فخار راشيا: من أقدم الصناعات


أعطى البلدة اسمه وتوارث المهنة خمسة حرفيين من مئة..

فخار راشيا بلغ عريش مصر ونال إعجاب لواز الفرنسية..

لم يكن اتخاذ قرار العودة من كندا الى لبنان أمراً صعباً على جهاد ابن بلدة راشيا الفخار في العرقوب. فعاد بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، واستقر نهائياً في قريته المتواضعة على كتف تلة تحيط بها كروم الزيتون القديم، الشاهد الحي على حكايا الماضي المأخوذة من تراث تناقلته الأجيال على مر التاريخ ولازم أهلها وكان مصدر رزقهم الوحيد، وصار صفة ميزت البلدة عن غيرها من القرى المجاورة. عودة جهاد الى الوطن كانت بعد تهجير قسري فرضه الاحتلال، وهي مربوطة بعامل التمسك بالأرض وإعادة إحياء إرث قديم مجبول بتراب راشيا، المادة الأساس في صناعة الفخار التي تشتهر بها البلدة منذ القدم. هذه الصناعة قديمة قدم التاريخ، ولازمت الأهالي جيلاً بعد جيل وكانت مصدر عيشهم الأول اذ كان يعمل بها ثمانون في المئة من الأهالي ويستفيد الباقون من أعمال أخرى تخدم هذه الصناعة.

ويقول هاني إسبر (83 عاماً) الذي يزاول هذه الصنعة، إن صناعة الفخار في راشيا مترسخة ومتجذرة في ذاكرة أبنائها الذين توارثوها من أجيال سابقة، وهي قديمة بشهادة الذين أكدوا أنها الأقدم في لبنان. وكانت مقصدا للسياح والزوار الذين أعجبوا بجودة هذه الصناعة التي تراجعت كثيراً مع اتساع رقعة العدوان الإسرائيلي، حتى أصبحت قلة ضئيلة تزاول مهنة الفخار للحفاظ على تراث لازم تاريخ البلدة منذ نشأتها.

وقال: "شهدت هذه الصناعة في السنوات التي سبقت العام 1948 ازدهاراً لا مثيل له، وكان تصريف الانتاج يبلغ فلسطين والجولان وحوران والأردن وصولاً الى عريش مصر. إذ كانت قوافل التجار تقصد البلدة لتعود محملة بأنواع الفخار المختلفة، وبعد إنشاء إسرائيل توقف التصدير ليقتصر على الأسواق المحلية".

تفاصيل الصناعة

أما جهاد إسبر العائد من كندا، فهمه الوحيد إعادة إحياء هذا التراث والحفاظ عليه، ويقول إنه تعلم الصنعة من والده، وهما يعملان معاً معتمدين الطريقة البدائية القديمة، على أمل اعتماد المكننة في وقت قريب. ويعمل معهما ثلاثة معلمين آخرين ليكون المجموع خمسة بعدما كانت راشيا تضم سابقاً نحو مئة معلم تعمل الى جانبهم مئة عائلة. وهناك أكثر من عشرين فرناً على الحطب يتسع الواحد منها لخمسمئة حُق (الحُق جرة صغيرة) ومنشلين وأربعة أباريق. وسمي الفرن قديماً عاكوشة وأصبح اسمه اليوم أتون. وعن هذه الصناعة قال: "التراب المستخدم هو الدلغان الأبيض المتوافر في محيط راشيا ويوضع بداية في حفرة عمقها بضعة أمتار ويخلط بالماء حتى يذوب وتنقى منه الشوائب ثم ينشف وينقل الى المشغل عجينة جاهزة للاستعمال. والمشغل آلة محلية بسيطة تدار بالأرجل بواسطة دولاب كبير مربوط بعمود يحمل في الأعلى دولاباً خشبياً أصغر حجماً توضع عليه العجينة المراد تصنيعها والتي تمر بست مراحل قبل أن تصبح وعاء فخار جاهزاً للبيع".

الوضع الآن

ويقول جهاد ان قرار العودة من كندا هدفه إنشاء تعاونية لإعادة إحياء هذه الصنعة، اسمها "الجمعية التعاونية الحرفية لإنتاج وتسويق الفخار في راشيا" وهي مسجلة تحت علم وخبر من وزارة الداخلية. ومن باكورة نشاطها دعوة حاكم مقاطعة "لواز" الفرنسية إيف روم شخصين من أعضاء التعاونية الى زيارة فرنسا 20 يوماً للاطلاع على المعدات والتقنية الحديثة المستخدمة في صناعة الفخار والسيراميك والتحف الفخارية. ومن الأفران المستخدمة هناك ما يعمل على الحطب ومنها على الكهرباء والغاز. وتلقى هذه الصناعة اهتماماً ودعماً كبيرين لدى الدولة والسلطات المحلية فتساعدها. وقال: "شاركنا في العمل وقدمنا نماذج عن وسائل التصنيع اللبناني الذي أثار إعجاب الفنيين الفرنسيين، حتى بهتوا للأداء اللبناني على الرغم من الطرق البدائية التي أظهرت نتائج تضاهي عمل الآلات الصناعية". وقال: "أعقب هذه الزيارة زيارة حاكم المقاطعة لراشيا ورافقه وفد من الصناعيين ومسؤولة العلاقات الخارجية فنشأ نوع من الصداقة بين التعاونية ومقاطعة لواز التي قدمت لنا فرناً كهربائياً مخصصاً لهذه الصناعة يتسع لمقادير لا بأس بها من الفخاريات الصغيرة والمتوسطة الحجم. ومن ميزاته القدرة على التحكم بدرجة حرارة ثابتة، وهذا أمر تتطلبه الفخاريات المطلية بألوان مختلفة. ولتطوير هذا القطاع تبقى التعاونية بحاجة الى عجانة ودولاب كهربائي وفرن حديث، شأنه تخفيف الاعتماد على اليد العاملة، وزيادة الإنتاج. ومن نشاط التعاونية مشاركتها في معارض في مناطق لبنانية مختلفة. وطالب المجلس البلدي بتقديم مساعدة لتشجيع هذا القطاع، وأشار الى وجود قاعة عامة أنشأتها الحركة الوطنية في الماضي وتسلمتها البلدية التي رفضت تسليمها الى التعاونية لإقامة معرض للفخار.

رئيس البلدية

وقال رئيس بلدية راشيا غطاس الغريب: "يسعى المجلس البلدي لإعادة ترميم الفاخورة القديمة بمساعدة تقدمها مؤسسة مرسي كور والإنعاش الاجتماعي وبرنامج الإنماء الدولي ومؤسسات أخرى، رغبة منا في تشجيع هذه الصناعة وتطويرها لتشمل القرى المجاورة، وتتعدى صناعة الفخار الى البورسلان والخزف الصيني لتوفير فرص عمل للكثيرين". وقال: "تملك البلدية قطعة أرض مساحتها 6000 متر مربع تنوي إقامة مشروع صناعي يخدم جميع العاملين فيها".

البلدة والسكان

تتبع بلدة راشيا الفخار إدارياً قضاء حاصبيا، وكان العدوان الإسرائيلي المتكرر منذ العام 1969 حتى العام 1978 (تاريخ دخول قوات الطوارئ الدولية) سبباً لهجرة أبنائها، فلم يعد عدد المقيمين يتجاوز 300 نسمة في الشتاء من ثلاثة آلاف. وتعرضت البلدة في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي لغارات جوية دمرت 80 في المئة من منازلها والفاخورة التي كانت آنذاك قيد الإنجاز.

وأصل كلمة راشيا سرياني وتعني رؤساء أو زعماء، والفخار ترجمة لكلمة سريانية تعني الخزف، وهذا ما جاء في كتاب الدكتور أنيس فريحة عن اسم بلدة راشيا الفخار.

وبين الطرق البدائية وإمكان التطوير تتسارع الأعمال مع مطلع كل صيف لكسب الوقت، إذ ان صناعة الفخار صناعة صيفية، وهي حديث الساعة عند الأهالي، لا سيما أصحاب الشأن والمهتمين الذين يزاولونها ويفخرون ويعتزون بتراث بلدتهم القديمة.

----------------------------

صناعة الفخار في راشيا «العرقوب» قديمة جداً بشهادة كبار المسنين من أهلها.

قبل 50 عاما كانت مراحل التصنيع شاقة لغياب وسائل حفر التربة، تغلّب عليها الأهالي، لأنه ليس من خيار أو بديل لتأمين لقمة عيشهم.

ويمكن استعراض الطرق والأساليب التقليدية التي اعتمدها الأهالي معتمدين على مادة الدلغان، وهي نوع من التربة موجودة في أرض راشيا على عمق نحو خمسة أمتار، وكان الحفر يدوياً، ليُنقل التراب على ضهور الدواب. ومع أوائل سبعينيات القرن الماضي تحولت أنظار العاملين في هذه الصناعة إلى بلدة ضهر الأحمر في قضاء راشيا الوادي لتخطي عناء الحفر حيث تتوافر التربة على سطح الأرض.

بداية يوضع التراب في مكان يسمى «المصاول»، ويخلط بالماء ويترك مدة أسبوع ليتحول إلى مادة طينية، تنقل إلى مكان التصنيع حيث السندان، وهو عبارة عن دولاب خشبي يدار بالأرجل، مربوط بآكس معدني ينتهي عند الأعلى بدولاب خشبي أصغر حجماً تمدّ عليه العجينة التي تأخذ شكلاً هندسياً يوضع تحت الشمس ليجف وينقل إلى فرن يعمل على الحطب.

هذه الصناعة تشمل الأباريق والجرار والخوابي والقدور وأواني الزينة والمزهريات التي كانت ضرورية في السابق وتحولت اليوم إلى كماليات تزيينية، بعدما استبدلت بالمنتجات الصناعية البلاستيكية والزجاجية. كان يعمل في هذه الصناعة أكثر من مئة معلم وعائلة، أما اليوم فهم قلة قليلة لا تتجاوز أصابع اليد، أرادوا من هذه الصناعة أن تبقى راية وعنواناً لبلدتهم. هم عائلات تمسكت، وما زالت، بحياة قروية، وفضلت البقاء في الريف على النزوح. هذه الشريحة تجد صناعة الفخار جزءاً من حياتها.

صناعة الفخار في راشيا ما زالت قائمة وفق الطرق التقليدية القديمة، بانتظار إدخال المكننة التي من شأنها تنمية هذه الصناعة، وبالتالي إعادة تنمية الريف، ولو ضمن إطار محدود.



تعليقات: