عن مقاوم اسمه سلمان... أو أي اسم آخر

مقاوم يستعدّ للمعركة (صورة خاصة بـ «الأخبار»)
مقاوم يستعدّ للمعركة (صورة خاصة بـ «الأخبار»)


«هنا وقفوا... هنا رقصوا... هنا شربوا... هنا أكلوا» وفي اليوم التالي استشهدوا. هذا السيناريو القصير هو مضمون شريط الفيديو المُصوَّر بكاميرا هاتف محمول لشابين من المقاومة في أحد مواقع القتال. كانا يشيران إلى نفسيهما ويرددان قصيدة الشاعر عمر الفرّا التي ذاع صيتها أثناء الحرب. أرادا توثيق يومياتهما لحظة بلحظة لكن الموت باغتهما بعد ساعات قليلة، ولَم يُبقِِ من ذكرهما سوى شريط قصير يتبادله زملاؤهما فيما بينهم...

يجلس سلمان على الشرفة، يمدّ قدميه العاريتين على الحافة ويحكي عن رفيقَي السلاح. عن الطفولة واللعب في الأزقّة، عن الحب الأول وتحولات المراهقة، عن الصلاة وتشرّب الأفكار الدينية، عن الانتماء الى الحزب و«التورط» في العمل العسكري.

سلمان شاب يختصر حال الكثيرين من أبناء جيله الذين استقطبهم فكر المقاومة أواخر القرن الماضي. مثّلت شدة الالتزام الديني في بيئة فقيرة، جواز عبورهم الى عالم خيالي أصله على الأرض لا في السماء. لطالما تغيَّب عن الحصص المدرسية. لم يُعِر اهتماماً لدراسته رغم ولعه الشديد بعلم الهندسة. سعى جاهداً لتقسيم وقته بين الجلوس على المقعد الخشبي في قاعة المحاضرات، والاستماع الى الدروس العسكرية والقتالية متظللاً في فيء أشجار الصنوبر. كان الخيار الثاني بديهياً. سلمان نسخة عن مئات من شباب تصطدم بهم أينما تجولت في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في قرى الجنوب اللبناني؛ ثياب سوداء وقبعة صيفية، دراجة نارية ولحية تُركت لتنبت على هواها ولم تَزُرها شفرة الحلاقة يوماً. خجل. تهذيب فائق وحرص دائم على إرفاق ما قلَّ من الكلام بعبارات دينية: «الحمد لله.. ان شاء الله... بإذن الله...» تبعث الاطمئنان في النفوس.

يشرح سلمان عن الحياة العسكرية رافضاً وصفها بالسهلة أو الصعبة. المسألة عبارة عن نمط مُعقَّد من الحياة ينشده عدد كبير من شباب «هجروا الحياة الدنيا» ويبحثون عن مكانهم في الجنة. يرون فيها متنفساً، وفرصة للهروب من التعقيدات اليومية. «أوَ تعتقد أننا نقاتل من أجل 400 أو500 الف ليرة هي كل اتعابنا في الشهر! أم من أجل قرف العيش في الغاب؟!» لم تكتمل أعوامه الستة والعشرون بعد. مضى على انتسابه إلى عالم المقاومة اعوام عشرة. سيتزوج هذا الصيف فتاة أوصاه بها رفيقه قبل أن يستشهد. هكذا تنحو الأمور في نهاية المطاف. أحبَّ كثيراً في زمنٍ ولّى. نَظَم الشعر واشترى باقات الورد وفُطر قلبه أكثر من مرّة. راهقَ حتى الثمالة، ولم يقتنع أن في شقاوته انحرافاً عن الصراط المستقيم. وُوجِهَ أهله بالرفض كلما أوغلوا بحثاً عن زوجة له، فـمهنة القتال في «حزب الله» تفتقر الى كل أنواع الاغراء والرومانسية حسبما يبرر بسخرية.

يعمل سلمان في موقع متقدم على الجبهة. مؤتمن على أسرار شديدة الحساسية، جعبته مثقلة بخطط بديلة ومعلومات عادة ما تترك للمآزق وعند استنفاد كل الاساليب، حيث يوجب الموقف إفهامها للعناصر وتنفيذها تحت وابل من النار. قفزت به مؤهلاته وقدراته الاستثنائية الى أعلى السلم في وقت قياسي: سرعة البديهة واجتراح الحلول الناجعة في اللحظات الحرجة. هو الفرد الذي يقود المجموعة ويؤمن بمحدودية دوره. حتى رفاق الفرقة لا يدركون كنه المهام المنوطة به، يظنونه نظيراً لهم. هيئته لا تشي بدهائه، فهو قصير القامة وشديد النحول. يخال العديد من الشباب ممن غلبتهم الحماسة أن المقاتلين رجال مفتولو العضلات، يتماثلون في عنفوانهم بمؤدي أفلام الحركة والعنف الأميركية. يجد هؤلاء في سلمان مادة لنكاتهم. يبتسم حين يسخرون من شكله. يقارنونه بالصواريخ التي تفوقه طولاً، ويَدَّعون ان ضغط الطلقات النارية سيدفعه امتاراً إلى الوراء حين يشرع بالرماية. رغم احترافه للعمل، ما زال سلمان يشعر بالرهبة متى داوم على الحرس في ظلام الليل. اعتاد السكون المرعب لساعات الصباح الاولى مع الوقت. يجلس وحيداً عند جذع احدى الاشجار ممسكاً بالبندقية ويرتاب للأصوات من بعيد، حتى الطبيعة لا تهدئ من روعه.

كان قد عاد حديثاً من دورة تدريبية طويلة. غاب شهوراً عن الأنظار. لم يره أي من الرفاق أو الأصحاب أو الأهل. وما ان التقط أنفاسه وارتاح حتى اندلعت الحرب. التحق بالموقع فكانت ثلاثة وثلاثين يوماً يعترف سلمان بصعوبتها، «انتصرنا ولم نخيب ظن أحد، وكنا مستعدّين للتحمل أكثر. لكن كل ذلك لا يلغي صعوبة المسألة وقساوتها. إنها حرب في النهاية، الأمر ليس حلماً وردياً مثلما يحلو للبعض الظن».

داعبت فكرة المستقبل خارج حياة الغابات والوديان سلمان ذات مرة. لا ضير في ذلك. فحلم اليقظة الذي ساوره لا يلغي توقه الى المقاومة والذود عن أهله ضد الاحتلال الاسرائيلي. يبرر فعلة انخراطه وزملاءه في صفوف المقاومة الى وجود الاحتلال على أرضهم لا الهرب نحو أسهل الأمور أو أفضلها. «من منا لا يتمنى أن يستيقظ كل نهار ويشرب القهوة على الشرفة مع زوجته، أو أن يرافق أطفاله في رحلتهم الصباحية الى المدرسة».

تسكنك الدهشة عندما يُسهب سلمان في سرد متابعته لمسار الحرب السياسي والاتصالات الدبلوماسية. يزعم متابعتهم للتغطية الإعلامية على التلفاز وعبر الهوائي مباشرة من أرض المعركة، إذ ان كل وسائل الاتصال مؤمنة! بإمكانه اعادتك الى الوراء مُذكِّراً بكل تصريح سياسي وبيان اخباري حتى جَاهَرَ بـ«أن قناة «المنار» بالغت بعض الشيء في نقل الأحداث، وهو أمر طبيعي».

«التكليف الشرعي»؛ العبارة السحرية التي ينصاع لها كل المحازبين من أصغر العناصر سناً في «التعبئة» وصولاً إلى الأمين العام بنفسه. لا ينكر سلمان حصول بعض الخروق والارتجالات التي ضُبطت على الفور. «أكثر اللحظات رعباً كانت لدى إصغائنا بكليتنا الى الرسالة التي وجهها السيد حسن نصر الله. غمرتنا الحماسة وأحسسنا بأننا قادرون على مجابهة الكون». كان ترويض المندفعين وثنيهم عن ارتكاب الحماقات الجزء الأصعب، لكنه مرَّ بسلام.

«لقد كنا على أتمّ الاستعداد للحرب رغم مفاجأتنا بها». المفاجأة عنصر يدرسه عقل الحزب المدبِّر ويضعه في أعلى لائحة الاحتمالات. لا يُجهد ضباط غرف العمليات انفسهم بإقناعك بأن ما استنفدوه من طاقة وسلاح، كمّاً ونوعاً، لا يكاد يُحسب في ميزان ما يملكون في الواقع. «صواريخ «كورنيت» و«ساغر» و«رعد» و«زلزال» و«خيبر» التي كشفنا عنها في الحرب أوراق مهمة، لكن اللعب ما زال في جولاته الأولى»، أضف إلى ذلك أن الحزب يمسك بأوراق اخرى وعليه يقع دور التوزيع على اللاعبين في المرة المقبلة. وبالمناسبة، فرجالاته لا يهوون المقامرة...

تعليقات: