«نزوح» من الضاحية وهواجس

أفراد وعائلات يبحثون عن بدائل سكن وعمل ودراسة... خارج الضاحية (عباس سلمان)
أفراد وعائلات يبحثون عن بدائل سكن وعمل ودراسة... خارج الضاحية (عباس سلمان)


لم تعتد الضاحية الخوف اليوميّ في أوقات السلم. ولطالما اعتُبرت الأكثر أمناً في ذروة الاغتيالات والسيارات المفخخة. احتضنت فقراء العاصمة ونازحي القرى الجنوبية والبقاعية، ووفرّت لهم أماناً غاب عن قراهم لسنوات.

لم يعد الأمر كذلك منذ انفجاري بئر العبد والرويس، أو بالأحرى منذ الحرب في سوريا. بعد الانفجار الأول، سمعنا كثيرين يعتقدون أنّ «اسرائيل دخلت مجدداً». وعادت إلى أذهانهم وقائع عدوان تموز. فحدوث انفجار في الضاحية يعتبر خارج نطاق التفكير. أثار صدمةً، سرعان ما تحولت إلى حالة رعب مع مشهد الرويس الدموي.

استعاد البعضُ خطاب حرب تموز رداً على التهديدات الأخيرة: «لن نخاف»، «فدا السيّد»، وسوى ذلك من الأدوات التي يمكن وضعها في سياق مواجهة الموت والهزيمة. والبعضُ الآخر احتفظ بالصمت في ظل يوميات معلقة بالخوف وكثافة الحواجز. وبينهما أفراد وعائلات يبحثون، من دون ضجيج، عن بدائل سكن وعمل ودراسة... خارج الضاحية.

تخبّط نفسي

لم تعد زينب تحتمل انتظار عودة ابنها، كل ليلة، على وقع احتمالات التفجير وكوابيس الموت. عين على نشرات الأخبار وأخرى على الشرفة، تنتظره يومياً بقلب ينبض خوفاً. «على أعصابي بالبيت، انتظره»، تكرّر في سياق حديثها. تسكن وعائلتها في بئر العبد منذ يوم زفافها، قبل اثنين وعشرين عاماً. أُصيبت بالرعبين، في بئر العبد والرويس معاً. يومها صرخت تبحث عن أولادها وهم إلى جانبها. «كان رعب العمر، افتكرنا إسرائيل عم تضرب».

تبحث زينب عن منزل داخل العاصمة، لا في ضاحيتها. «الفكرة بدأت مع انفجار بئر العبد، لكن الأمر حُسم مع انفجار الرويس». الانفجار لا يصيب حصراً الضحايا الذين فقدوا أرواحاً أو بيوتاً، بل الضحايا المحتملين أيضاً. «عايشين حالة رعب، متلنا ومتايل، طبعا»، مؤكدةً أن حالتها ليست فردية. «بس كل إنسان حسب ظروفه. نحن قادرين نترك، يمكن غيرنا مش قادر».

«القرار صعب»، تُعبّر بصوت منهك. ليس بديهياً أن يترك المرء منزله وجيرانه. «كل ذكرياتي وذكريات أولادي بهيدا البيت. كل زاوية من البيت تحمل قصصاً»، تقول بارتباك. يقلقها الذهاب إلى حيّ سكنيّ لا تألفه. بالنسبة إليها، مغادرة المنزل ليست مسألة جدران خاوية. «تتركين جيرانك، الخضرجي الذي تثقين به، واللحام الذي لا يمكن أن يغشك». تفاصيل تبدو هامشية عند كثيرين، لكن أساسية بالنسبة إليها.

تعيش تخبطاً يومياً مع كل جولة بحث عن منزل. تحاول ايجاد علة في المنزل الجديد، ما إن يتقدم النقاش مع المالك في اتجاه توقيع عقد الايجار، وكأن شيئاً ما داخلها يمنعها من مغادرة منزلها في بئر العبد. تعود إلى بيتها وتشعر بالذنب. تحاول انتقاء كلماتها بهدوء لا يخلو من تردّد: «خايفة إذا صار شي، لا سمح الله، يأنبني ضميري». تضيف: «سنستأجر منزلاً في بيروت ونراقب الوضع، إذا تحسن نعود إلى منزلنا».

إلا أن إيجاد المنزل لا يعيقه التخبّط النفسي فحسب، بل أسعار الإيجارات. «سنؤجر منزلنا وندفع فرقاً لنتمكن من السكن في بيروت. مضطرين. ألف دولار بالشهر مش كلمة بالفم». تلفت زينب إلى أن ثلاث عائلات من جيرانها تفكر في الأمر نفسه: « ليش لأ؟ إذا قادرين مادياً. بتختصري رعبات لا اكثر، ما يكتبه ربنا يحصل بالآخر».

مستويات

انتقلت فرح مع عائلتها منذ نحو أسبوع إلى منزل مع حديقة، مطلّ على البحر، في جل الديب. الأمر لا يتعلق برفاهية المكان الجديد فحسب، بل بالوضع الأمني المستجد في مكان إقامتها السابق، الرويس. «مغادرة الضاحية خطوة أولى، تمهيداً لطلب الهجرة إلى كندا»، تُشير الشابة في بداية حديثها.

«نفكر بالأمر منذ حرب تموز، حين انتقلنا خلال الثلاثة وثلاثين يوماً إلى منتجع في جونيه. لكننا عدنا إلى الرويس بعد عمليات إعادة الإعمار». ترى أن الوضع حالياً أخطر من أيام الحرب: «يمكن الابتعاد عن جبهات القتال، لكن لا يمكن تجنب سيارات مفخخة!».

«مش حابي كون رقم»، تقولها ثم تستدرك أن لا أحد يحب أن يصبح رقماً: «أحترم الناس الصامدين، لكنني لا استطيع أن أكون مثلهم». تؤمن فرح بالمقاومة على مستويات عدة: «لا يُفترض بالجميع المواجهة في الصفوف الأمامية». وتحرص على تأكيد إيمانها بالمقاومة وبخيارات «حزب الله»: «يمكنني أن أمارس دوري من خارج الضاحية».

لكن ليس للجميع رفاهية السكن في العاصمة أو في شقق مطلة على البحر. تلك الخيارات تبقى محصورة بالميسورين. يسعى بعض أصحاب المداخيل المحدودة إلى النزوح العكسي في اتجاه القرى الجنوبية.

نزوح عكسيّ

يدرس محمد جدياً موضوع عودته إلى قريته الجنوبية، جويا. يسكن الشاب في منطقة الرويس ويعمل موظفاً في محل أحذية مجاور للمنزل. «الضاحية كانت آمنة بالسابق، اليوم تشبه المشي بحقل ألغام». يضيف: «وصل الموس للرقبة متل ما بقولو. برا أحسن».

يلفت محمد إلى أن مغادرته الضاحية لا تعني التخلي عن خياراته السياسية داخلها. «افضل الاستشهاد على الجبهة صراحة، أشرف لي من الموت بسيارة مفخخة. حياتي وحياة أهلي مش لعبة». يصمت قليلاً ويتابع حديثه بانفعال: «هناك دعوات للصمود، لكن حتى الناس الصامدة لديها قدرة محددة على التحمّل».

منذ انفجار الرويس، يدرس محمد فرصة إنشاء مشروع تجاري متواضع في جويا، يساعده على ذلك امتلاكه منزلاً في البلدة. «وانشالله ما نوصل لهذا الخيار»، يختم حديثه.

أما يوسف، وهو شاب عشريني يقطن في الغبيريّ، فسينتقل إلى منزله في دير الزهراني في الأيام المقبلة، مصطحباً عائلته. وسيقوم بتسجيل أخيه (13 سنة) في إحدى مدارس الجنوب. «الحياة في الضاحية أصبحت خطرة. بتودعي أهلك ما بتعرفي اذا رح تشوفيهن مرة ثانية. مش مضطرين»، يقول مبرّراً خياره.

لكنه لن يترك وظيفته في شركة الصيانة، سيسلك يومياً طريق بيروت - الجنوب للوصول إلى عمله. «حسبتها، طلعت أوفر لي. سأوفر الايجار الشهري في الغبيري، وسأوفر وقتاً». يشرح أن طريقه من الغبيري إلى عمله تستغرق وقتاً أكثر، في ظل زحمة الحواجز في الضاحية، من مشوار دير الزهراني - بيروت.

لكل خياراته وفق الإمكانيات. منهم من لا قدرة مادية لديه على إيجاد أي من تلك البدائل، سواء في بيروت أم في القرى. ولا تنفي تلك العائلات التي ترغب في المغادرة أو تسعى لها، وجود فئة أخرى، من طبقات مختلفة، لا تريد مغادرة الضاحية.

الناس خائفون في الضاحية، كغيرهم في المناطق الأخرى. حالة الخوف تنتقل بغض النظر عن المستهدف وخياراته السياسية. في الأمس كانت الضاحية، وتبعتها طرابلس، ومن يدري أي منطقة ستُستهدف غداً. لا يمنع ذلك البعض من البحث عن أماكن «آمنة» نسبياً. فالحياة تمضي اليوم بالصدفة. خيار الأمس قد يبدّله الغد، والغد بات يُختصر بسلامة الجسد.

تعليقات: