صعقة كهرباء أنهت بؤس مريم وأراحتها من الفقر والعذاب


رحلت مريم رضوان، لكن انشغال العالم بهمومهم، جعل رحيلها صامتاً، فلم يسمع أحد به. رحلت وهي مصابة بصعقة كهربائية، قضت عليها، وكأنها أراحتها من حياة الفقر والعذاب.

في هكذا عصر، ليس غريباً أن يقضي المرء ساعات طويلة يبحث عمن يعرف شيئاً عن مريم، وعن إقامتها، ومن أين هي، ومن هم أبناؤها، ومن يهتم بها، لكن أحداً لا يعرف عنها شيئاً، حتى جارها في مصنع فرط الحديد في زاوية منعزلة في سقي #طرابلس الغربي، قبالة باب التبانة، مع أن جدار مبناه يفصله عن دار مريم، في حديقة من حدائق الليمون، بحائط من حجارة الاسمنت سماكة عشرة سنتمترات. والأغرب أن يصل الإنسان إلى منزل مريم.

يقول أحد مخاتير محلة باب التبانة محمود الزعبي إنها تقيم في منطقة تقع خلف مخفر الدرك القديم. مفترق يتوسط الطريق العام بين مستديرة الملولة، ومستديرة نهر أبو علي، ومنه نزولاً باتجاه الغرب نحو البحر. سرعان ما تنتهي طريق الزفت، عند منعطف يبعد عن مدخل المفترق زهاء مئتي متر، لتبدأ الطريق الموحلة، والموصلة إلى منزل مريم. حتى في هذه النقطة المتقدمة من منزلها، لا يعرفها أحد، ولم يسمع أحد أن سيدة ضربها التيار الكهربائي، وتوفيت. قلة نادرة ترامى خبر وفاتها لديها من عابري الطرق المتشابكة، والمتفرعة باتجاهات مختلفة، جلها من ناقلي الحدائد العتيقة المبيعة قيد الفرط والترحيل بهدف إعادة التدوير، أو من بعض المقيمين هناك في مصانع ميكانيك مختلفة.

تبدأ الطريق الموحلة بانتهاء الزفت، متجهة شمالاً، وكلما أوغلت الطريق داخل بساتين الليمون المصونة بأسوار القصب، تعمقت الأوحال، وكبرت، واتسعت الحفر، وازدادت حدودها حدة وارتفاعاً، فتكاد تتشقلب السيارات العابرة لها، خصوصاً سيارات "البيك آب" الناقلة لبقايا الحدائد. وحدها الدراجات النارية التي لا يأبه ركابها بالتلوث بالأوحال، تستطيع العبور برشاقة خصوصا متى اقترنت باحترافية عالمة بالممرات وما تخفيه.

عدة منعطفات تنتهي بطريق طويل مستقيم بين أسيجة القصب، تخفي في وسطها بوابة حديد عريضة، مطلية بالزرق الفاتح، يفترض انه خلفها يقوم سكن مريم، وزوجها، وما أنجبته من أولاد لا أحد يعرف عنهم شيئا.

لكن المختار الزعبي أفاد أن مريم تناهز من العمر ستين عاماً، وزوجها خالد ملحم يناهز الخمسة وستين عاماً، وهم من بلدة مشمش في عكار، حيث نقلت لتدفن هناك. وقال الزعبي إن لديها ما بين سبعة أو ثمانية أبناء، وهم موجودون في جرود عكار على بعد نحو خمسين كيلومترا من طرابلس.

وفي إطلالة من فتحة بين القصب وعمود دعم البوابة الحديد، ينكشف دار وسط بستان ليمون، سكنته مريم وزوجها، وبنت فيه عائلتها، ويفيد الزعبي أن كثيرين يسكنون في المحلة على غرار مريم وعائلتها، وهم منتشرون في بساتين الليمون حيث يعملون.

في الدار غرفة من حجارة إسمنت عتيق، مسقوفة بصفائح الزنك، كانت مريم تقيم فيه. وتنتشر حوله بقايا حدائد، وبعض بقايا ألعاب كدراجات هوائية بالية للأطفال، لا بد من أن أحفادها كانوا يستخدمونها، ويلهون بها لدى زياراتهم لجدتهم. كما تنتشر بعض ثياب منشورة على حبال لا يتوافر من يخبر عنها، ولا عن الدار وساكنيه.

ورغم عدة نداءات، يعود الصدى من دون أن يرد احد. ويقول الزعبي إن المرجح أن الأهل والأبناء في التعزية، لكنه لا يعرف عنهم شيئاً، فهم ليسوا من المدرجين على لوائحه.

في العودة من المنزل، يتفرع طريق شرقاً، وفيه عدة كاراجات لتصليح الآليات، لم يسمعوا بمريم، ولا بحادثتها. ويعبر "بيك آب" فيقول سائقه الشاب الثلاثيني إنها ليست من المدينة، وهي من مشمش في عكار، ولا يعرف عنها اكثر من ذلك. وبعيداً من هذه النقطة نحو خمسين متراً، يلاعب رجل أولاده الخارجين من منزل شبيه بمنزل مريم، يفيد بلهجة سورية تشي بأنه من النازحين، أن مريم كانت تمر يومياً أمام منزله، مع كنتها، وتستند إليها لتثاقل حركتها، ومعهما حفيدة لمريم. لكن الرجل لا يعرف أكثر من ذلك عن جارته التي توفيت صعقاً بالتيار الكهربائي، وكأن شيئا لم يكن.

اصيبت مريم بصعقة كهربائية، ولا بد بحسب ما يتوافر من معلومات أن كنّتها حاولت إسعافها، وتأمين نقلها لتلقي الإسعاف والعلاج، لكن يبدو أن مريم فارقت الحياة تحت وطأة الإصابة.

رحلت مريم بهدوء، من دون اهتمام من أحد. إنه عصر لم يعد لقيمة الانسان مكانتها السابقة، لكن مريم رحلت راضية مرضية، مفضلة نهاية حياتها الزمنية الصعبة.





تعليقات: