للحقيقة، لا للدفاع عن سليمان فرنجية

سليمان فرنجية
سليمان فرنجية


قد يكون صحيحاً أن اللهجة التي استعملها سليمان فرنجية في التخاطب مع السلطة الكنسية غير مسبوقة. إلّا أن ذلك لا يُفهم إلاّ على ضوء أن الوضع المسيحي اللبناني اليوم، الذي تتوزّع مسؤوليات بلوغه على كثيرين، بينهم بكركي نفسها، غير مسبوق أيضاً.

وقد يكون صحيحاً أن رئيس تيار المردة خرج في كلامه، لا عن الضوابط الأدبية أو الأخلاقية، بل عن ميتومانيا المحرّمات والتابو والكلمات ـــــ المخاوف، أو مفهوم «أونوماتوفوبيا» الذي يسكن المسيحيين. لكن الصحيح أيضاً، أنّ ما قاله فرنجية يكرّره قسم لا يمكن قياسه من المزاج المسيحي العام والماروني الخاص. وهو يستند في الإعلان والكتمان، إلى كمّ لا يحصى من الانتقادات والتحفّظات والملاحظات بشأن الأداء العام للسلطة الكنسية، في الشأنين الكنسي والسياسي، كما في الدوائر الشخصية والعامة.

لكن الأهمّ أن مسارعة البعض إلى محاولة استغلال السجال بين بكركي وبنشعي، من أجل تسجيل النقاط السياسية، في حلّة الغيارى على الصرح، فيها الكثير من مفاهيم الخبث السياسي، والتنافق، على قاعدة النفاق المتبادل بين المزايدين والمزايد عليه.

ذلك أنه بمعزل عن طبيعة التناول النقدي لأي إكليريكي، تدرك السلطة الكنسية الحالية، أن تاريخها المتراكم مع المدافعين عنها، ليس سفراً أبيض. ومن دون العودة إلى هجائيات الأفرقاء غير المسيحيين، يكفي التذكير بأن التباين السياسي بين القوى الزمنية والسلطة الروحية، كان أقرب إلى قاعدة العلاقة بين الطرفين. والأمثلة على هذا الأمر، في ظل حضور البطريرك الحالي، أسقفاً وبطريركاً، كثيرة لا تحصى. وقد يكون أبرزها ذلك «الصدام» الذي حصل بين مجلس المطارنة الموارنة ومجلس قيادة القوات اللبنانية في 30 أيلول 1986. يومها كانت أيام ثلاثة قد مضت على محاولة الاختراق العسكري الفاشلة للمناطق الشرقية، وما تلاها من حادثتين مؤلمتين، واحدة في المونتيفردي بين الجيش والقوات، وثانية ظلّت مجهولة الفاعل، انتهت باغتيال العقيد خليل كنعان.

في ذلك النهار التأم مجلس المطارنة الموارنة في بكركي، وأصدر بياناً قاسياً، خالف كل الخطاب السياسي القواتي والمسيحي حتى. فرأى أن المحاولة العسكرية تلك دليل على «تفسّخ خطير في القوات»، ودعا إلى شبه إلغائها من جانب «القوى الشرعية الوحيدة المقبولة»، عبر مناشدتها «تسلّم المرافق والمرافئ»، غامزاً من قناة حساسة، هي «الجبايات التي استُعملت في نزاعات داخلية لكسب السلطة والنفوذ». والأهم أن بكركي ذهبت يومها إلى اتهام القوات في شكل خفي، باغتيال كنعان، من دون دليل ولا قرينة. فنصّبت نفسها ادعاءً وقضاءً جالساً، متحدثة عن «من يدينون بالثأر والانتقام».

وفي اليوم نفسه ردت القوات على بكركي في شكل لاذع، متحدثة عن «معلومات مغلوطة»، ومتهمة إيّاها بمحاولة «الإيقاع بين الجيش والقوات»، وغامزة من قناة الإمكانات المالية للكنيسة.

قبل ذاك الصدام، كان احتكاك آخر يوم إسقاط الاتفاق الثلاثي في 15 كانون الثاني 1986، عندما أعلن المدبّر الرسولي المطران إبراهيم الحلو: «قايين قايين، ماذا فعلتَ بأخيك هابيل؟»، وبعده كان احتكاك أكثر دقة مع الاغتيال الغامض للمونسنيور خريش، وما رافقه من شائعات.

هكذا يدرك المعنيون جميعاً أن التباين السياسي أمر طبيعي، وهو استمر في كل لحظة، وصولاً إلى إعلان بكركي الصدمة في 5 آذار 2003 عن تقديرها لحكمة الرئيس السوري بشار الأسد وبعد نظره، عشية حرب العراق.

وبين تلك المحطات كلها، ظل المحيطون بالصرح منقسمين بين مذهبين: مذهب الكلام المنافق والممالئ والمحابي، ومذهب الكلام المصارح والمكاشف والصادق.

وأهل الصرح القريبون يدركون مأساة أن أصحاب الخطاب الأول هم الأقرب والأنجح في العلاقة مع طبقة الإكليروس عامة، مع استثناءات قليلة، إن لجهة سياسيين صادقين، أو لجهة رجال دين متنوّرين لا يؤخذون بالتقيّة والباطنية وتقبيل الأيدي.

وهؤلاء يعرفون أن بين الغيارى على الصرح، من كان خلف الكتاب المرفوع سنة 2000 إلى الفاتيكان، لتنحية البطريرك مع بلوغه سن الثمانين. وبينهم من يتندّر بأساليب خاصة لأخذ المواعيد في بكركي، ومن يهمس حول ملفات ثقيلة مطروحة بين الصرح والكرسي الرسولي. ومن يتباهى أنه من بيئة لم تعط رجل دين واحداّ طيلة قرون، ومن يعلن أنه ماسوني، مع ما لهذه الصفة من طقوسية سطحية فارغة عقيدياً في لبنان، باستثناء العداء للإكليروس. وبينهم من يعرف تماماً كيف انتهكت حرمة بكركي ذات يوم، وكيف لجأ سيدها إلى الديمان ليكون في حرمة أهل الشمال في ذلك الزمن.

... قبل قرنين، كتب مستشرق فرنسي أنه زار جبل لبنان، ووجد إكليروساً مارونياً، «رهباناً قلوبهم من ذهب وعصيّهم من خشب»...

--------------------------------

كيـف تسارعـت الأحـداث على خطّ بكركي؟

ثائر غندور

وأخيراً استطاع السفير البابوي لويجي غاتي أن يكبح جماح المواجهة الكلاميّة بين البطريركيّة المارونيّة وفريق السلطة من جهة، ومسيحيي المعارضة من جهة أخرى. وجاء اتصال المطران بولس مطر بالنائب ابراهيم كنعان، عشيّة أول من أمس، ليعيد الأمور بين جنرال الرابية والبطريرك صفير إلى شيء من الهدوء.

فقد قال مطر لكنعان إن بكركي راغبة في التهدئة، وطلب تأمين اتصال بين العماد ميشال عون والبطريرك صفير، فوعده كنعان بذلك. وهو ما حصل، واتفق الطرفان على تهدئة الشارع، على أن يهدئ صفير خطابه. وقد تم «الإخراج» عبر إعلان بكركي عدم استقبال الزوار لمدة ثلاثة أيام من أجل التفرّغ للصلاة والتأمّل، وهذا يلغي حكماً تدفّق فريق السلطة على الصرح يوم الأحد. لكن ذلك لم يمنع صفير من استقبال النائب هنري حلو صباح أمس، فاستؤنفت الاتصالات لإعادة تمتين الاتفاق، وأبلغ صفير إلى السفير البابوي أن هذا هو آخر لقاء يجريه.

ولم ينفِ المطران مطر اتصاله بكنعان، لكنّه رفض التعليق حتى «يُستكمل حلّ جميع الأمور». وأضاف: إن النقاش بين المطارنة جارٍ «لأننا طلّاب حلّ».

وجاء تسارع الأحداث هذا بعد «كباشات» سياسيّة بين بكركي والتيّار الوطني الحرّ وتيّار المردة، مرّت فيها العلاقة بمراحل غزل ومراحل تدهور. كما أن المطالبة باستقالة صفير ليست جديدة، بل طرحت في صيغة استفتاء موقع النشرة الإلكتروني الذي يملكه أرز المرّ المقرّب من التيار الوطني الحرّ والذي يرتبط بصلة قربى مع النائب ميشال المرّ، وجاءت النتيجة أن ما يزيد على 80 في المئة يطالبون باستقالة صفير.

وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحد من التأزيم، بدأ كل فريق بمراجعته الذاتيّة لما حصل. على صعيد المطارنة الموارنة، فإنهم يلتزمون الصمت حتى انتهاء مراجعتهم وصلواتهم. أمّا على صعيد فريق السلطة، فهو يرى أن الدفاع عن موقع بكركي ضرورة وطنيّة لأنها «مرجعيّة روحيّة وسياسيّة ومن غير المقبول التعرّض لها بالشكل الذي حصل بحسب عضو المكتب السياسي في حزب الكتائب ساسين ساسين.

أما على الضفّة العونيّة، فيقول بعض المطّلعين إن فريق السلطة يتلطّى وراء بكركي لأنّه يفتقد الشرعيّة الشعبية. ويذهب آخرون إلى أن دفع بكركي نحو الحدّة يُضعفها كما يُضعف المرجعيّة السياسيّة للمسيحيين أي عون.

ويقول أحد العارفين بأسرار التوتر بين عون وصفير إن الأخير وصل إلى اقتناع مفاده أنه لا بد من التعايش مع عون، ولكن ذلك يوجب إعادة صياغة العلاقة معه. ويرى هذا العارف أن الوزير سليمان فرنجية يستطيع أن يكون حاداً في مواقفه ضد بكركي نظراً إلى عراقة عائلته سياسياً، بينما التيار لا يستطيع أن يماشيه لأن جمهوره في جبل لبنان لا يزال على ارتباط وثيق ببكركي.

ويقول أحد المراقبين إن شعبية فرنجية ربما تكون قد ارتفعت بعد خطابه الذي تجاوز المألوف، لكن عون لا يستطيع أن يلعب هذه اللعبة، ولذلك «على بعض العونيين الذين يهاجمون صفير أن يسكتوا، لأن على عون أن يمسك عصا العلاقة مع بكركي من النصف».

تعليقات: