الرملة البيضاء..نافذتنا الأخيرة على البحر + VDU

ينظران إلى شاطئ الرملة البيضاء (فادي أبو غليوم)
ينظران إلى شاطئ الرملة البيضاء (فادي أبو غليوم)


قضاء العجلة غير مخول للبت في قضية المسبح الشعبي!

بين "خناقات" أصحاب رؤوس المال والمُتشدّقين بحماية الملكية الخاصة، وبين القضاء الذي يجتهد فيُفلح حيناً ويُخفق أحياناً كثيرة، يجلس الرجل على الشاطئ شبه المهجور. لا يكترث لسطوع شمس حزيران القاسية، ولا للوحدة التي تحيطه فيُمدد جسده على الرمال الحارقة. يُخرج قنينة ماءٍ من جعبته التي يضعها إلى جانبه، يرشف رشفةً صغيرة، ثمّ يعيدها إلى مكانها "الآمن". في تمدّده ينظر إلى السماء التي لم تتعرّض "حتّى الآن" لبراثن "الخصخصة". يعلم الرجل أن بعض مداخل الرملة البيضاء، التي وجد فيها متنفساً له، لا يزال تحت خطر الإقفال. وعلى الرغم من "الأسباب الغامضة" التي حالت دون إقفال مدخلٍ من مداخلها الثلاث، إلا أن خطر خصخصة الرملة لم يتوقف بعد. فلبنان هو بلد تقديس الملكية الخاصة ولو على حساب "ما يتنفسّه المواطنون".

تراجعٌ مجتزأ

منذ ثلاثة أيامٍ، تراجعت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن عن قرار إقفال مدخل واحدٍ من أصل ثلاثة مداخل كانت قد أصدرت فيها قراراً بالإقفال منذ عدة أيام (مدخل العقارات 4026 و4027 و2369 المصيطبة، التابعة لشاطئ الرملة البيضاء). وقد استندت في قرارها على "ظهور معطيات أضحت معلومة من الكافة تنطوي على ما يفيد، جدياً، بأن الغرض من وراء تقديم تلك المراجعة إلينا، واستصدار ذلك القرار منا، كان يتجاوز حدود حماية الملك الفردي، ويهدف إلى تحقيق مآرب أخرى".

وتعقيباً على قرارها الأول، اعتبرت الحسن في قرارها الثاني، أن "إجابة طلبها الرامي إلى إقفال مداخله لن ينعكس بأي وجهٍ من الأوجه على إمكانية دخول العموم إلى "المسبح الشعبي"، على اعتبار أن ثمة ممراً مفتوحاً أمام هؤلاء من خلال عقارين ملاصقين لعقار الجهة المستدعية، أحدهما تعود ملكيته إلى بلدية بيروت".

وتابعت الحسن مبررةً "وحيث إننا عمدنا في ضوء ذلك إلى إجابة الطلب، والترخيص لتلك الجهة المستدعية بالقيام بإقفال تلك المداخل بإشراف الخبير سمير بيه، من دون أن ينهض في الملف أي معطى يبين، ولو على وجه الاحتمال، أن الغرض من وراء استصدار ذلك القرار منا كان يتجاوز حد حماية الملك الخاص أو يرمي إلى منع وصول العموم إلى ذلك المسبح الشعبي".

من يطلع على الكلام الوارد في قرار "الإبطال الجزئي لمفعول القرار الأول"، يُخيَّل إليه أن المشكلة الرئيسية التي كان يحويها القرار السابق، "والتي كان يغيب مضمونها عن معرفة الحسن"، هي مشكلة "تحقيق المآرب وتجاوز حماية الملك الخاص". إلا أن حقيقة الأمر مغايرة لذلك تماماً.

عدم أحقية قضاء العجلة للبتّ في القضية!

قبل الاطلاع على المغالطات الجمة التي حواها القرار الأول، يجب النظر في "أحقية قضاء العجلة للبت في القضية". يُشير تقرير "الائتلاف المدني لحماية وتطوير المساحات العامة" (جمعية التجمع للحفاظ على التراث اللبناني)، والذي جاء تعقيباً على قرار الإقفال، إلى أن "القضاء لا يمكن أن يقوم مكان الإدارة وأن قضاء العجلة هو قضاءٌ مدني لا يحق له الدخول في الأساس كما هو غير مختصّ أو غير صالح في كل قضية تكون الإدارة الرسمية طرفاً فيها أو موضوعها يتعلق بإدارةٍ رسمية". كما يوضح أن تلاعباً قد تم لإخفاء عدم الأحقية من خلال "عدم الكلام عن جميع تجهيزات ومحتويات هذه العقارات التي تملكها إدارة رسمية، في هذه الحالة هي المديرية العامة للنقل، وعدم الكلام عن أن هذه العقارات هي اليوم مسبح شعبي، وعدم الكلام عن أن نفس هذه الإدارة الرسمية هي التي تدير هذا المسبح بواسطة جمعية مدنية"، واصفاتً الأمر بـ "بمثابة إخفاء للحقيقة ولظاهر الحال سببه محاولة عدم إدخال هذه الإدارة الرسمية كطرف في الشكوى، إذ في هذه الحال لن يكون القاضي صالحاً للبت في القضية". واستناداً إلى هذا فإن الحسن لا تملك أحقية البت في القضية على مستويي، إصدار القرار الأول والرجوع عنه.

رمال الرملة البيضاء واضحة للعيان!

وبالتغاضي عن فكرة عدم أحقية الحسن للبت في القضية، فقد حوى قرارها الأول على مغالطاتٍ كثيرة تتعدى، مجدداً، فكرة "تجاوز حدود الملك الفردي". فقد استندت القاضية في قرارها على "تقرير الخبير سمير بيه"، والذي اعتبرت، بالرجوع إليه، أن "العقارين رقم 4026 و4027 المصيطبة هما ملكٌ خاصّ للشركة المستدعية (شركة عقارية البحر المتوسط) من دون أن تكون لأي جهة أخرى أي حقوق عينية عليه بالحدود المبينة في خريطة المساحة المنظمة من المسّاح عبد ربه الغفور والمرفقة بتقرير الخبير، ولناحية كون منصات المراقبة المثبتة من قبل المديرية العامة للنقل البري والبحري خارج حدود هذين العقارين". يتحدّث تقرير الجمعية عن وجود خطأ في هذا الاستناد، حيث أن "القاضية لم تلحظ سوى منصات المراقبة كملكٍ للمديرية العامة للنقل معلنةً أنها خارج حدود هذه العقارات الثلاث ومنها انتقلت لاتخاذ القرار بالموافقة على إقفال مداخل هذه العقارات". ويضيف التقرير "بالرغم من تقرير الخبير الذي قام بجرد محتويات هذه العقارات مبيناً المنشآت والتجهيزات العديدة بما فيها الدرج المعدني لمدخل المسبح والتي بمجملها ملك مديرية النقل (أي الإدارة الرسمية)، إلا أن الخبير قام بالتأكيد أن هذه أرض هذه العقارات هي أرضٌ رملية على شاطئ الرملة البيضاء والتي تستخدم حالياً هذه المنصات". وفي ذلك تناقضٌ مع ما نصّ عليه القانون في أن ها المسبح هو محدّد حالياً بجميع المساحات الرملية من الشرق إلى الغرب ما بين الكورنيش والبحر ومن الشمال إلى الجنوب من الصخر إلى الصخر أي: ابتداءً من الشاطئ الرملي تحت العقار 5071 المصيطبة سابقاً (المدموج حالياً ضمن العقار 1554) حتى العقار 3692 المصيطبة (المدموج حالياً ضمن العقار 3689- أحد أقسام مشروع "إرين ديك").

وتعقيباً على ما ورد في تقرير الخبير حول طبيعة "الأرض الرملية على شاطئ الرملة البيضاء" يوضح تقرير الجمعية أنه "حتى لو تم تحويل، عن قصدٍ أو خطأ، أملاكٍ عمومية بحرية أو سواها إلى أملاك خاصة، ولو تبع ذلك إصدار صكوك ملكية بشأنها، هذا لا يُلغي التصنيف العام لهذه الأملاك". كما يؤكد ً أنه "في ما خص الرملة البيضاء، فإن طبيعة الأرض هي، من جهة أساس التصنيف العمومي لهذه الأملاك، ومن جهة أخرى لا تزال حتى اليوم طبيعة الأرض الرملية الطبيعية واضحة للعيان وضوح الشمس".

الملكية الخاصة قبل العامة

إن التسلسل القانوني (بالأهمية الشرعية) هو على الشكل الآتي: أولاً، المصلحة العام أو المنفعة العامة. ثانياً، الملكية الفردية. ثالثاً، التطوير العقاري. واستناداً إلى هذا التسلسل يظهر لنا أن إيلاء الأهمية للملكية الخاصة يجب أن يأتي بعد الأخذ بعين الاعتبار الملكية العامة. بمعنى آخر، أن "على الملكية الفردية حتى ولو كانت مصانة قانوناً ولو انتقلت إلى مرحلة التطوير العقاري، أن تحترم الشروط الملزمة نتيجة تطبيق المصلحة العامة أو أقله أن تتلاءم مع مضمونها"، يشير تقرير الجمعية. كما يؤكد أنه "لا يحق، في جميع الأحوال، للملكية الخاصة أن تتعدى على الملكية العامة". وانطلاقاً من هنا، لقد كان بالأصل قرار الحسن الأول في تفضيل الملكية الخاصة على العامة خارقاً للقانون، ولو أنها عادت وتراجعت عن هذا التفضيل في قراراها الثاني تحت ذريعة "تجاوز حدود حماية الملك الفردي، وتحقيق مآرب أخرى".

الرملة والدالية قضيةٌ واحدة

التراجع الجزئي عن قرار الإقفال (التراجع عن إقفال مدخلٍ واحد من المداخل الثلاثة) كان محط استغراب الجهات المعنية. في هذا السياق، أشارت جمعية "نحن" التي تُعنى بالمساحات العامة، إلى أن "عقارات الثلاثة هي أملاك عامة بناءً على القانون 1925 لا تباع ولا تشترى مع مرور الزمن بالإضافة إلى أن قانون البيئة رقم 444 يمنع إغلاقها أمام العموم ويوصي بحق الوصول السهل والحر إلى هذه الأملاك". كما لم يغِب عن بال الجمعية إعادة التذكير بـ"قضية دالية الروشة التي ستصدر فيها الحسن قراراً في الأيام المقبلة"، مؤكدةً "وحدة قضيتها وقضية الرملة البيضاء، فكل العقارات التي يصل إليها الموج هي أملاك عامة بحرية بحسب قانون 1925".

حرية لا يُمكن سلبها..

في لبنان مرافق قليلة لم تخرج بعد من تحت عباءة الدولة. شيئاً فشيئاً يتحول "وطن الجميع" إلى ملكيةٍ خاصة كبيرةٍ يتقاسمها أصحاب رؤوس الأموال. يزيدهم التملّك "المخالف للقانون" طمعاً وجشعاً، فلا يميزون ما لهم وما للآخرين. من دالية الروشة التي خُطف هواؤها وتحوّلت إلى سجنٍ على الشارع العامّ، إلى "حرش بيروت" الذي تُعدّ ملكيته العامة "متل قلّتها"، مروراً بـ"سوليدير" التي استولت "بالقانون" على 292 ألف متر مربع من واجهة بيروت البحرية، فالمساحات البحرية التي تُردم "خدمةً للسياحة"، وصولاً اليوم إلى المسبح الشعبي، ابن ال32 عاماً، في الرملة البيضاء. هذا الشاطئ لا يعرف الاستسلام. هو يدري تماماً أن معركته ربما تكون طويلةً وشاقة مع "الجشعين". لكن له ثقة "بأبنائه" الذي يعرفون حقوقهم ولا يتنازلون عنها. أما "رجل الرملة البيضاء" فسوف يبقى هناك، على الرمال العامة، متحدياً كل من يجرؤ على سلب ما يملكه الجميع، وليثبت أن هذه الحرية لا يمكن سلبها.










تعليقات: