هنا يسكن.. نصرالله

هنا يسكن.. نصرالله
هنا يسكن.. نصرالله


الساعة تشير إلى السابعة والنصف عصراً ، في إحدى قرى جبل عامل النائية بين بساتين التين والزيتون في جنوب لبنان ، على بعد نظرة قصيرة من حدود فلسطين المحتلّة .. مَريَم ، إبنة الأعوام الثمانية كانت تقف و تنتظر غروب الشمس على شرفة المنزل الحجري ، تركض مسرعةً إلى أمها المشغولة بتحضير طعام الإفطار ، لتسألها عمّا إذا كان "السيد حسن" يفطر مثلنا ، وإذا كان هو أيضاً ينتظر مثلنا حلول موعد الإفطار ليأكل .. هذا السؤال الذي دفع بالأمّ التي رأت بريق عيني مريم وبراءة السّؤال وسائله إلى الردّ عليه بطريق التطمين ، علّها تخفف من تفكير ابنتها ..

"السيد حسن عايش متلنا .. " هكذا أخبرت الأم ابنتها ، وأخبرتها بأنّ "السيد" يصوم ويفطر ويشرب الشاي مثلنا ، ولمَ لا ؟ فتزيد أسئلة الطفلة التي يغمرها الفضول في معرفة المزيد عن بطلٍ تُعَلّق له صورة في صالون المنزل فوق شاشة التلفاز ، يلبس في الصورة "شالاً" يحمل كلّ معاني الجهاد والمقاومة .

يسود القرية هدوء حادّ ، إنه وقت الآذان ، كل العائلات على موائد الإفطار ، حتّى الطيور تكاد تختفي من السّماء ، تجلس مريم على مائدة الإفطار وتنتظر أن تسكب لها والدتها الطعام ، فهي ليست صائمة ، ولكنّ والدتها تقنعها بأنها صائمة طالما أنها مهذّبة ولا تشاكس وتأكل طعامها بانتظام .. هكذا يبدأ في هذا العمر إقناع الطفل بأن هناك فريضة يجب الإلتزام بها كما يلتزم بها جميع أفراد العائلة ، وكل المسلمين ، ولكن بطريقة تدريجيّة ..

تأكل مريم بسكون ، كما يأكل الصائمون ، عقلها وقلبها في مكان آخر ، وأسئلتها الكثيرة تود لو تسألها دفعة واحدة ، ولكنها تتريّث لكي لا تغضب والدتها الصائمة ، فتفضّل لو تسألها بشكلٍ منتظم ، بعد الإفطار ، علّها تُفلح للوصول إلى النتيجة الملموسة .. ينتهي الإفطار ، فَيُطرق الباب ، إنّه جدُّ الفتاة ، جاء ليسهر في منزل ابنه الوَحيد ، أو ابنه الشّهيد الذي استشهد في إحدى الحروب مع العدوّ الإسرائيلي ..

تركض مريم تحتضن جدّها بحرارة ، وتحدّثه عن ما فعلته طيلة اليوم ، وتريه ماذا رسمت وكتبت وصنعت .. ثم تحضر له رسمة للسيد حسن نصرالله كانت تحاول رسمها ، فتحاول إتقان "النظارات" و "اللّفة" ، فبذلك تكون قد رسمت سيّداً معمَّماً .. وباقي الصورة في قلبها ، وفي وجدانها ، وخوفها على السيد رغم صغر سنّها ، وأمانها بوجود الرّجل الذي "يحمينا" ..

وقد جاء الجدّ ليكون في متراس الردّ على الأسئلة التي راحت تنهال عليه من الطفلة الفضوليّة ، فأجلسها على ركبتيه وراح يحدّثها وهو يشرب الشاي ، ويسرد لها قصصاً قديمة عن أيام المقاومة ، وعن والدها وحبّه للسيد ، وكيف استشهد في دفاعه عن أرضه وكرامته ، وعن إسرائيل التي تقتل الأطفال والتي تحتل أرضاً ليست لها .. وكلّ تلك الفترة كانت الطفلة غارقة في الشّرود والتأمل ، تتخايل كلّ ما يحكيه الجدّ ، وكأنه أمامها .. هنا تدخّلت الأم لتخبر الجدّ عن سؤال مريم في موعد الإفطار ، فاندهش الجدّ من السؤال البريء للطفلة ، وأخبرها بأن السيد يأكل ويشرب ويصوم ويفطر ويعمل ويجاهد ليلاً نهاراً ، ولا يخيفه تهديد أحد ، ولكنه ينتبه جيداً لنفسه ومن معه من خطر الإسرائيليين وعملائهم .. ثمّ أردفت : ولماذا العملاء يساعدون إسرائيل ؟ فأخذ الجد نفساً عميقاً وقال بغصّة : "قليلين الأصل يا جدّو.."

تنام مريم على سريرها ، قرب نافذتها التي تطلّ على وادٍ لا أحد يرى من عتمته شيئاً ، ولكنّها تعلم بأنّ رفاق والدها موجودون في كلّ وادٍ كهذا ، وينتظرون إسرائيل ليحاربوها .. وتفهم الأمور جيداً بلغتها ، وتخاف على السيد على طريقتها ، وتتمنى لو أنها تحادثه عن قرب ، كما تحادث جدّها وتسألها ، لعلّ قلبها يطمئنّ ..

هنا ، يسكن السيد حسن نصر الله ، في قلوبٍ رقيقة تخاف عليه ، تنتظره وتدعو له عند الإفطار ، وعند الصلاة والدعاء ، فهو من أعطانا الأمان أصلاً لنفطر بأمان ، وهو من أعطانا الأمان لننعم بساعات نومنا في منازلنا .. هنا ، في كل بيتٍ جنوبي ، تحت دفّة القمر في سماء الجنوب ، تجد صورة للسيّد ، بضحكته المعهودة ، تزيّن الدار وتفتح القلب .. وهنا ، في بساتين الجنوب وكرومه يمرّ طيف من النسمات الباردة ، نحمّلها السلام إلى رجل السلام ، وإلى سيد النصر ، الذي لا نعلم مكان تواجده ، لكننا نؤكد بأنه في داخل كلّ منّا ، نخاف عليه ونلتقط أنفاسنا إلى حدّ الجنون إذا نزل في احتفالٍ حاشد بين الجماهير ، لا منهم ، بل من أعدائه والمتربّصين لشخصه الشريف وللمقاومة ككل ..

تعليقات: