طب الأعشاب في لبنان ظاهرة مافيوية

الدكتور اسماعيل سكرية
الدكتور اسماعيل سكرية


أرباحه السنوية تجاوزت 40 مليار ليرة لبنانية

في ظل غياب سياسة صحية وطنية واضحة ومسؤولة، أصبحت حياة المواطن اللبناني "حقل تجارب" لمن هبّ ودبّ من "أبناء ابن سينا" القرن الواحد والعشرين· فأصبح هؤلاء ملوك "الشاشة الفضية" يروّجون لطب الأعشاب ويدّعون اكتشاف ما عجز الطب الحديث عنه من علاجات للأمراض المزمنة والمستعصية·

ويلعب هؤلاء "الخبراء" دور المبشّر ويستغلون مشاعر المرضى الذين يتعلقون بـ"حبال الهواء"، ولا من حسيب أو رقيب·

وبعدما كان "طب الأعشاب" علم يدرّس في بلدان أوروبا وأميركا، تحوّل في لبنان الى تجارة وظاهرة "مافيوية" وصلت فيها حركة سوق الأعشاب الى 40 مليار ليرة لبنانية· وفي سبيل الربح المادي يتحمّل ضمير تجّار الأعشاب السلبيات تجاه المواطن اللبناني الذي اتجه الى هذا الطب البديل هرباً من ارتفاع فاتورة الطب الحديث فكان مصيره الغيبوبة أو الموت·

تاريخ طب الأعشاب

يعتبر التداوي بالأعشاب من التقاليد العريقة في شبه الجزيرة العربية منذ قديم الزمان· وكان الأطباء العرب القدماء يؤمنون بأنه لا يوجد مرض لا يمكن علاجه بالنباتات· وقد تدرّجت معرفة هذا النوع من التداوي من سلالة الى أخرى حتى كوّنت ما يسمى بالطب الشعبي أو طب الأعشاب·

وقد اشتهر العرب في تطوير التداوي بالأعشاب خلال العصور الوسطى وانتشرت أبحاث ومخطوطات مبنية على قواعد قوية إبان العصر الذهبي للطب الإسلامي حيث انتشرت شهرة الأطباء العرب عبر العالم مع انتشار الإسلام، خصوصاً عن طريق الحجاج الذين يفدون الى مكة المكرمة والمدينة المنورة·

وتمتاز الأقطار العربية باتساع رقعتها واعتدال مناخها، لذلك فهي تملك ثروة طبيعية وأخرى اقتصادية هائلة من الأعشاب استخدمها قدماء المصريين والعرب من قديم الزمان ويشهد على ذلك ما دوّنه المصريون في بردياتهم، والعرب في مذكراتهم وموسوعاتهم عن النباتات الطبية، وكذلك ما تحويه أسواق العطارين من الأعشاب والثمار والبذور التي يستخدمها العامة في علاج أمراضهم، ولا يزال تجّار العطارة يستخدمون موسوعة ابن سينا، وتذكرة داود ومؤلفات الرازي وابن البيطار وغيرها من كتب العلماء العرب لعلاج المرض·

وقد عرف الإنسان منذ فجر التاريخ الأعشاب الطبية وفوائدها العلاجية المختلفة، فقد برع الصينيون والمصريون القدماء في علم التداوي بالأعشاب حيث استخدموا العديد من هذه الأعشاب في علاج الكثير من الأمراض، بالاضافة الى استخدامها في التحنيط، وكذلك في أمور الزينة والتجميل مثل نبات البلادونا (ست الحسن) الذي استخدمته النساء بكثرة لتوسيع حدقة العين· وفي العصور الاسلامية انتشر علم التداوي بالأعشاب وظهرت الكثير من الكتب والمخطوطات التي تشرح بصورة واضحة انواع الأعشاب الطبية المختلفة وطرق استخدامها وأنواع الأمراض المختلفة التي تستخدم فيها مثل هذه العقاقير الطبية· ومن هذه الكتب والمخطوطات كتاب "الطب" لإبن سينا، و"تذكرة داود" وغيرهما من كتب العلماء الأكفاء التي كانت تُدرّس لقرون عدة في المعاهد العلمية الأوروبية·

وهكذا، فإن طب الأعشاب أو الطب الشعبي جزء من الثقافة الشعبية ككل، خاصة في منطقتنا العربية، فقبل أن يعرف الناس شيئاً اسمه الطب الحديث، كان الطب الشعبي هو الذي يستخدم في التداوي، وبعد انتشار الطب الحديث بدأ الطب الشعبي يفقد بريقه لسنوات طويلة·

عربياً

غير أنه ومنذ سنوات اتجهت الأوساط الطبية والعلمية الى التركيز على اهمية الطب الشعبي والعلاج بالأعشاب بعدما ثبت علمياً فائدة كثير من تلك الأعشاب في شفاء العديد من الأمراض، فبعد أن وصل الإنسان الى الذروة، وجرّب التعامل مع الأدوية العصرية التي لا يخلو العديد منها من آثار جانبية، ها هو يعود اليوم مجدداً الى الطبيعة، وهذا ما زاد من الاهتمام بالبحوث النباتية واختيار خصائص العديد من الأعشاب·

وأصبح العلاج بالأعشاب اتجاهاً عالمياً أقرّته منظمة الصحة العالمية لمزاياه وفوائده شريطة ان تتم الأبحاث والدراسات حول فائدة هذه الأعشاب·

وكانت الكويت من الدول التي أولت اهتماماً خاصاً لهذا النوع من الطب، حيث ظهرت فكرة وجود مركز للطب الاسلامي لرعاية هذا العمل، ولاقت الفكرة الرعاية من حكومة دولة الكويت وتبنتها لتكون لها مقراً ومنطلقاً لطموح أكبر من أن تكون محلية أو إقليمية· وهكذا أنشأت المنظمة الاسلامية للعلوم الطبية بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية مركز الطب الإسلامي في الكويت وجعلته مركزاً اقليمياً معترفاً به لدى منظمة الصحة العالمية· وركّز المركز على الأدوية العشبية والنباتات الطبية وتشجيع البحث في مجال العلوم الطبية والشعبية والبديلة وتوفيرالامكانيات اللازمة لمتابعة الأبحاث والتجارب· وقد نشر المركز أكثر من 15 بحثاً كما سجّل 76نباتاً تم اختبارها ويقوم بعلاج حوالى 15 ألف مريض سنوياً بالأعشاب الطبية، واستطاع المركز أن يعالج بعض الأمراض من دون مضاعفات جانبية مثل الحساسية الأنفية والجيوب الأنفية والربو الشعبي والروماتيزم والسكري وغيرها·

الدجل الحالي

غير أن ما يشهده طب الأعشاب حالياً هو عملية خداع ودجل· وهكذا أصبح للعلاج بالأعشاب بعض العيوب، فهو أولاً علم دخله الكثير من التدجيل والخداع، وثانياً هناك صعوبة في تحديد دقيق لمكونات الدواء العشبي، وثالثاً ان معظم الرقابة على الأعشاب تقتصر على فحص تاريخ صلاحيتها أكثر من أن تكون رقابة صحية حول مفعولها، من هنا كان من الضروري ان يتم استخدام العلاج بالأعشاب بعد الحصول عليها من أماكن مرخصة وأن يراجع الأطباء أو المختصون قبل التفكير باستعمال العلاج العشبي، لأن لكل مرض علاجاً بوسائل وجرعات محددة·

لقد صاحب استخدام الأعشاب الطبية الكثير من عدم الدقة والمبالغة في الوصف الى الحد الذي دخل الدجل أو الخداع فيه· فقد تقرأ أو تشاهد في الإعلانات بأن الدواء العشبي الفلاني له مفعول سريع وسحري، ولكن عند الاستعمال تظهر الحقيقة، وتكون له تأثيرات جانبية لا تحمد عقباها· لذلك يجب استشارة الطبيب في ذلك وعدم التعاون في التعامل مع صحة الانسان من قبل اشخاص لا علاقة لهم بالطب ويدّعون الخبرة والتعمق في الموضوع، مع انهم ليسوا اكثر من تجار ومسوقين·

الوضع اللبناني

يزدهر "طب الأعشاب" في لبنان حيث ازدادت نسبة التداوي بالأعشاب بشكل لافت، وأصبح الناس يبحثون عن الطبيب العربي الذي يداوي فقط بالأعشاب الطبيعية حيث يعتقدون ان النتيجة حتمية لجهة التخلص من معظم الأمراض، أو على الأقل وضع حد لها·

وهكذا أصبحت الأجهزة الطبية والاستشفائية والصيدلانية في لبنان تعاني من "انفلاش" المداواة بالأعشاب التي اصبحت ظاهرة مستفحلة نظراً للحضور الكثيف لمنتجي الأعشاب و"خبرائها" في وسائل الإعلام اللبنانية، عبر اعلانات وبرامج حوارية، حتى وصل الأمر بادعاء "هؤلاء" قدرتهم على معالجة امراض مستعصية أو مزمنة انطلاقاً من ان المصابين بهذه الأمراض يتعلقون "بحبال الهواء" كما يقول المثل اللبناني·

غير أن للأعشاب وتجارتها وأرباحها الطائلة في لبنان قصة اخرى فما نواجهه هو "فوضى" عارمة مقسمة على محاور عدة قانونية، وإعلامية وطبية وتجارية وحكومية ونقابية· وثمة من يرجّح وجود متواطئين رسميين مع منتجي تلك المستحضرات·

ويشرح الاختصاصي في جراحة وأمراض الشرايين والأوردة الدكتور محمد خليل رضا ان ما نشهده في لبنان يندرج تحت اطار "الطهي" للأعشاب والخضار· فليس هناك ما يسمى بطب الأعشاب في لبنان لأن كلمة "طب" تعني الأبحاث والاختبارات والنتائج التي تؤدي الى امكانية استخدام هذه العشبة أو تلك في التداوي، فان ما يحصل هو عملية غزو نفسي يدّعي مروّجوها إحياء العظام واكتشاف العلاج لداء السرطان ويلعبون على الوتر الحساس للمريض الذي ضاقت به الأحوال المادية والنفسية·

الدكتور اسماعيل سكرية

من جهته، اعتبر النائب الدكتور اسماعيل سكرية ان اسباب لجوء المواطن للتداوي بالأعشاب يقع في عاملين: الأول ثقافي انطلاقاً من مفهوم ان الأعشاب هي امر سليم واذا لم تنفع لن تضر، والثاني هو ردة فعل لما آلت اليه امور الصحة في لبنان من استهلاكية فاجرة وارتفاع في الفاتورة الطبية· فما بين الطبيب والدواء والتقنية الطبية مكلفة الثمن والاستشفاء، هذه الدورة الصحية كلها، أصبحت تأخذ الطابع الاستهلاكي والتجاري المكلف، وفيها الكثير من التطرف في نوعية الدواء والتقنية المستهدفة والفاتورة الطبية·

الكلفة المرتفعة

للتداوي بالأعشاب

ويضيف الدكتور سكرية انه وانطلاقاً من السبب الثاني يمكن حصر الفئة المستخدمة لدواء الأعشاب في الأشخاص ذوي الامكانات المادية المنخفضة، علماً ان ما يترتب على هذا الاستخدام من أضرار صحية يفوق ما يكلّف المريض في الدورة الصحية العادية·

من جهته، يعارض الدكتور رضا ما يقوله الدكتور سكرية ويؤكد انه لا يمكن حصر مستخدمي دواء الاعشاب في فئة معينة دون اخرى، إذ ان ما يشاهده المواطن اللبناني لعملية "غسل الدماغ" التي يقوم بها "الخبراء" تطال كافة الفئات العمرية والاجتماعية·

ويضيف الطبيبان ان تهجمهما ليس على "طب الاعشاب" كطب بل كممارسة فعلية في لبنان· إذ ان الطريقة التي يمارس فيها في لبنان خطيرة ومرفوضة من الطب الحديث·

الطبيبة ألين طعمة

وتعتبر اختصاصية الصحة العامة في مستشفى اوتيل ديو الطبيبة ألين طعمة ان طب الاعشاب، كما يمارس في لبنان، هو طب يقوم على الدعاية ويوهم الناس احيانا بأن عشبة واحدة يمكن ان تشفي تقريبا من جميع الامراض· واشارت طعمة ان طب الاعشاب علم يدرّس في بلدان اوروبا واميركا ولكنه يمارس في لبنان بطريقة عشوائية· وقد لفتت الى ان الطب الحديث يلجأ بعض الاحيان الى النباتات في تركيب الادوية لما له من فوائد ولكن كل هذا يتم بطريقة علمية وتحت مراقبة منظمات عديدة·

فؤائد ومضار

وبالفعل لجأ العلماء الى استخراج المواد الكيميائية الفاعلة في الاعشاب وتنقيتها واستنباط تركيبها الكيميائي ثم ادخالها في مركبات صيدلانية محدودة العنصر العلاجي لجهة النوعية والكمية· وتلي ذلك دراسة دقيقة لمزايا المادة الاولوية لجهة الفعالية والعوارض السلبية بالاضافة للطريقة التي يتخلص الجسم منه لكي يأتي العلاج على اكبر قدر من الفعالية واقل ما يمكن من الاضرار حيث ان الخبرة كانت توحي ان العلاج هو كسيف ذو حدين يقطع المرض بحدٍ ويستطيع ان يؤذي الجسم بالحد الآخر·

وهكذا يظهر لنا ان لطب الاعشاب فوائد ومضاراً، وهذا ما يؤكده الاختصاصي في طب العائلة في مستشفى الجامعة الاميركية الطبيب باسم صعب الذي اشار لـ"اللواء" الى ان ادوية الاعشاب يمكن ان تشفي من الامراض الوظيفية العادية والبسيطة والعابرة مثل الرشح، غير انه من الصعب ان اصدق ان هناك عشبة عالجت التجلط الدموي او القصور الكلوي·

واجمع الاطباء الاربعة على ان الاعشاب التي تباع في السوق مختلفة عن الاعشاب التي نقطفها من الطبيعة، لان هذه الاعشاب عندما تصنّع تصبح "مركّزة" 10 اضعاف ما كانت عليه، وعندها يصبح لديها مضاعفات سلبية على وظائف اعضاء الجسم وتفاعلات سلبية مع بعض الادوية المنتشرة كأدوية الضغط والسكري والكلى· واوضح الاطباء ان المستشفيات والعيادات تستقبل الكثير من المرضى الذين استخدموا ادوية الاعشاب ونقلوا على اثرها الى المستشفى جراء قصور في وظائف الكلى او الكبد·

واشارت الطبيبة ألين طعمة ان مستشفى اوتيل ديو قد عرضت مرضى بالسكري وصلوا اليها في حالة غيبوبة بسبب ارتفاع كبير في قياس السكر في الدم نتيجة استخدام اعشاب معينة، اضافة الى مشاكل في الكبد والتهابات جلدية على أثر استعمال ادوية مكوّنة من اعشاب لم تُعرف تركيبتها بالضبط·

واشار الطبيب باسم صعب بدوره الى ان نبتة "Aristolochia" التي تستخدم في العلاج الصيني التقليدي وفي الحماية من لسعة الافعى وفي ادوية تخفيف الوزن والتخفيف صنفت من قبل المنظمة العالمية للبحوث السرطانية على انها ضمن المجموعة الاولى لمسببات السرطان· إذ انها تفرز حمض يسبب سرطان الكلى·

تجارب مؤلمة

ولعل ابرز ما يمكن التعليق عليه هو الحالات التي تصل الى المستشفيات في حالات غيبوبة جراء تناول ادوية الاعشاب· ويشير الدكتور صعب الى وصول مريضة سقطت في الشارع ووصلت الى مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت في حالة غيبوبة، وبعد اتخاذ الاجراءات اللازمة تبين انها تتناول مهدئا للاعصاب مستوردا من الصين ومصنوع من الاعشاب هو ما ادى الى انهيارها· والمولم في الامر انها تستخدمه لراحة الاعصاب فإذا به يؤدي الى انهيارها·

ولعل اصعب تجربة هي ما حصلت لبيار عواد الذي دخل المستشفى جراء تناوله لمستحضر عشبي يسبب له قصورا كلويا وردات فعل مناعية اودت بحياته·

نقيب الاطباء السابق والطبيب المعالج للسيد عواد الدكتور ماريو عون يصف ظاهرة "طب الاعشاب" في لبنان بالظاهرة المافيوية المنظمة· فبرأيه يندرج هذا الامر في "فوضى تطبيق القانون" التي يعانيها القطاع الصحي في لبنان "هناك دكاكين في هذا البلد ويجب ان تعمل وزارة الصحة على تنظيمها"·

ويتحدث عون عن مخالفات قانونية متعددة تبدأ بانتحال صفة الطبيب وما يليه ذلك من خداع يتعرض له المواطنون من خلال بيعهم مستحضرات لا يوجد ما يثبت فاعليتها العلمية لانها لم تخضع للرقابة· كما يؤكد عون ان كل الذين يطلون عبر الشاشة ليسوا اطباء حتى من يدعي منهم ذلك "فلا احد منهم مسجّل في الجدول النقابي"·

إزاء هذا الواقع المرير، كان لا بد من تحرك نقابي تنادى خلاله الى "بيت الطبيب" في بيروت وزير الصحة "المستقيل" الدكتور محمد جواد خليفة ونقيب الاطباء البروفسور جورج افتيموس ونقيب اطباء الشمال الدكتور نسيم خرياطي، ونقيب الصيادلة الدكتور صالح دبيبو ونقيب اصحاب المستشفيات سليمان هارون ورئيس جمعية حماية المستهلك الدكتور زهير برو وممثل "منظمة الصحة العالمية" في لبنان حسين ابو زيد حمّلوا فيه وسائل الاعلام تلك المسؤولية اضافة الى اسباب طبية وقانونية·

تعليقات: