الحرب السورية وتأثيرها على الاقتصاد اللبناني:أحوال الزراعة والسياحة والتجارة والصناعة

يشهد سوق العمل «منافسة كبيرة لليد العاملة اللبنانية في قطاعي الزراعة والخدمات» (سامر الحسيني)
يشهد سوق العمل «منافسة كبيرة لليد العاملة اللبنانية في قطاعي الزراعة والخدمات» (سامر الحسيني)


عندما ضربت الأزمة المالية العالم في العام 2008، وسجلت الولايات المتحدّة والعديد من الدول الأوروبية معدلات نمو تراوحت حول الصفر وتحت الصفر، وانخفضت المعدلات نفسها بشكل دراماتيكي في الدول العربية، غرد لبنان خارج سرب الأزمة. برزت في البلاد "ظاهرة هجينة"، كما يسميها الخبير الإقتصادي كمال حمدان، تمثلت بتحقيق معدلات نمو تراوحت بين ثمانية وتسعة في المئة. نسب فاقت مثيلاتها في "العصر الذهبي" اللبناني في الستينيات أو السبعينيات، حيث كان معدل النمو يراوح بين خمسة وستة في المئة.

وإذا كانت التحويلات المالية التي تدفقت على لبنان بين العامين 2007 و2010، وقد وصلت إلى حدود الستين مليار دولار، وفق الأرقام التي أعلنها مصرف لبنان حينها، هي التي جنّبت لبنان الكأس العالمية المالية المرة، إلا ان الوضع الإقتصادي اللبناني اليوم، وعلى وقع الأحداث في سوريا، بالإضافة إلى الأوضاع السياسية والأمنية الداخلية، يعدّ الأضعف منذ أعوام.

تدّل على ذلك معدلات النمو التي تراجعت، وفق الخبير الاقتصادي والمالي غازي وزني، الذي يلفت إلى أن "صندوق النقد الدولي، مثلاً، كان يتوقع معدل نمو في لبنان يصل إلى 2.5 في المئة، لكنه خفضه اليوم إلى اثنين في المئة فقط، بينما خفضت المؤسسات الدولية الأخرى توقعاتها إلى 1.5 في المئة بعدما كانت تتراوح بين اثنين إلى ثلاثة في المئة".

وبذلك أعيد النظر في كل توقعات النمو على وقع الحرب السورية "بينما ما زالت توقعات العام 2014 ضبابية وغير واضحة"، وفق وزني نفسه.

ويعتبر حمدان أنّ من بين أسباب تدني نسبة النمو "توقّف خطوط الترانزيت والصادرات والنقل البري والسياحة البرّية، والتجارة غير النظامية حيث كان نحو أربعة ملايين لبناني وسوري يتنقّلون بين البلدين سنوياً والتسوّق، يضاف إلى ذلك تجميد الاستثمارات اللبنانية والعربية والأجنبية في لبنان".

ويرد حمدان الجمود الاستثماري إلى الشك الذي تولّد لدى المستثمرين في منطقة غير مستقرّة و"تموج بالانقسامات السياسية والحرب شبه الأهلية في سوريا التي تُعطى طابعاً طائفياً، وانعكاساتها عبر نظرية الأوعية المتصلة لتنسحب مباشرة على الوضع اللبناني".

ومع الاستثمارات، تجمد دور لبنان وقدرته على استقطاب المزيد من التحويلات والودائع.

ويمكن البناء على معدلات النمو العام في لبنان لأنها تجمع وتتوّج بطريقة دقيقة كل ما يجري على الصعد الإقتصادية كافة في البلاد، بدءاً من نشاط المجتمع غير النظامي "الذي يعمل على حسابه برساميل متواضعة أو بأجور موسمية زهيدة"، إلى قطاع التهريب أو التجارة الحدودية المزدهرة عبر التاريخ بين لبنان وسوريا، والتي ربّما تفوق التبادل الرسمي قيمة ومردوداً، إلى الصادرات والواردات المصادق عليها والمثبتة بالأرقام، وفق ميزان تجاري مال لمصلحة لبنان في العام 2012، في مؤشر نادر.

وطبعاً تتصدر مؤشرات القطاعات السياحية والزراعية والصناعية والتجارية القائمة لارتباطها بـ"الرئة" السورية للبنان، عبر المعابر الحدودية، نافذة المزارعين والتجار والصناعيين على العالم، وتحديداً العربي منه.

وتبيّن أرقام غرف التجارة والصناعة والزراعة في المحافظات، ومعها اتحاد الغرف في بيروت، احتلال الدول العربية المركز الأول في استهلاك الصادرات اللبنانية، والتي كانت بمعظمها تسيّر عبر البر الذي تعطل أو أنّه شبه انتهى.

وإذا كان وزير السياحة في حكومة تصريف ألأعمال فادي عبود يؤكد لـ"السفير" أن التراجع والخسائر التي تصيب القطاع السياحي حاليا لم تسجّل حتى خلال أيام الحرب اللبنانية، "نظراً لاختلاف حجم الاستثمارات بين اليوم وحينها"، يؤكد وزني "تراجع الحركة السياحية اليوم أكثر من ثلاثين في المئة". وهو ما أدى إلى خسارة لبنان "إيرادات تتراوح بين أربعة وخمسة مليارات دولار على امتداد العامين 2011- 2012". (انتهت المقدّمة)

خسائر في القطاعات

يعيد وزني ما يحصل إلى أسباب متعددة أبرزها: "تراجع الحركة السياحية ككل عن العام 2010 من مليون وثمانمئة ألف سائح إلى نحو مليون وثلاثمئة ألف سائح في 2012، وتدهور الحركة الاستثمارية الأجنبية المباشرة من أربعة مليارات ونصف المليار سنوياً في العام 2010، إلى أقل من ثلاثة مليارات في 2012. وتشمل الاستثمارات الأجنبية المباشرة الاستثمارات في القطاعين التجاري والعقاري السياحي، أي الفنادق. وتترجم بعدم فتح فنادق جديدة وتأجيل العديد من المشاريع التي كانت مخططة.

وإلى السياحة والاستثمار، يضيف وزني تراجع الاستهلاك عبر تراجع المبيعات في المحلات التجارية بنسبة 25 و30 في المئة، ما أدى إلى "تكبدها خسائر كبيرة، وبالتالي زيادة مشاكل التجار المالية ومطالبتهم بمهل إضافية لتسديد القروض والديون". ويؤكد وزني انسحاب الحال نفسها على الفنادق لناحية القروض والديون أيضاً.

ويدرج وزني بين التأثيرات نفسها "العجز الذي شاهدناه في ميزان المدفوعات بسبب تراجع التدفقات المالية وتزايد الواردات خصوصاً لتغطية احتياجات السوق السوري في النفط والمواد الأولية". هكذا، ارتفع حجم الاستيراد إلى 21.6 مليار دولار في 2012 بزيادة تقارب العشرة في المئة. وتؤثر زيادة العجز في ميزان المدفوعات في الاستقرار النقدي وعلى سعر صرف الليرة اللبنانية.

أما بالنسبة إلى المالية العامة، فيرى وزني أنها "عاجزة عن تغطية حاجات السوريين البالغ عددهم نحو مليون ومئتي ألف شخص، ومن بينهم أكثر من 450 ألف مسجل لدى مفوضية اللاجئين. ويحتاج نحو ثمانين في المئة من السوريين المقيمين إلى مساعدات عاجلة وأساسية، وبذلك "يفوق عددهم (المحتاجين للمساعدة) الثمانمئة ألف سوري، يحتاجون للإغاثة والدعم، وهم يتلقون المساعدة من وزارات التربية والصحة والشؤون الاجتماعية، وكذلك يستفيدون من دعم المواد الأولية".

ويوضح أن الدولة "رفعت من دعم رغيف الخبز وكلفة التطبب في المستشفيات الحكومية في ظل ضعف الإمكانيات الرسمية، وبقاء وعود التمويل إثر مؤتمر الكويت هوائية وغير مرشحة للتنفيذ".

وعلى الصعيد الاجتماعي، يشهد سوق العمل "منافسة كبيرة لليد العاملة اللبنانية في قطاعي الزراعة والخدمات، في ظل تدني أجرة اليد العاملة السورية وعدم دفع اشتراكات للضمان الاجتماعي"، وفق وزني الذي يرى أن التأثير الأكبر يحصل في البقاع والشمال.

وفي الإطار نفسه، يبرز ارتفاع أسعار إيجارات الشقق وخصوصاً في بيروت وضواحيها وفي البقاع، "ما يتسبب بتزايد أزمة السكن لدى الطبقة المتوسطة في لبنان".

وعلى عادتها كركيزة اساسية في الاقتصاد اللبناني، فقد تمكنت المصارف اللبنانية - بالرغم من التراجع الذي أصاب فروعها في سوريا، حيث أقفل 18 فرعا من أصل 26، وانخفاض الودائع بنسبة ثلاثين في المئة - من تحقيق نسب نمو مقبولة تقارب الثمانية في المئة في العام 2012، في مقابل 11.5 في المئة في العام 2010، وفق وزني. وكوّنت المصارف، وبطلب من مصرف لبنان، مئونات احترازية بقيمة أربعمئة مليون دولار، لتغطية الخسائر والقروض المهددة والتسليفات في فروعها السورية.

وفي إطار تأثير الوضع السوري نفسه، يتوقف وزني عند العجز الذي شهده ميزان المدفوعات في لبنان مدرجا ذلك من بين الأسباب التي أضرّت الاقتصاد اللبناني، حيث "شهدنا تحولاً في ميزان المدفوعات من فائض مالي في العام 2010، إلى عجز يقارب ملياري دولار في العام 2011 والمليار ونصف المليار دولار في العام 2012، بسبب تراجع التدفقات المالية وتزايد الواردات".

وفي ظل التخوف والقلق على الوضع الإقتصادي في لبنان، يشير وزني إلى تمكّن "مصرف لبنان" من تعزيز الاستقرار النقدي، ومن تجاوز تداعيات الأزمة السورية، حيث "زاد في العامين 2011-2012 من موجوداته بالعملات الأجنبية من 28 مليار دولار إلى 35 مليار دولار بارتفاع لامس الخمسة وعشرين في المئة".

وعلى هامش الأرقام الجافة للاقتصاد، والتي ترسم في النهاية الخطوط العريضة للأزمة الاقتصادية وتأثيراتها المباشرة على حياة المواطنين، يعيش الناس وكل من موقعه ووضعه، تأثيرات الأزمة السورية بشكل موجع.

ويزيد من تأزم أحوال اللبنانيين "انشغال" الطبقة السياسية ودولتها بقشور السياسة والمحاصصة والتناحر والمهاترات بعيداً عن هم لقمة العيش التي أضحت صعبة المنال للسواد الأعظم من المواطنين.

كل ذلك يحصل والأطراف اللبنانية كافة متورطة "حتى أذنيها" بالحرب السورّية، بغض النظر عن مصالح البلاد والعباد. بلاد يطلق عليها رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش توصيف "بلاد الفرص الضائعة" لإخفاقها في جذب الرساميل والاستثمارات، وحتى جزء كبير من الودائع السورية، التي هاجرت نحو كل من تركيا والإمارات العربية بالدرجة الأولى.

والإخفاق في الجذب ينسحب على السياحة المنكوبة في معظم دول المنطقة، والتي كان يمكن للبنان، الذي يمتلك من المؤهلات ما يكفي ليؤدّي دور البديل ويجذب مئات الآلاف من السياح من عرب وأجانب تحولوا نحو تركيا وآسيا والغرب.

المصارف اللبنانية

يشير الأمين العام لجمعية المصارف الدكتور مكرم صادر إلى أن وكالات التصنيف الدولية تربط تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في لبنان بالنزاع القائم في سوريا. فـ"الأوضاع السورية والعقوبات المتزايدة إزاء سوريا تعيق النمو الاقتصادي في لبنان، ولو بشكل ضعيف، ولها انعكاسات سيئة على السياحة والتجارة"، لأن عوامل الارتباط الاقتصادي بين سوريا ولبنان هي 0.2 بحسب الاحتساب الذي أجرته "الإسكوا"، بمعنى أنه كلما انخفض النمو في سوريا بمعدّل 1% تراجع النمو في لبنان بمعدّل 0.2%.

ويتوقف صادر عند تحذير وكالة "ستاندرد أند بوز" من انعكاس الحوادث في سوريا على الوضع الاقتصادي في لبنان، والذي يعتبر أنه البلد الأكثر عرضة للأخطار الخارجية والاقتصادية والسياسية الناتجة عن الصراع في سوريا وذلك عبر ثلاث قنوات: "زعزعة العلاقات التجارية وخفض التدفقات المالية الخارجية، والتدهور في الموازنة العامة، وازدياد الأخطار الأمنية".

وفي أيار 2012، كانت الوكالة عينها قد غيّرت النظرة المستقبلية للتصنيفات الائتمانية السيادية الطويلة الأجل للبنان من "مستقرّ إلى سلبي نتيجة ارتفاع المخاطر المحلية والجيوسياسية الناتجة من الاضطرابات المستمرة في سوريا"، وفق صادر الذي يؤكد أن "تصنيف المصارف يرتبط بالتصنيف السيادي".

ويذكّر الأمين العام لجمعية المصارف بأن "نتائج المصارف اللبنانية تظهر نمواً مستداماً وموقعاً مالياً يتّسم بالقوة والسياسات المحافظة والرصينة في وجه الظروف التشغيلية الصعبة التي يعيشها، ويتوقّع أن تتحسّن أرباحها بعد الانتهاء من رصد المؤونات التي اقتطعتها نتيجة تدهور الأوضاع في المنطقة، وخصوصاً في سوريا، وأن تصل إلى مستويات مرتفعة إذا تزامنت مع انفراجات أمنية وسياسية في لبنان ودول الجوار".

حماية الفروع في سوريا

يؤكد صادر أن المصارف اللبنانية العاملة في سوريا "نجحت نسبياً في تجنّب انعكاسات الأزمة، خصوصاً من خلال مجموعة من الإجراءات المتّخذة ابتداءً من 2011 كتقليص تسليفاتها للزبائن السوريين إذ تسمح المصارف اللبنانية للقروض السورية بالاستحقاق، ولا تتنافس على استقطاب الودائع".

ويشير إلى إن مصرف لبنان الذي يواكب الأوضاع عن كثب، "سيقوم بإجراء اختبارات ضغط جديدة لتلك المصارف في محاولة لرصد تداعيات الهبوط المستمرّ لنتائجها على المصارف الأم في لبنان، وبالتالي على مؤشرات القطاع ككلّ".

وعلى الصعيد الإحصائي، استطاعت المصارف التابعة أو الشريكة الستة لمصارف لبنانية في سوريا أن تحتّل موقعاً مميزاً في السوق المصرفية السورية. وبعدما عرفت، كمجموعة، ازدهاراً ملحوظاً قبل اندلاع الحرب السورية، أي ابتداءً من العام 2007 وصولاً إلى الذروة في نهاية العام 2010، شهد إجمالي أصولها وأرباحها الصافية تراجعاً في العامَيْن 2011 و2012 إثر الحوادث الأمنية والاضطرابات السياسية التي خلّفت انعكاسات سلبية على القطاع المصرفي السوري عموماً.

وكانت القيمة الإجمالية للأصول قد وصلت إلى الحدّ الأعلى في نهاية العام 2010، وفق صادر، حيث "بلغت حوالي ثمانية مليارات دولار، ووصل متوسط نموها السنوي في الفترة الممتدة بين نهاية 2007 ونهاية 2010 إلى 25,6 في المئة".

لكنّ الانعكاسات السلبية للأحداث السورية أثّرت بشكل مباشر على قيمة الأصول الإجمالية إذ "انخفضت إلى 5,4 مليارات دولار في نهاية العام 2011 وثم إلى 3,7 مليارات دولار في نهاية العام 2012". ويفسَّر ذلك التراجع الكبير في إجمالي الميزانية بانخفاض إجمالي ودائع العملاء لكون المصارف الستّة التابعة أو الشريكة لمصارف لبنانية تعتمد على الودائع كمصدر أساسي للموارد. فكان من الطبيعيّ أن تتأثّر بنية توظيف تلك الموارد، وبالتالي صافي التسهيلات الائتمانية المباشرة من قبل المصارف التابعة أو الشريكة إذ تراجعت، وفق صادر، من "ثلاثة مليارات دولار في نهاية 2010 إلى مليارين ومئتي مليون دولار في نهاية العام 2011 ثمّ إلى مليار وخمسمئة مليون دولار في أيلول 2012 (أحدث الأرقام المتوافرة).

ويؤكد صادر "أن مخاطر هذه القروض تُعتبر محدودة ومتدنّية إذ ان حصتها من إجمالي موجودات المصارف في لبنان لا تتجاوز الواحد في المئة".

ومن جهة الأرباح الصافية، برز العام 2010 في الطليعة حيث حقّقت المصارف السورية الستة التابعة أو الشريكة لمصارف لبنانية كمجموعة "زيادة في أرباحها المجمّعة التي وصلت إلى 47 مليون دولار، لتنمو في المتوسّط السنوي بنسبة 33,2% خلال الفترة الممتدّة من 2007 إلى 2010". لكنّ الأحداث السورية غيّرت مجرى الازدهار لتتراجع الأرباح الصافية إلى "نحو 36 مليون دولار في نهاية العام 2011 وإلى 17 مليون دولار في العام 2012".

ويرى صادر أن المصارف العاملة في سوريا أثبتت أنّها "قادرة على التأقلم مع المستجدّات وتخطّي الأزمة الراهنة والاستمرار في تسجيل أداء جيّد نسبياً على الرغم من التراجع الحاصل مع تفاقم الأحداث، لأنها تتمتّع بخبرة وتمرّس في إدارة الأزمات، ولديها شبكة زبائن وعلاقات عريقة وعريضة في سورية إيداعاً وإقراضاً ومساهمةً وهي حريصة على سلامتها وعلى تطويرها مستقبلاً."

كما يعتبر أن "إدارة الأزمة الحالية ممكنة وقائمة بأدنى الخسائر: إما من خلال تكوين المؤونات الكافية ولو على حساب الربحية أو من خلال مواكبة الزبائن بطريقة ذكية تُريحهم وتحفظ قدراتهم الائتمانية"، مشيرا إلى أن "استمرار الأزمة لأمد ليس بقليل يمكن أن يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً على المصارف وأدائها، علماً بأن مستقبل السوق السورية يبقى في المدى المتوسط والطويل واعداً".

الودائع السورية في لبنان

يؤكد الأمين العام لجمعية المصارف ان ودائع السوريين في المصارف اللبنانية لطالما شكلت "عشرين في المئة من ودائع غير المقيمين التي تمثل بدورها في المتوسط 15 في المئة من إجمالي ودائع القطاع الخاص، والتي بلغت قيمتها 128 مليار دولار في نهاية آذار 2013".

وتضع هذه الأرقام الودائع السورية عند "حدود ثلاثة في المئة من الودائع الإجمالية". ويُضاف الى الودائع السورية لدى المصارف العاملة في لبنان، ودائع السوريين لدى المصارف اللبنانية العاملة في سوريا.

وتناقصت تلك الودائع بنتيجة الحرب السورية المستمرّة وانعكاسها سلباً على أداء الاقتصاد السوري وعلى كافّة المصارف العاملة في السوق السورية، اللبنانية وغير اللبنانية. ويرى صادر أنه "سيكون على المصارف اللبنانية العاملة في سوريا، شأنها في ذلك شأن كلّ المصارف الأخرى، أن تأخذ في الاعتبار انعكاس الأحداث المتدهورة أسبوعاً إثر أسبوع، على نوعية محافظ إقراضها داخل الاقتصاد السوري".

ومن الطبيعي، وتطبيقاً للمعايير المصرفية الدولية السليمة، "أن تكوِّن مؤوناتٍ لقروضها ما يؤثر في ربحيتها". ويشير إلى ان "مصرفاً لبنانياً واحداً بالاستناد إلى ما أعلنه مديره العام قد شهد تراجعاً في ودائعه من 650 مليون قبل اندلاع الأحداث إلى ثمانين مليون دولار حالياً أي بمعدّل 88 في المئة".

المصارف والعقوبات

إلى ذلك، يؤكد صادر أن "الكنز الأهمّ" لدى المصارف اللبنانية " هو مجتمع رجال الأعمال السوري، من تجار وصناعيين وغيرهم من أصحاب المهن الحرّة"، مؤكداً أن "مصارفنا ستقف معهم لتخطّي هذه المرحلة الصعبة لأنهم استثمار للمستقبـل".

وتتّبع المصارف الأنظمة والتشريعات والتعاميم المحلية إذ تتعامل، وفق صادر، "طبيعياً مع الأشخاص الذين لم ترد أسماؤهم على اللوائح السوداء ولا يحظّر التعامل معهم لكونهم لا يخضعون للعقوبات الدولية". في المقابل، تلتزم "التزاماً صارماً بعدم التعامل مع الأشخاص والمؤسسات المدرجة على اللوائح العالمية للأمم المتحدة وللمجموعة الأوروبية والولايات المتحدة ".

ودرءاً للمخاطر المرتبطة أو الناتجة من انخراط المصارف اللبنانية بالوضع السوري، تجد إدارات المصارف نفسها "مضطرة للتعامل مع هذا الوضع المعقّد والصعب بشفافية ووضوح وحزم". فهي "تلتزم ذاتياً بالعقوبات وبمعايير وقواعد عمل الصناعة المصرفية العالمية، كما تطبّق ما أوجبه القانون 318/2002 وتعاميم مصرف لبنان ذات العلاقة من موجبات التصريح (Reporting) لهيئة التحقّق الخاصة بشأن الزبائن أفراداً ومؤسسات المدرجين على لوائح العقوبات، وتتأكّد من الوجهة النهائية للبضائع المستوردة، بالإضافة الى الصرامة في معرفة أصحاب الحقوق الاقتصادية الفعليّين لأي عمليات مصرفية تُجريها".

ويؤكد صادر أن القطاع المصرفي اللبناني "يمنع كل محاولة لاختراق العقوبات الدولية أو الالتفاف عليها". فالمصارف اللبنانية، سواء كانت في لبنان أو في الخارج، "متمسّكة بصون سمعتها ومكانتها العربية والدولية وبالحفاظ على مصالح مساهميها ومودعيها وعملائها كافةً كما على علاقاتها الجيّدة والواضحة مع المصارف المراسلة. وهي تحرص بالتالي، "على عدم الانسياق وراء أيّ نشاط من شأنه أن يعرّض ذلك كلّه للخطر". وتعتبر المصارف اللبنانية أن تعميم مصرف لبنان الرقم 126 الذي أصدره في نيسان 2012 بخصوص موضوع العقوبات، يشكل "مظلَّة قانونية لممارساتها على هذا الصعيد".



لكل من فاطمة التي حملت عائلتها، من حوش السيد علي ونزحت باتجاه بيروت تبحث عن عمل "ولو كناطورة في بناية"، وحورية الخارجة إلى خراج وادي خالد تقتلع أعشاب "السليق" لتعد وجبة لعائلة مؤلفة من عشرة أفراد، همّ واحد.

لا تفصل بين المرأتين الجغرافيا فقط، وإنما السياسة وما بينهما من انقسامات على ضفتي ما يدور في سوريا. لكن المواطنتين، سواء التي في الحوش المتصلة بجزئها السوري بريف القصير، أو تلك التي في الوادي المتكئ على ضفة النهر الكبير لجهة ريف حمص وبحيرة قطينة، مكتويتين بنار الأزمة الاقتصادية نفسها. أقفلت أحداث الجارة "الأم"، التي كانت مرضعة القرى الحدودية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حدود الرزق والتجارة الحدودية ومعها الأسواق العطوفة على فقراء القوم. إقفالٌ قَطَع الأرزاق والأعناق معاً ورمى المواطنين في فراغ في دولة تنأى بنفسها تاريخيا عن مناطقهم النائية.

تترجم فاطمة وحورية باليوميات المعاشة كل الأرقام الصعبة والمعقدة لتأثير الأحداث السورية على الاقتصاد اللبناني، ومعيشة الناس الذين كانوا محميين من نار الأسعار اللبنانية من جهة، ومن شح الوظائف وارتفاع نسب البطالة في مناطقهم من جهة ثانية. يعملون في ما يسمونه التجارة الحدودية ويتكاثرون ويورثون باب الرزق للأبناء والأحفاد.

يقصدون الداخل السوري ويعودون باحتياجاتهم من قارورة الغاز إلى صفيحة المازوت مروراً بالمواد ألأساسية من أرز ولحوم وحتى ألبستهم، وصولا إلى تعليم ألأولاد.

فجأة، وجد سكان المناطق أنفسهم عاطلين عن العمل وصار الجميع في خندق واحد، من الشمال إلى الجنوب والبقاع، يصرخون يومياً من تكدس بضائعهم وتلفها على أبواب المعابر البرية المقفلة والمتعثّرة.

وفي المعسكر عينه وقف التجار والصناعيون وأصحاب الفنادق الفخمة منها والمتواضعة، ينعون أعمالهم وتراجع نسب التشغيل والتصريف. وجع أصاب بلاد بكاملها، فيما غاص الخبراء الاقتصاديون في تفسير الظواهر وتأثيراتها وترجمتها أرقاماً صعبة في معدلات النمو التي انخفضت إلى أدنى مستوياتها خلال السنوات السبع الأخيرة، وميزان التجارة الذي وإن مال للمرة الأولى لمصلحة لبنان، إلاّ أنه لا يشكل نقطة في بحر الخسائر التي تهدد بإقفال مرافق عدة في قطاعات مختلفة.

يقول المزارعون إنه لا يمكنهم "حمل أراضيهم على ظهورهم والهجرة بها كما يفعل أصحاب المعامل والاستثمارات. ويقول وزير السياحة إن القطاع لم يعرف أزمة شبيهة حتى في عز الحرب الأهلية لأن الاستثمارات لم تكن بالحجم نفسه. أما وزير الزراعة فيؤكد على دعم التصدير البحري لتعويض المزارعين بعض ارتفاع الكلفة بحراً.

يقول مختار حوش السيد علي محمد ناصر الدين أن نحو مئة عائلة كانت تعمل عبر الحوش وحدها بالتهريب وتعتاش منه "وكانوا بألف خير". يشير إلى أن سكان البلدة كانوا يشترون قارورة الغاز من سوريا بمئة وثمانين ليرة سوريا، "أي بخمسة آلاف ليرة لبنانية (قبل تدهور سعر صرف العملة السورية) بينما يبلغ ثمنها في لبنان 23 الف ليرة لبنانية". وفيما كانت العائلات تتدفأ طيلة فصل الشتاء على المازوت السوري حيث لا يتجاوز سعر الصفيحة السورية سبعة آلاف ليرة "واصلة على البيت"، كانوا محميين من لهيب مازوت لبنان الذي يباع بخمس وعشرين ألف ليرة لكل عشرين ليتراً.

ربطة الخبز نفسها كانت تحكي. يقول أستاذ المدرسة في وادي خالد فايق شحادة أن "سعر ربطة الخبز وزن كيلوغرام ونصف لم يكن يتجاوز الخمس عشرة ليرة سورية، "أي خمسمئة ليرة"، وكانت العائلة التي تحتاج إلى خمس ربطات في اليوم توفر نحو تسعة آلاف في الخبز وحده مع الأخذ بعين الاعتبار أن وزن الربطة اللبنانية لا يتجاوز التسعمئة غرام في أحسن ألأحوال. أما اللحوم فـ"حدّث بلا حرج". كان اللبنانيون يشترون كيلو غرام لحم الغنم بثلاثمئة ليرة سورية، أي "تسعة آلاف ليرة لبنانية"، بينما يبلغ سعره في لبنان ثلاثين ألفاً كانت الناس تأكل وتشبع"، كما يقول شحادة.

يضاف إلى ذلك أسعار الخضار التي لا تقارن بمثيلاتها اللبنانية، ومعها الدواء والطبابة والعمليات الجراحية.

يجزم خالد البدوي، رئيس بلدية الراما، إحدى قرى الوادي، أن خسائر منطقته لم تقل عن ثلاثين مليون دولار وحدها بسبب الحرب في سوريا.

يبدأ البدوي من نفسه. خسر مصنعاُ للدراجات النارية في حمص مع بضائعه و"مخزنه" وإنتاجه وكان يُشغّل مئة وخمسين عاملاً، جزءاً كبيراً منهم من الوادي.

حسين عثمان، ابن الوادي وأمين صندوق البلدية، خسر نحو "مليون ونصف المليون دولار"، كما يقول عبر شركته لاستيراد وتصدير الإطارات والأدوات المنزلية.

يؤكد الرجلان أن هناك ثلاثين تاجراً من وادي خالد "من العيار الثقيل" خسروا استثماراتهم في سوريا، ومعها أعمالهم فيما خسر الوادي فرص عمل الجميع.

وفي ما يبدو توثيق لكل ما يحكى عن منافسة اليد العاملة السورية للبنانيين في لقمة العيش، يؤكد نائب رئيس بلدية وادي خالد عصام الدويري أن نسبة البطالة في المنطقة لا تقل عن 97 في المئة، وأن السوريين المقيمين يشكلون قوة عرض منافسة".

أما الطريق الدولية في البقاع، فتئن من الركود الذي أصاب مؤسساتها، في وقت أدّى تدفّق السوريين إلى رفع أسعار إيجارات الشقق والمحلات. ويؤكد سعد ميتا، وهو رجل الأعمال وصاحب محلات ألبسة في البقاع، أن بدل إيجار المحل على الطريق الدولية كان يتراوح بين أربعة ألاف وستة آلاف دولار، ومع إقبال السوريين على فتح محلات ومؤسسات سياحية وتجارية ارتفع البدل إلى عشرة أو 12 ألف دولار.

يضيف ميتا أن "هناك ملّاكا يستردون ما قاموا بتأجيره للمستثمر اللبناني ويعيدون تأجيره للسوري بأسعار مرتفعة". ويشير إلى منافسة كبيرة في المطاعم واليد العاملة.

والدولة، طبعا، لا تنأى بنفسها عن الناس فقط، وإنّما أيضا عن القطاعات المتضررة كلها. ومع ذلك، يقول رئيس مجلس تنمية الصادرات في جمعية الصناعيين زياد بكداش "لا نريد منهم شيئاً، ليكفّوا فقط عن توتير الأجواء بالمهاترات السياسية وليضبطوا الأمن ويجنبونا انقساماتهم، وليتركوا مجلس الوزراء لمجموعة من التقنيين يديرون البلاد، ويمكننا أن نكون بألف خير، لأن البلد حينها لن يبقى على توتره الحالي الذي يشلّ كل شيء".

(انتهت المقدّمة)

القطاع الزراعي

تعلو صرخة المزارعين في كل من الشمال والجنوب والبقاع على خلفية تعثر التصدير عبر المعابر البرية، مما فرض إيجاد بدائل عبر البحر، بكلفة مرتفعة نسبة للشحن البري، تبلغ ستة ملايين ليرة عن كل "كونتاينر"، وفق ما يؤكد نقيب المزارعين في الشمال خضر الميدا، مشيراً إلى أن الشحن البحري يهدد بتلف الخضار سريعة العطب.

ويحدد الميدا خسائر مزارعي الشمال بخمسة وعشرين ألف دولار يومياً، لافتاً إلى إغراق الأسواق اللبنانية بالخضار السورية في ظل الفوضى القائمة حالياً على الحدود، وتراجع الاستهلاك الداخلي السورّي.

ويسأل الميدا "ماذا يفعل مزارعو عكار بنحو خمسين ألف طن من البطاطا في ذروة موسمها اليوم؟"، مشيراً إلى انه من المستحيل تخزين البطاطا العكّارية في البرادات لأن موسم البقاع يبدأ على "كعب الموسم العكّاري"، أي أن سهل البقاع سينتج نحو مئة ألف طن من البطاطا بدءاً من 15 حزيران المقبل.

يضيف الميدا أن سوريا "كانت تستهلك نحو عشرين ألف طن من البطاطا من عكار لأن توقيت موسمها مختلف عن موسمنا، أمّا اليوم فقد انتهى السوق السوري ".

ويرى الميدا أن علاقة مزارعي الشمال بسوريا ليست تصريفية فقط "كنا نشتري الأسمدة والأدوية والبذور من سوريا بأسعار أرخص مما هي في لبنان، وكان هناك تعاون مع المزارع السوري، فالهم واحد والحياة واحدة والتعب واحد، اليوم خسرنا كل ذلك".

ويتوقف الميدا عند التوقيت غير المنتظم للشحن البحري "مثلاً كان موعد وصول الباخرة في 25 نيسان فوصلت في الأول من أيّار والبضائع تنتظر في البرادات"، مشيرا إلى أن أحد المزارعين شحن عشرة برادات بستين مليون ليرة زيادة عن كلفة شحنه بالبر "هذه أموال تضاف كلها إلى الخسائر".

ويناشد الميدا رئيس الجمهورية التدخل لحماية المزارعين الذين يشكلون أربعين في المئة من الشعب، مؤكداً أن بعض المزارعين باتوا "يُخرجون أولادهم من المدارس بسبب القلة والخسائر المتراكمة".

ويناشد الميدا قائد الجيش "وأولادنا كلهم في الجيش ومعه، حماية الإنتاج الزراعي ومنع الذين يعمدون إلى قطع الطرقات والإضرار بالمصالح المشتركة بين المزارعين اللبنانيين والسوريين".

بدوره، يلفت نزيه البقاعي، وهو مزارع وصاحب شركة أسمدة وأدوية زراعية في البقاع، إلى أن المتنفس الذي استجد عبر الشحن البحري لا يحلّ إلا مشكلة الخضار الجافة كالبطاطا والبصل والثوم. أمّا موسم الحشائش والورقيات التي ترمي محصولها مع بداية شهر رمضان المقبل، فوضعها مختلف.

ويشرح أن المزارعين كانوا يعوّلون على السوقين السوري والعراقي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى السوق اللبناني. فـ"في هذا الوقت الحار من السنة لا تنتج سوريا ولا العراق الخضار الورقية والحشائش على أنواعها، ولذا فالدولتان كانتا تستوردان الإنتاج اللبناني"، وفق البقاعي. اليوم، لا تصدير بري يعوّل عليه، فيما لا تحتمل تلك الخضار الشحن البحري لمدة عشرين يوماً، و"لذا سيشهد القطاع الزراعي كارثة وخسائر غير مسبوقة إن لم تحل مشكلة التصدير بالبر".

من جهته، يؤكد وزير الزراعة الدكتور حسين الحاج حسن أن المعابر الحدودية عبر سوريا عادت وافتتحت بعد إقفال دام نحو أربعين يوماً، مشيراً إلى أن "المشكلة اليوم لم تعد إدارية أو سياسية بل أصبحت نفسية، أي أن الناس باتوا خائفين".

وينفي الحاج حسن أن يكون هناك تحديد سقف لما هو مسموح بعبوره، مؤكداً تصدير "نحو 15 ألف طن من الخضار والفاكهة عبر النقل البحري إلى الدول العربية خلال شهر واحد، وأن أسعار الشحن البحري قد تدنّت عما كانت عليه بعدما عادت المنافسة البرّية".

وتعقيباً على مطالبة المزارعين بدعم الدولة للشحن البحري عبر مؤسسة "إيدال"، يلفت الحاج حسن إلى أنه تباحث مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الموضوع، مؤكداً أن مجلس إدارة "إيدال" اتخذ قراراً بدعم الشحن البحري بمعدل ألف دولار لـ"الكونتاينر" الواحد، وأن "الموضوع بانتظار مصادقة رئيس الحكومة على القرار لتنفيذه".

ورداً على احتجاج المزارعين، وخصوصاً في عكار والشمال، على دخول الخضار السورية إلى لبنان، قال الحاج حسن "من هو قادر على إيقاف التهريب من سوريا فليرفع يده"، مشيرا إلى أن إنتاج لبنان حالياً من البندورة، على سبيل المثال، لا يكفي احتياج السوق المحلي اللبناني الذي يستهلك نحو مئتي طن منها في اليوم، وليس لدينا موسم بندورة خارج البيوت البلاستيكية".

القطاع السياحي

يرى وزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال فادي عبود أن الوضع السياحي في لبنان يمر بمرحلة دقيقة جداً، هي الأسوأ منذ فترة الحرب، مشيراً إلى مدى تأثير المقاطعة الدولية والعربية، وتحذير رعايا الخليج وبعض الدول الغربية من المجيء إلى لبنان، معتبرا أن المقاطعة بعضها سياسي، "إلا أنه لا يمكن إغفال الجزء الأمني".

ويرى عبود أن وضع القطاع السياحي هو الأسوأ لأن التوظيف الاستثماري في السياحة خلال الحرب اللبنانية لم يكن بهذا الحجم، ففي السنوات العشر الأخيرة فقط، دفعت مليارات الدولارات في القطاع وتوسيعه.

ويرى وزير السياحة أن الوضع في الأردن مثلاً، مختلف بالرغم مما يمكن أن تقدمه بلادنا جغرافياً وخدماتياً، حيث شهدت المرافق السياحية الأردنية خلال عطلة الفضح مثلاً ازدحاما سياحياً سببه "الدعم الرسمي المطلق للقطاع، وموازنة الترويج الضخمة بالإضافة إلى الاهتمام على أعلى المستويات".

وبعدما توقف عند غياب السياحة البرية، لفت إلى أن حركة مطار بيروت ما زالت على حالها بسبب الترانزيت، سائلا عن الإجراءات التي اتخذها لبنان للتعويض عن الخط البري، وعن السبب الذي يمنع تسيير خط "تشارتر" (مباشر) لشركة الطيران اللبنانية طيران إلى عمان بمئة دولار من دون خدمات الضيافة والوجبة الغذائية على متن الطائرة، وهو ما يعرف بالطيران العارض.

أصحاب الفنادق

يعدد نقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر الخسائر التي مني بها القطاع الفندقي في لبنان نتيجة الحرب السورّية قائلا: "فقدنا السائح السوري ونسبته كانت تشكّل عشرة في المئة على الأقل من الحركة السياحية ، والإيرانيين الذين كانوا يشكلون بين ستة وسبعة في المئة من السياح "، وطبعاً الأردنيين الذين كانت أعدادهم تفوق "المئة ألف سائح سنوياً من نحو 370 ألف سائح بري كانوا يقصدون لبنان، واضمحلوا مع الأحداث السورية".

ويرى الأشقر أن توقف الطيران المدني عن العبور فوق سوريا أثّر على سعر تذكرة الطيران التي تضاعفت في بعض الشركات بين لبنان وبين الدول العربية والخليجية بسبب طول المسافة.

ويؤكّد الأشقر كلام عبّود أنّ الموسم السياحي هو "الأسوأ في تاريخنا بسبب حجم الاستثمارات التي دفعت في القطاع"، مشيرا إلى أنه كان يتم افتتاح بين خمسمئة إلى ألف غرفة فندقية جديدة، ونحو ثلاثمئة مطعم جديد كل عام ، مما "يجعل القطاع متعطشاً لحركة سياحية تلامس المليونين أو المليونين ونصف المليون سائح في السنة، وهو رقم كدنا نلامسه في العام 2010 مع مجيء مليونين وثلاثمئة ألف سائح إلى لبنان".

يضيف الأشقر الحظر الذي فرضته بعض دول الخليج على زيارة لبنان إلى الأسباب التي ضربت القطاع. ويشكل الخليجيون ما نسبته أربعين في المئة من السياح ولكنهم يؤمنون ما نسبته 65 في المئة من الدخل السياحي وخصوصاً بالنسبة للفئة الميسورة من بينهم، وهؤلاء انتهى وجودهم حالياً.

ويلفت الأشقر إلى أن لبنان كان يستقبل في فترات الأعياد، وهي غير موسم الصيف، نحو عشرة آلاف خليجي على الأقل، كما كان العديد منهم يقصدون لبنان كل أسبوع مساء الأربعاء ويغادرون مساء الجمعة، "اليوم لم نعد نرى منهم أحداً".

ويؤكد الأشقر تراجع الحركة الفندقية بنسبة أربعين في المئة من نسبة التشغيل، بالرغم من خفض السعر بنسبة أربعين في المئة عن السعر الذي كنا نقدم فيه الخدمات من قبل، لافتا إلى أن هذه النسب تنسحب على بيروت أما خارجها "فالكارثة أكبر".

يشار إلى أن معظم السوريين الميسورين تركوا الفنادق واستأجروا شققا.

وما زالت فنادق بيروت تتحرك عبر بعض المؤتمرات ، فيما تجاهد الفنادق خارجها للحفاظ على نسبة إشغال تفوق الأربعين في المئة لكي لا تضطر للإقفال. ويعتبر الأشقر أن إقفال أي فندق لا يعني إفلاسه وإنما الحد من الخسائر، مؤكداً أن 99 في المئة من المؤسسات الفندقية أقفلت أقسام وطوابق كاملة منها، ووصلت نسبة الإقفال أحياناً إلى أربعين في المئة من الأقسام لخفض كلفة التشغيل. وهناك فنادق كبيرة ومعروفة أقفلت بالكامل. ومن بين هذه المؤسسات هناك فنادق كانت تشتري بمئة ألف دولار حاجتها من المياه فقط.

ويؤكد الأشقر أن نسبة الإشغال انخفضت عن العام 2010 بنسبة خمسين في المئة فيما تدنت نسبة المداخيل بنسبة ستين في المئة، مؤكداً أنه لو لم تخفض المؤسسات الفندقية أسعارها لكانت الخسائر أكبر.

ويرى أننا في لبنان "ملوك الفرص الضائعة، فلو كنا ننعم باستقرار أمني وسياسي ولو هشاً، لكان يمكن أن نستقطب الاستثمارات السورية الضخمة". أما اليوم، وفق الاشقر، فإن المعارض يخاف من الموالاة والموالي يخاف من المعارضة، مؤكّدا أن الاستثمارات الليبية والتونسية والمصرية والسورية باتت تتجه نحو كل من تركيا والإمارات.

وفي البقاع، يؤكّد رياض سليلاتي من فندق "بارك أوتيل" أن "السياحة البرية انتهت، فيما أستأجر المقيمون السوريون الميسورون شققاً وهو أمر طبيعي إذ لا يمكن الإقامة بشكل دائم في الفنادق".

بذلك، تراجعت الحركة السياحية نحو خمسين في المئة عن العام 2012 الذي كان سيئاً أيضاً، "لكن العام الحالي هو الأسوأ الذي نشهده منذ العام 1954، وهو أسوأ حتى من موسم 1975-1976".

ويتمنى سليلاتي أن يتغير الوضع مع بدء موسم العام الحالي، أي في أوائل حزيران وحتى نهاية أيلول "فالموسم هو موسم السياح العرب والخليجيين تحديداً، هؤلاء هم من يسخون، وهذا مرهون بفتح الطريق بين سوريا وبين لبنان وعودة تدفق السياح عبر البر".

ويشير سليلاتي إلى كلفة تشغيل المرافق السياحية على أصحابها سبعة أيام على سبعة أيام في الأسبوع مرتفعة جدا، مؤكداً أن موسم الأعراس جيدا ولكنه لا يكفي لتعويض كل الخسائر المتأتية عن ضرب الموسم السياحي".

تجارة وصادرات وصناعة

يؤكد مدير الدراسات والتخطيط والمعلوماتية في الأمانة العامة للمجلس الأعلى السوري ـ اللبناني روجيه صوايا ان عدد السياح الآتين من وعبر الحدود مع سوريا بلغ في العام 2010، نحو 894 ألف و724 سائحا، ليدلل إلى حجم الكارثة على القطاع السياحي.

وبالنسبة للتبادل التجاري بين سوريا ولبنان، يشير صوايا إلى ان الاستيراد اللبناني من سوريا بلغ في العام 2010 ما مجمله 339 مليون و366 ألف دولار. انخفضت القيمة في 2011 إلى 310 ملايين ومئة ألف دولار، بنسبة 8.62 في المئة. وفي العام 2012 وصلت إلى 266 مليون و160 ألف دولار، أي أدنى بنسبة 14.18 في المئة عن العام 2011 وبنحو 25 في المئة عن العام 2010.

أما صادرات لبنان إلى سوريا فقد كانت قيمتها 220 مليون و745 ألف دولار في 2010، انخفضت في 2011 إلى 214 مليون و838 ألف دولار بنسبة 2.68 في المئة. ولكن الصادرات نفسها عادت وارتفعت بشكل ملحوظ في العام 2012 إلى 294 مليون و275 ألف دولار، أي بزيادة بلغت 37 في المئة. وسجل للمرة الأولى رجحان كفة الميزان التجاري بين البلدي لصالح لبنان، بعدما حصل ألأمر نفسه في العام 2007 حين فاق التصدير اللبناني إلى سوريا (210 مليون دولار) حجم المستوردات منها (206 ملايين دولار).

إلى ذلك، يؤكد صوايا أن النفط كان يشكل أكثر من خمسين في المئة من مجمل المستوردات الرسمية الداخلة بالرسوم الجمركية، وبلغ في العام 2001 مثلاً، 64 في المئة بحجم مالي وصل إلى 211 مليون و300 ألف دولار.

انخفضت النسبة تدريجياً إلى 44 في المئة في العام 2002 وإلى 31 في المئة في العام 2003 ثم إلى سبعة في المئة في العام 2004 بسبب إصدار لبنان لقانون يحدد معايير ومواصفات الاستيراد النفطي (بنزين من دون رصاص ومازوت بنسب كبريت محددة)، وهي مشتقات غير متوافرة في سوريا. أما في العام 2011 فقد وصلت النسبة إلى 1.5 في المئة بحيث لم تتجاوز قيمتها الخمسة ملايين دولار.

ونظراً للوضع في سوريا، فقد سمحت الدولة السورية باستيراد أي منتج أجنبي عبر لبنان وهو ما لم يكن مسموحاً سابقاً. وعليه، انقلبت الأمور وصار لبنان يعيد تصدير النفط إلى سوريا حيث بلغت الصادرات من المشتقات النفطية (إعادة تصدير) في العام 2012 ما قيمته 44 مليون دولار من المازوت و17 مليون دولار من غاز البوتان.

اتحاد الغرف اللبنانية

يشير رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة محمد شقير إلى أن معظم الشركات والمؤسسات الكبيرة التجارية والصناعية في لبنان لديها فروع في سوريا، ومع ذلك لا توجد أرقام دقيقة ومحددة عنها وعن الخسائر التي منيت بها نتيجة الحرب هناك.

ولكن عدم وجود أرقام دقيقة عن حجم الخسائر، لا ينفي حقيقة وقوعها حيث "أُقفلت ودُمرت معظم المنشآت ومعها تلفت البضائع أو نهبت"، ويقدّر شقير الخسائر بنحو "ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار ".

يشير أحد المستثمرين في صناعة الإطارات المطاطية (الدواليب) إلى أن خسارة مخزن بضائعه وحده كلّفه ما لا يقل عن أربعين مليون دولار.

ويلفت شقير إلى أن السنوات الأربع أو الثلاث التي سبقت بدء الحرب في سوريا، شهدت فورة في الاستثمارات اللبنانية في سوريا "حيث افتتحت مطاعم ومحلات ألبسة واستثمارات كثيرة أخرى، ولم يكن كل ذلك موثقاً بشكل كامل ودقيق، إذ كان بعضه تحت الطاولة".

ويتحدث شقير عن تقهقر السوق السوري الداخلي ومعه طبعاً معدل الاستهلاك بما يقارب المليون والنصف مليون وحدة من أصل ستة ملايين، ومعظم المناطق المتضررة تحتوي على منشآت تجارية وصناعية، ونزوح ملايين السوريين.

ومع الأحداث انتهت، وفق شقير، 95 في المئة من الصادرات الرسمية اللبنانية التي كانت تبلغ قيمتها نحو ثلاثمئة مليون دولار، بموازاة قطاع التهريب غير المقدر رسمياً.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت سوريا أكبر مستورد للنبيذ اللبناني بنسبة ثمانين في المئة من إجمالي الصادرات اللبنانية من النبيذ. ويمكن القول إن "قطاع السلع الزراعية والمشروبات والترابة (الإسمنت)، هو أكثر المتضررين من الوضع الحالي".

ويتوقف شقير عند عدم وجود عملة صعبة في سوريا "ما زال هناك طلب على بعض السلع، ولكن نفد الدولار واليورو وأصبح البعض يدفعون بالريال السعودي، وما زال يصدّر من يقبض "كاش" أو بالعملة الصعبة إن وجدت".

ويرى شقير أن لبنان لم يستقطب الصناعات والاستثمارات السورية بسبب "مشاكلنا وسياسة الحكومة الحالية"، لافتاً إلى ذهابها إلى تركيا والإمارات، وإلى أن "معظم ما يصدر إلى سوريا اليوم يحصل عن طريق التهريب، إذ لم تعد شهادة المنشأ مطلوبة".

تحسن في الصناعة

يطلق رئيس جمعية تنمية الصادرات في جمعية الصناعيين زياد بكداش على لبنان توصيف "بلد الفرص الضائعة"، مؤكداً أن المصانع السورية التي تقدمت بطلبات ترخيص لإنشاء فروع لها في لبنان لم بتجاوز عددها المصنعين أو الثلاثة، بينما "ذهبت مئات الاستثمارات السورية إلى كل من تركيا والإمارات ودبي بالتحديد".

ويتحول هؤلاء، بنظر بكداش إلى "منافسين للصناعة اللبنانية بسبب تدني الكلفة الإنتاجية في تلك الدول عن مثيلتها في لبنان". ويؤكد أن الصناعة اللبنانية مستعدة لمنافسة الصناعات كلها في العالم "شرط تساوي الفرص وعدم وجود سلع مدعومة هناك وغير مدعومة هنا".

ويجزّئ بكداش تأثير الوضع في سوريا على الصناعة اللبنانية إلى جزأين: "فمن المؤكد أن المنافسة السورية على صعيد السلع المدعومة والمهربة خفّت في ظل الوضع الراهن، وعليه انتعش قطاع صناعة بمعدل يُقدّر بنحو 15 في المئة، خصوصاً على صعيد المواد الاستهلاكية من ألبسة ومواد غذائية وورقيات".

ولكن المشكلة وقعت على صعيد التصدير "حيث كانت تسيّر نحو ثلاثمئة حافلة يومياً عبر سوريا نحو بلدان الخليج لتنقل البضائع الصناعية اللبنانية. قبل خمسة أشهر اقتصرت الحركة على خمسين حافلة، أمّا اليوم فقد انتهت".

ويشير بكداش إلى ارتفاع كلفة الشحن بالبحر عنه في البر وكذلك هناك فرق كبير بالمدة الزمنية، فإذ كانت شحنة البضائع البرية تفرغ بضائعها في الخليج خلال أسبوع واحد وتعود بالمال، اليوم "يستغرق الشحن بالبحر نحو 21 يوما، بما يرجئ عودة رأس المال والأرباح".

ويتوقف بكداش عند إقفال أو تدمير الكثير من المصانع السورية، وعليه زاد التصدير نحو سوريا بنسبة 37 في المئة خلال العام 2012 عما كان عليه في 2011، فـ"حلب كانت صناعية بامتياز". ويشير إلى أن الفرق بين العرض والطلب في سوريا يتم تعويضه من لبنان".

نازحة سورية في أحد شوارع بيروت (مصطفى جمال الدين)
نازحة سورية في أحد شوارع بيروت (مصطفى جمال الدين)


في ظل التخوف والقلق على الوضع الاقتصادي يعمل \
في ظل التخوف والقلق على الوضع الاقتصادي يعمل \"مصرف لبنان\" لتجاوز تداعيات الأزمة السورية (الأرشيف)


تعليقات: