضوية بعدما قرر الالتحاق بالساركوزية، ضحك ساخرا، وكرّس ضحكته الساخرة هذه بمقال كتبه، وتصدّر الصفحة الاولى من صحيفة «لو موند» تحت عنوان: «لماذا قبلت؟»، ويبرر فيه لماذا قبل عرض الرئيس ساركوزي بمنصب وزير خارجية فرنسا، وهو الذي مارس الدبلوماسية الانسانية في العديد من دول العالم، وعلى مدى عقود طويلة من الزمن؟!.

قطعا لن يكون كوشنير الوزير القوي المستقل وصاحب القرار في الخارجيّة الفرنسيّة، بعدما قرر ساركوزي إستحداث مجلس الامن القومي، وصمم على الامساك جيدا بمفاصل وزارتي الخارجيّة والداخليّة، لكنه، وفي مطلق الاحوال سيكون أفضل من يمثل فرنسا على الصعيد الدولي في عهد التغيير الذي قرر وريث الشيراكية والديغولية في الاليزيه أن يخوض غماره ، وفي مختلف المجالات، وعلى مختلف الاتجاهات.

ومع اختيار كوشنير وزيرا لخارجية فرنسا، تنفس الكثيرون في لبنان الصعداء!. صداقاته في بلاد الارز واسعة في صفوف الرسميين، والفاعليات السياسيّة والاقتصادية والاكاديميّة، والاجتماعية والانسانيّة، ويمثل واحدا من الزبائن الغربيين المهميّن للمازة اللبنانية، والتبولة، والكبّة، وجلسات الانس على مصاطب بلدة الخيام؟!...

ويسكن الفن في شخصية الوزير كوشنير، ويملك موهبة الصوت الجميل، ولا يرى حرجا في مجالسه الخاصة من ان يتحول الى مطرب يقارع كبار الفنانين الفرنسيين في إدائه أكثر الاغاني الفرنسية شعبية وروعة، وهو بالمناسبة من الذين يجيدون دبكة الهوارة، والبعلبكيّة، والدلعونا... من دون ان يتنكر لعاطفة فرنسا الام الحنون ؟!.

تعليقات: