مجزرة العقل العراقي: آلاف المتّهمين


مرعبة هي الأرقام والمعطيات الجنائية التي كشفت عنها وزارة الداخلية العراقية، مطلع الشهر الجاري، بخصوص ظاهرة اغتيال وخطف العلماء وذوي الكفاءات العراقيين. بل هي خرافية إن شئنا الدقة! برزت هذه الظاهرة منذ اليوم الأول للاحتلال، ثم اتسعت بشكل مذهل مخلّفة آلاف القتلى والفارين، لدرجة أضحى معها من النادر العثور على أستاذ جامعي أو طبيب متخصص أو باحث في أغلب المحافظات العراقية، بل في العاصمة بغداد.

تزعم وزارة الداخلية أن عدد المعتقلين المتّهمين بالتورّط في قتل وخطف ذوي الكفاءات والعلماء بلغ ثمانية آلاف متهم، بعضهم منتظم في جماعات قتل متخصصة، وأن عدد الأحكام بالإعدام الصادرة بحق أعداد منهم بلغ 600 حكم، فيما أطلق سراح عدد مماثل ممن لم تثبت عليهم التهم، وحكم بالسجن المؤبد على ألفي متهم. وضمن نهجها البوليسي السطحي، الهادف لتمييع وتشويه حقيقة ما يحدث، وللتغطية على الأسباب الحقيقية والقتلة الحقيقيين، قدمت الوزارة أحد الأمثلة على أولئك المجرمين، وهو شخص يدعى محمد عادل علوان حسين القيسي من سكان منطقة الأعظمية إلى الجمهور زاعمة إنه «قتل وحده ما لا يقل عن 60 شخصية علمية وفكرية وإنسانية، بينهم الدكتور جاسم محمد الذهب عميد كلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد وابنه محمد وزوجته منى فاضل إبراهيم، فضلاً عن اعترافه خلال جلسات التحقيق معه بقتل الدكتور صباح خلف صخيل معاون عميد كلية التربية الأساسية في جامعة المستنصرية مع سائقه فارس غيدان حسين».شرطيّة عراقيّة تجهّز بندقيّتها خلال إحدى التدريبات في كربلاء (محمد سواف - أ ف ب)شرطيّة عراقيّة تجهّز بندقيّتها خلال إحدى التدريبات في كربلاء (محمد سواف - أ ف ب)

تثير هذه الأرقام الحكومية، التي وصفناها بالخرافية، العديد من الأسئلة التي لن يجرؤ وزير الداخلية على الإجابة عنها، ومنها:

- إذا كان عدد المدانين والمحكومين بالإعدام والمؤبد 2600 مداناً، وإذا كان مجرم واحد من هؤلاء قتل ستين عالماً وأستاذاً، فكم هو العدد الحقيقي أو التقريبي للعلماء وذوي الكفاءات القتلى والجرحى والمختطفين؟

- وهل يعقل أن تتمكن هذه الظاهرة الدموية من المجتمع العراقي إلى هذا الحد في صمت وسرية وعدم اكتراث، أم أن هذا المجتمع، الذي تعيش وتنشط فيه وزارة السيد البولاني، هو مجتمع «مريض» مؤلف في جملته من مجرمين وقتلة محترفين، على شاكلة المجتمع الأميركي الذي أسسه المهاجرون الأوروبيون البيض حين كان ثمن الإنسان أرخص من رصاصة تطلق من مسدس رجل الكاوبوي؟

- لماذا يجري إهمال الأدلة والمعلومات الكثيرة التي قدمها ذوو الضحايا والجهات المدنية المستقلة، ولماذا تهمّش وتُقصى الآراء ووجهات النظر والاتهامات الموثّقة التي قدمها علماء وأساتذة نجوا من الموت، والتي تتهم أطرافاً لم تأتِ الداخلية العراقية على ذكرها، كالموساد الإسرائيلي، ومخابرات دولة الاحتلال، والميليشيات المحلية الطائفية المرتبطة بمخابرات دول إقليمية مجاورة للعراق، فيما يجرى التركيز دائماً على تورط تنظيم القاعدة التكفيري في هذه المقتلة الفظيعة كطرف رئيسي (وهو لا يمكن تبرئته تماماً بحجة أنه دخل في مرحلة الكسوف الحركي والنبذ الاجتماعي حالياً)، إضافة إلى أعداد كبيرة من مجرمين جنائيين عاديين نبتوا كالفطر؟

- لماذا تستمر هذه الظاهرة بالانتشار، رغم «الفتوحات» الأمنية والقضائية «البطولية» التي تزعم الحكومة القيام بها، تستمر حاصدة المزيد من الضحايا ومهددة مستقبل العراق العلمي والحضاري؟

لقد أشارت جهات اعتبارية، وأقلام مستقلة عديدة، صراحة أو ضمناً، إلى تورط إسرائيل، وأيضاً إيران في هذه المذبحة التي تستهدف العقل العراقي، فيما تحدثت أطراف أخرى بلغة مواربة يحتمها واقع الحال المأساوي. فقد قالت أستاذة علم الاجتماع في جامعة بغداد سناء الداغستاني إن «هناك جماعات تعمل بأجندات قد تكون مدعومة من جهات دولية لا تريد للعراق أن يستقر ويواصل مسيرته في العلم والبناء»، مشيرةً إلى أنها «تقف وراء حوادث استهداف الأساتذة والأكاديميين على اختلاف تخصصاتهم العلمية والفنية». كما وجهت أطراف أخرى الاتهام إلى جهات معارضة للحكم القائم حالياً، وتحمل السلاح ضده كحزب البعث، بالتورط في اغتيال عدد من العلماء والأساتذة الذين شاركوا في الانتخابات المهنية والنقابية خلال عهد الاحتلال بوصفهم خونة أو مرتدّين، وخصوصاً من متخرّجي الجامعات البريطانية والأميركية، كما يقول أستاذ جامعي من المؤيدين للحكم القائم حالياً. وللإنصاف، يمكن اعتبار الاتهام الأخير ـ حتى في حال صدقيته ـ اتهاماً جزئياً وقد يكون كيدياً ولا يفسر الظاهرة بكاملها، لأنه لا يخلو من البواعث الحزبية والذاتية لمن أطلقه. كما تحدثت منظمات غير حكومية منها مثلاً منظمة «عراقيون» في تقريرها السنوي عن «تصفية أكثر من 3200 عالم عراقي في مجالات واختصاصات مختلفة على يد جماعات تستغل تردي الوضع الأمني في البلاد لتنفيذ مخططاتها»، ويمكن اعتبار هذا الرقم للضحايا متواضعاً جداً، إذا ما أخذنا بالحسبان الأرقام الألفية السابقة الذكر لوزارة الداخلية.

هذه المعطيات والأسئلة والحيثيات، لا وجود لها في ذهن الناطقين الإعلاميين بلسان الداخلية العراقية التي تريد تبليع الجمهور قصصاً غرائبية من طراز ألف ليلة وليلة عن مجرم هاجم جزيرة «الواق واق» وقتل ستين عالماً بمفرده (ودون مساعدة من الجنيّ الراقد في مصباح علاء الدين!) وعن مئات الأحكام بالإعدام وآلاف الأحكام بالسجن المؤبد أصدرها (مولاهم السلطان) فيما البلد يتصحر ويفقد علماءه كل أسبوع وكل يوم بل وكل ساعة.

وأخيراً، فإذا كان صحيحاً ومثيراً للأسى القول إنه ليس بالوسع القيام بالكثير الحاسم لخرق سقف الزيف والتزييف وتدليس الأدلة وحجب الحقائق، في بلد محتل من قبل أعتى قوة عسكرية شهدها تاريخ البشرية، ويدار بواسطة شركة محلية «حكومة» قائمة على أقذر أنواع المحاصصة الرجعية المنافية للتاريخ، فإن من العدل تماماً أن نكرر مع صحافي عراقي كتب قائلاً إن «أقل ما نقدمه إلى الرجال والنساء الذين حرموا حياتهم بسبب نهضتهم بالتقدم العلمي والتقني للوطن هو أن نلاحق قتلتهم إلى آخر زاوية من زوايا الأرض، وأن نلح على المطالبة بحقنا في متابعة أصغر تفاصيل

الأمر».

* صحافي وكاتب عراقي

تعليقات: