لبنان 2006: الحرب غير المنتهية


فشلت حرب لبنان الثانية عام 2006 في حلّ أيّ من القضايا التي شُنَّت من أجلها. وقد تُفهَم الحرب على أنّها حملة ضمن نزاع شرق أوسطي أوسع بين مؤيّدي الغرب والدول الديموقراطية من جهة، وتحالف القوى القومية والإسلامية من جهة أخرى.اصطفاف تحالف القوى القومية والإسلامية يحوي في طياته أحد الأهداف الاستراتيجية، والمتمثّلة في الزوال النهائي لدولة إسرائيل، وإذا ما كان هذا الهدف غير واقعي، إلا أنّ النتائج غير الحاسمة لحرب عام 2006، أثّرت كثيراً في ما يراه ممثّلو المعسكر الآخر، الذين يعتقدون أنّهم اكتشفوا طريقة قادرة على إلحاق هزيمة استراتيجية بإسرائيل.

حرب العام 2006 بين إسرائيل ومنظمة حزب الله اللبنانية، والمعروفة في إسرائيل «بحرب لبنان الثانية»، وفي لبنان «بحرب تموز»، شكّلت جزءاً من المواجهة الاستراتيجية الأكبر التي تجري في الشرق الأوسط، بين كل من الولايات المتحدة وحلفائها، وإيران وحلفائها والمنظمات التابعة لها. تمثّل إسرائيل جزءاً من المعسكر الأوّل، ويمثل حزب الله جزءاً من المعسكر الثاني. وفي الحرب التي توصف بالمعقَّدة، كانت الحكومة اللبنانية التي تصرّفت كمضيف لا يرغب بحزب الله، أيضاً حليفاً إقليمياً مهمّاً للولايات المتحدة. كانت الحرب موضوع خلاف ساخن منذ أن دخل قرار مجلس الأمن حيّز التنفيذ، وهو الذي أوقف إطلاق النار في 14 آب 2006، وتمحور الخلاف بين الطرفين المتحاربين على المستوى التصويري (الشكلي) في ما يتعلّق بالتفسير والتوصيف الصحيحين للحرب.

فصول الحرب

بدأت حرب لبنان الثانية في 12 تموز 2006 مع قصف حزب الله القرى الحدودية الإسرائيلية، بهدف إلهاء الجيش الإسرائيلي للتمكّن من خطف جنود إسرائيليّين واستخدامهم أوراق مساومة لضمان إطلاق سراح المدنيّين اللبنانيّين المُدانين في إسرائيل لقيامهم بنشاطات إرهابية.

تخلّلت الحرب سلسلة من المواجهات الدامية بين مشاة الجيش الإسرائيلي ومقاتلي حزب الله. ولوحظَت قدرة حزب الله على المناورة التكتيكية وهو تحت القصف، إذ برزت لديه أعمال مبدعة في استخدام الأسلحة المضادة للدبابات في معارك برية، في حين كانت إسرائيل تعمل على إحراز تقدم في الميدان، لكن انسحابها اللاحق دلّ على قدرة وحدات حزب الله على إعادة التموضع في القرى، الأمر الذي أظهر فشلاً استخبارياً جدياً في الجانب الإسرائيلي، وعدم فهم أنظمة المخازن والأنفاق المبنية من قبل حزب الله وإدراكها.كانت قوّات حزب الله البرية منظّمة ضمن فرق، وتتشكّل كلّ فرقة من سبعة إلى عشرة عناصر، ويظهر أن هذه الفرق عملت بدرجة كبيرة من الاستقلال الذاتي، مستخدمة معرفتها بطبيعة المنطقة، بالإضافة إلى أنظمة المخابئ والأنفاق المتوافرة لديها. وبرزت وحدات القوات الخاصة لحزب الله، التي عملت على نطاق واسع في إطار العمليات المضادّة للدبابات وفي إطلاق الصواريخ، وقد امتُدح أداؤها (العسكري) من قبل المحلّلين العسكريّين.

الأكثر بروزاً في المعارك البرية هو استخدام حزب الله الناجع للصواريخ المضادّة للمدرعات، والتي لم يستخدمها فقط ضدّ الدبّابات الإسرائيلية، بل بطريقة مبدعة أيضاً، في معارك المشاة في المناطق السكنية، لضرب الأبنية التي احتمت داخلها قوّات الجيش الإسرائيلي. وقامت صواريخ الكورنيت أيضاً، الأكثر تطوراً في الأنظمة الروسية المضادّة للدبابات، بدور مهم وفاعل في إلحاق الخسائر بالمدرعات الإسرائيلية، في حرب برية مشوَّشة ومتقطّعة، عصفت رحاها بالقرب من الحدود.

تقييم الحرب

مسار حرب لبنان الثانية، وتحديداً الإخفاق الإسرائيلي الواضح في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، كتحرير الجنديَّين الأسيرين ونزع سلاح حزب الله، أدّى إلى حالة من الضيق والانزعاج في إسرائيل، في الأشهر التي تلت الحرب.

أعلنت إسرائيل عن أهداف الحرب، المقرَّرة من قبلها، في 19 تموز 2006، وجاءت على الشكل التالي:

ــــ تحرير الجنديّين الأسيرين وإعادتهما إلى إسرائيل من دون أي قيد أو شرط.

ــــ وقف إطلاق الصواريخ القصيرة والبعيدة المدى ضد إسرائيل.

ــــ التطبيق الكامل للقرار 1559، الذي ينصّ على نزع سلاح كلّ الميليشيات (في لبنان)، وبسط سيادة الحكومة اللبنانيّة على كل أراضيها، وكذلك نشر الجيش اللبنانيّ على طول الحدود مع إسرائيل. كان من الواضح، بعد وقف إطلاق النار، أن ما تحقّق من بين هذه الأهداف هو نصف الهدف الثالث فقط، الأمر الذي أدّى إلى إحساس واسع ومبرَّر في إسرائيل، لُخّص لاحقاً في تقرير لجنة فينوغراد النهائي عن الحرب، والذي أشار إلى «فرصة عظيمة وخطيرة، جرى تضييعها».

كان هناك إحساس عامّ بالصدمة في إسرائيل، جرّاء الخسائر التي تكبّدتها القوات البرية في الجيش، والإخفاق في وقف إطلاق الصواريخ القصيرة المدى. بل إنّ الكثيرين أشاروا إلى إخفاق المستوى السياسي في وضع أهداف سياسيّة متماسكة وقابلة للإنجاز، يمكن التوصّل إليها عبر تحقيق الأهداف العسكريّة المتماسكة والمحدّدة.

لاحظ عدد من المراقبين الدوليّين أنّ المناخ التشاؤمي الذي ساد في إسرائيل في الأسابيع التي أعقبت الحرب، كان مناخاً مبالغاً فيه، ذلك أنّ القرار 1701، الذي أنهى الحرب، غيّر الوضع في جنوب لبنان لصالح إسرائيل وأنهى هيمنة حزب الله على الحدود، وأصبحت السيطرة على الحدود من مهمات قوات «اليونيفيل» والجيش اللبناني، وبالتالي فإنّ فقدان السيطرة وحرية الحركة جنوب الليطاني شكّل نكسة كبيرة لحزب الله.

لكن رغم هذا الإنجاز، فقد فشلت إسرائيل في تحقيق العدد الأكبر من أهدافها، كما حدّدتها الحكومة الإسرائيلية لنفسها، وكان أداء الجيش الإسرائيلي، وتحديداً سلاح البرّ، تسبّب بقلق وانزعاج شديدين في إسرائيل، رغم الضرر الواضح الذي تكبّده حزب الله خلال الحرب وبنتيجتها.

تتقاطع كلّ الروايات، الإسرائيلية والدولية، على وجود مشكلات في أداء إسرائيل خلال الحرب، وعلى كلّ المستويات، إن لجهة التخطيط السياسي ووضع أهداف الحرب، أو لجهة الاستراتيجية المتبنّاة فيها، أو لجهة أداء عدد من القادة الرفيعي المستوى وجهوزية الجيش الإسرائيلي.

ركّز بعض المحلّلين على السمات العسكريّة في الفشل الإسرائيليّ، وتحديداً على ما أُسند إلى سلاح الجو من قدرات خارقة نتيجة لقراءة خاطئة لما أنجزه حلف شمال الأطلسي في كوسوفو عام 1999. وينسب هذا الإخفاق بشكل كبير إلى القيادة العسكرية، التي أعطت انطباعاً خاطئاً للسياسيّين، بأنّه بالإمكان تحقيق شيء ما عبر إضعاف حزب الله من الجوّ.

يُضاف إلى ذلك وجود مشكلات خطيرة واجهها الجيش الإسرائيلي في أدائه الميداني، والتي كان واضحاً فيها قلّة الاستعداد، خاصة في قوّات الاحتياط. ووجّهت للجيش انتقادات لاذعة، ولكنها سهلة الاستيعاب من قبله، وهي تشير بشكل أساسي إلى: الاستراتيجية الخاطئة، التردّد في التنفيذ، وأخطاء تكتيكية مختلفة. وهذه الأخطاء تُظهر الفهم الخاطئ في المؤسّسة العسكرية لطبيعة الصراعات المستقبلية الذي يرى محدودية لزوم استخدام إسرائيل مستقبلاً في حروبها، أعداداً كبيرة من المشاة والقوات المدرعة ونشرها، وساد الاعتقاد بأنّ الصراعات المستقبلية ستكون محكومة بالفعل الذي يقوم به سلاح الجوّ.

نتيجة لذلك، ولدى مواجهة إسرائيل في العام 2006 نوعاً مغايراً من الحروب غير المتوقعة من قبلها، كانت غير مستعدّة على كل المستويات. من بين الأمثلة الأكثر تطرّفاً في ذلك: جرى استدعاء بعض الوحدات المدرعة والتابعة للاحتياط، وهي لم تخضع سوى لمناورة تدريبية واحدة طوال السنوات الخمس الأخيرة التي سبقت الحرب، وبالتأكيد فإنّ قوّة كهذه كانت ستتكبّد خسائر فادحة في مواجهة مقاتلي حزب الله، في أيّة عملية برية واسعة تستهدف السيطرة على الليطاني، خاصة مع العرض الرائع الذي أظهره مقاتلو حزب الله في القرى.

استناداً إلى الانتقاد العسكري، فإنّ الجيش الإسرائيلي في حاجة إلى إعادة ترتيب أولويّاته والابتعاد عن المفاهيم التي ترى إمكان النصر في الحرب من خلال دفع أثمان بخسة، بعد أن يُفعّل سلاح الجوّ والقوّات الخاصّة. على الجيش الإسرائيلي أن يبدأ بصبّ الموارد التي تدعم النصر كما فعل في حروبه السابقة التي انتصر فيها، عبر الحرب الخاطفة والمناورة والالتزام بتحقيق الأهداف، رغم الخسائر التي يتكبّدها في سبيل تحقيقها. ولإنجاز ذلك لا بدّ من إخضاع الجنود لتدريبات تكفل تحقيق هذه المهمّة، وتوعية المجتمع الإسرائيلي على لزوم التضحية، ومن ضمنها خسائر في الأرواح، وهو ما يعتبر عنصراً تكاملياً في العمليات البرية الواسعة النطاق.

عكست تصريحات المسؤولين العسكريين (خلال الحرب) الإحساس لدى المجتمع الإسرائيلي بعدم الرغبة في تحمُّل الخسائر، وقد يكون لذلك تأثير على اتخاذ القرارات، وهي تستلزم مناقشة أكبر بكثير في المجتمع الإسرائيلي.

ما بعد وقف إطلاق النار

يُعتبَر القرار 1701 موضوعاً مركزياً في تقييم النتائج النهائية للحرب، وقد صرّح القادة الإسرائيليون أنهم سيكونون عنصراً أساسياً في تطبيقه. وفي هذا الإطار، أشارت وزيرة الخارجية تسيبي ليفني إلى توقّعها «زيادة في عديد القوات الدولية التي ستنتشر، بناءً على القرار (1701)، كي تتمكّن من السيطرة على الممرّات الحدودية بين لبنان وسوريا، ومساعدة الجيش اللبناني على الانتشار، وخصوصاً في ما يتعلّق بالتطبيق الكامل للقرار 1559 ونزع سلاح حزب الله»، ووجهة النظر هذه، حظيت بموافقة رئيس الوزراء إيهود أولمرت.

انتشار الجيش اللبناني في الجنوب، مع زيادة في عديد قوات «اليونيفيل»، حقّق إنجازاً. إذ قلّص من حرية الحركة لدى حزب الله التي كان يتمتّع بها في جنوب لبنان، وعليه الآن أن يتعامل مع الحضور الدولي في الميدان بشكل جدي.

السؤال الذي يبرز في كلّ ذلك هو: هل أنّ الترتيبات الجديدة ستقلّص قدرات حزب الله بشكل دائم، أم أنه سيعمد إلى إعادة بناء قدراته من خلال بثّ الرعب في قوات «اليونيفيل» والجيش اللبناني والتكيّف مع وجودهما؟ حتى الآن، من الواضح أنّ الترتيبات الجديدة التي أوجدها القرار 1701 قد فشلت في منع حزب الله من استعادة قوّته أو منعه من التعويض عن خسائره التي تكبدها في الحرب، رغم أنّ حرية حركته تضاءلت. لم تبذل قوّات «اليونيفيل» والجيش اللبناني جهوداً كافية لمنع تهريب السلاح عبر الحدود مع سوريا، الأمر الذي أتاح لحزب الله إعادة بناء الوحدات الصاروخية المتوسّطة والبعيدة المدى شمال مجرى نهر الليطاني، لتحلّ مكان أنظمة صواريخ «زلزال» و«فجر» التي جرى تدميرها خلال الحرب، وترى إسرائيل أيضاً أنّ حزب الله ضاعف عدد الصواريخ برّ ــــ بحر، وأنشأ وحدة مضادّة للطائرات. لكن من دون شك، انتشار الجيش اللبناني و«اليونيفيل» على طول الحدود قلّص من حرية عمل حزب الله، ويمكن اعتبار ذلك إنجازاً إيجابياً للحرب، من وجهة النظر الإسرائيلية. يمكن القول إنّ إسرائيل فشلت في حرب عام 2006 في حلّ أي من القضايا التي قامت الحرب من أجل تحقيقها. ولم تنجح في استعادة أسيريها، ولم تستطع إزالة التهديد العسكري الذي يشكّله حزب الله على حدودها، كما لم تنجح في نزع سلاحه. قد تكون نجحت في إظهار ثمن هجمات حزب الله المستقبلية أكثر بكثير ممّا يتحمّل حزب الله ورعاته، لكن ذلك ليس مؤكّداً على الإطلاق. كشفت الحرب، من منطلق الفهم العسكري، تناقضات جديّة داخل الجيش الإسرائيلي، وكذلك في عملية صنع القرار العسكري والسياسي في إسرائيل. إنّ الفشل في فهم احتياجات الحرب المختلفة، مقارنة بعمليات منخفضة الوتيرة كان الجيش الإسرائيلي قد خاضها في السنوات الأخيرة، أدّى إلى وضع أهداف غير واقعيّة، والفشل في اتخاذ قرارات على أسس سياسة واضحة، وأدّى إلى السعي نحو تحقيق الأهداف بطريقة غير مناسبة وغير واقعية، كما انكشف الجيش الإسرائيلي على النقص في جهوزيّة عدد من وحداته. المطلوب من إسرائيل، في الوقت المتوافر، إعادة فحص جيشها وتدريبه وتجهيزه بشكل مناسب لمواجهة التحديات المقبلة، وتتطلّب المسألة قيادة وطنية تدرك ماهية قدرات الجيش، وتدرك كيفية دمجها في استراتيجية واضحة ومستقرّة مع أهداف محدَّدة بوضوح، على أن تلتزم هي بها.

يُطلَب من هذه القيادة أن تهيّئ جمهورها وتوعيه إلى أن إسرائيل تخوض حرباً مع عدوّ يعمل ضمن استراتيجية حرب طويلة الأمد، وبالتالي يتوجّب التضحية وتحمُّل خسائر حتمية في الأرواح لمدة طويلة. وعلى سبيل المثال خسائر في حياة الجنود الذين سيشاركون في عملية برية واسعة في جنوب لبنان، من النوع الذي يشكّل ضربة عسكرية حقيقية لحزب

الله.

في النهاية، يجب أن تُفهم الحرب (صيف 2006) على أنّها حملة فريدة ضمن صراع أوسع في الشرق الأوسط، بين دول ديموقراطية وموالية للغرب من طرف، وتحالف قوى إسلامية وقومية عربية في طرف مقابل، والاصطفاف الأخير لديه هدف استراتيجي هو زوال إسرائيل الحتمي، وإذا كان هذا الهدف خيالياً، لكن نتائج الحرب غير الحاسمة أكّدت لممثّلي هذا المعسكر اعتقادهم بوجود أسلوب لإلحاق هزيمة استراتيجية بإسرائيل. من هنا فإنّ المواجهة المقبلة هي مسألة وقت فقط، وعلى إسرائيل أن تسعى لإيجاد استراتيجية قادرة على الضرب بقوة في الحرب المقبلة، وتكون كفيلة بجعل أي غموض على نجاحها أمراً مستحيلاً.

* باحث في «مركز البحث العالميّ للشؤون الدوليّة» (GLORIA center) و«مركز هرتسيليا المتعدّد المجالات»

تعليقات: