هكذا قضى انطوني شديد، إبن جديدة مرجعيون، خلال تغطية الأحداث في سوريا

 صورة حديث لأنطوني شديد الصحافي الأميركي المرجعيوني الأصل
صورة حديث لأنطوني شديد الصحافي الأميركي المرجعيوني الأصل


"بيت من حجر" لأنطوني شديد في مرجعيون، أنجزه ولم يهنأ به!...

مرجعيون:

سلام أنطوني.. هزني اليوم نبأ رحيلك باكراً.. كنت أدرك تماماً مدى مخاطرتك لتقصي الحدث، أنى دعتك مهنة البحث عن المتاعب التي نذرت نفسك لها.. لم تثنك أحداث ليبيا، ولا مصر، ولا بغداد، ولا رام الله، ولا حتى سوريا، أن تخوض غمارها في ظل الإضطرابات المقلقة التي رافقت الربيع العربي..

انطوني شديد، الصحافي المرجعيوني المرموق في أشهر صحافة أميركا والعالم، "نيويورك تايمز" مدير مكتبها في بيروت (منذ عام2009)، وقبلها هو محرر الشؤون الإسلامية في صحيفة "واشنطن بوست"، واحد من أكثر الصحافيين الأميركيين العرب شهرة، الذي تحول، رغم سنيه القصيرة (43 سنة) الى مصدر إلهام للشباب الأميركي من أصل عربي في مجال الإعلام الميداني.

أتيحت لي الفرصة أن ألتقيه للمرة الاولى ذات مساء من العام 2007، حين وصل إلى لبنان آتياً من العراق آنذاك كما أخبرني، واختار تمضية عام كامل هنا في جديدة مرجعيون، حيث أقام في منزلٍ جاراً لنا، ليُشرف بحرفية ومهنية الصحافي الثاقب، على ترميم وتأهيل منزل أجداده في البلدة المبني من الحجر المقصب، وليتابع بشكل مباشر وبدقة، كل عمل قام به العمال والحرفيون، بوله العاشق المحب لبلدته جديدة مرجعيون وتراثها وقرميدها الأحمر، وهمه أن يعيد إلى المنزل ألقه وما كان عليه وفيه، متنسماً عبق الزمن الغابر وتراث الأباء والأجداد، رغم الكلفة الباهظة التي استنزفته، كما في دورٍ "معتقة" ما زالت تتباهى بعنفوانها وتغوي بسحرها. ولم ينثنِ ِ في كده وسعيه، حتى شارف الإنتهاء منه كما أراد وتمنى، لجعله مستقراً ومصيفاً له، وبموازاة إعادة الحياة إلى البيت العائلي، أنجز أنطوني كتاباً عنه تحت عنوان "بيت من حجر"، تحدث فيه عن عائلته، وجديه اللذين هاجرا من جديدة مرجعيون في مطلع عشرينيات القرن الماضي إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة، حيث أبصر والداه بادي وروندا النور بمدينة أوكلاهوما، وكذلك انطوني في العام 1968، وله شقيق وشقيقة، وولدين هما ليلى وعمرها 10 سنوات، من زواج سابق له انتهى بالطلاق، ومالك عمره أقل من عامين، من زوجته الصحافية ندى بكري، العاملة معه في مكتب الصحيفة نفسها ببيروت.

ما من مرة إلاّ وألفيته جالساً إلى الطاولة، في غرفة البيت ذات النافذة المطلة على الشارع، وأمامه (اللاب توب) جهاز الكومبيوتر خاصته، وهو غارق في كتاباته عن أحداث المنطقة، يكتب ويحلل، ويتعمق بتاريخ منطقة مرجعيون، وأعلمني أنه بصدد وضع كتاب يتناول تاريخها وأحداثها. رغم تواضعه ودماثته هناك ما يوعز بما يكتنفه؛ كنت تستشف ثورة في داخله حين تجالسه وتحدثه عن الأوضاع ومآل الأمور التي صارت عليه منطقة الشرق الأوسط. رغم هدوئه كانت تتوالد ثورات في داخله، وقد رام في كتاباته إلى إحداث فرق كبير في التغطية الإعلامية الأميركية للقضايا العربية، وتغيير النظرة الضلالية إلى منطقة الشرق الأوسط، بعكس ما ترسمه السياسات الأميركية.

انطوني شديد اللبناني الذي كان يعتز بأصله المرجعيوني في جنوب لبنان، سجل اسمه في سجل الخلود مع الكبار من أبناء بلدته جديدة مرجعيون، أمثال البروفسور مايكل دبغي جراح القلب العالمي، وبطل الحرب الكورية في الطيران النفاث جيمس جبارة، والموسيقار الكبير الدكتور وليد غلمية.

تعرفت إليه تماماً على مايزيد عن السنة، ولمستُ فيه ولعه بالعمل الميداني الذي بدأه مع وكالة "أسوشيتد برس" بين عامي 1995-1999، ثم في صحيفة "واشنطن غلوب"، وبعدها مراسلاً للشؤون الإسلامية ومديراً لمكتب العراق في الـ"واشنطن بوست"، قبل أن يلتحق بصحيفة "نيويورك تايمز" عام 2009، مديراً لمكتبها في بيروت.

كنت أشعر بارتياح وسرور للتحدث إليه رغم أنه كان مقلاً في الكلام، حين يقدم بابتسامته المعهودة، نصائح قيِّمة في مجال الإعلام الميداني، وهو الآتي من ساح الميدان، تسبقه شهرته مراسلاً حربياً على الخطوط الأمامية للجبهات، وفي قلب المواجهات ودائرة الحدث، وتبين لي في مطالعاتي عما كتبه بأسلوبه السلس، كم يبدو بطلاً بالنسبة للعديد من الأميركيين العرب الذين يدرسون الصحافة، وأولئك العاملين في الوسط الإعلامي، خصوصاً أنهم يشعرون بالضيق من وصمهم بالإرهاب، وهم في حاجة إلى مزيد من الصحافيين الرواد لتغيير الصورة والعقلية النمطية الأميركية التي تختزلهم، وبخاصة أن أنطوني كان يشكل إنموذجاً للنجاح، ومخاطراته الصحافية التي تشبه إلى حدٍ ما المغامرات، كانت تلهمهم وتشحذ طموحاتهم لبلوغ الأفضل.

كان أنطوني شغوفاً بالشرق الأوسط، وبجذوره اللبنانية الأصل، وأراد أن يحتفل بأمرين لم يهنأ بهما، بيت أجداده الذي أنجز ترميمه بأبهى صورة في جديدة مرجعيون، وحفل توقيع كتابه الأخير، عن العام الذي قضاه في مسقط رأس أجداده، "بيت من حجر" في بيروت الشهر المقبل، الذي سيُترجم لاحقاً الى العربية.

عُرف أنطوني شديد بمخاطراته خلال تأدية عمله الصحفي في غير منطقة؛ فقد أُطلقت النار عليه في مدينة رام الله في الضفة الغربية عام 2002 وأصيب بكتفه، كما تعرض بيته في بغداد لعبوات ناسفة هزت جدرانه، ولوحق من الشرطة المصرية خلال تغطيته لثورة 25 يناير، واحتجزته كتائب القذافي لمدة ستة أيام، أثناء تغطيته للثورة الليبية خلال المعارك في أجدابيا.

وعند إطلاق سراحه خاطب شديد حشداً من الناس عن حوار دار بينه وبين والده ليلة اعتقاله، فقال له "بمزيج من بعض التعجرف وبعض الخيال، لا تقلق يا والدي أعرف ماذا أفعل، وأنا معتاد على هذه الظروف" وختم شديد كلامه، "أعتقد أنه لو لم اعتقل وأكن هناك لأروي القصة فإنها لن تروى".

غطّى أخبار الشرق الأوسط لأكثر من عقد ونصف من الزمن، وهو يُعّد واحداً من أشهر مراسلي الشرق الأوسط الذين غطوا أحداث المنطقة بداية بالغزو الأميركي للعراق عام 2003 ونال على إثرها جائزة بوليتسر أرفع جائزة صحافية في الولايات المتحدة للتغطيات الدولية عام 2004، كما حصل على الجائزة عينها عام 2010 لتغطيته غزو العراق والحرب الأميركية عليه، ورشّحته جريدة "نيويورك تايمز" لجائزة ثالثة لهذا العام، لتغطيته أحداث الربيع العربي عام 2011. كما غطى شديد الحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2006، وأحداث الربيع العربي الذي عصف في الشرق الأوسط منذ أكثر من عام، في فلسطين، والعراق، ومصر وليبيا، وأخيراً في سوريا،

وقد وضع شديد عصارة خبرته في كتبه "ميراث النبي" (2002)، "يقترب الليل" (2005)، و"حيث لا ينتهي الليل"(2006). أما كتابه الأخير "بيت من حجر" والذي يروي فيه ذكرياته في مسقط رأسه في بلدة مرجعيون الجنوبية اللبنانية فهو قيد الإعداد للطبع.

أنطوني شديد الذي ولد في 26 أيلول 1968 في أوكلاهوما، هو مواطن أميركي من أصل لبناني، درس الصحافة منذ منتصف الثمانينيات، في جامعتي ويسكونسن وكولومبيا، وبعد تخرجه عمل في 1990 بوكالة "أسوشييتد برس" مع ميل ظهر لديه للتخصص بشؤون الشرق الأوسط، لكنه وجد أن عليه الإلمام باللغة العربية ليحقق أحلامه.

لهذا السبب حزم حقائبه في العام 1991 وسافر إلى مصر، حيث درس العربية بالجامعة الأميركية في القاهرة، وعايش مجتمعها حتى تعلم اللغة، فاعتمدته "أسوشييتد برس" في 1995 مراسلا لها هناك، واستمر فيها حتى العام 1999، انتقل بعدها إلى صحيفة "بوسطن غلوب" الأميركية مبتدئاً معها رحلته في الصحافة المكتوبة، ومن بعدها عمل مراسلاً صحفياً لـ"الواشنطن بوست"، بعكس مأ أراد له والده من أن يكون محامياً، وعمل في واشنطن، والقاهرة، لوس انجلس، بغداد، رام الله، ليبيا، سوريا وبيروت. وهو متزوج من الصحفية ندى بكري، وكان من المقرر أن يلتقيها وطفلهما في انطاكيا، وهو غاية الشوق لرؤيتهما، ليمضوا سوياً إجازة عائلية في اسطنبول، وثم العودة الى بيروت والتفرغ لانجاز كتابه الثاني عن ثورات الربيع العربي. لكن المنية وافته في الشمال السوري في أزمة ربو، حين ما كان يهم في مغادرة سوريا باتجاه تركيا، كما أفاد رفيقه في رحلة المهمة الأخيرة المصور تايلر هيكس، أنه كان يعاني من حساسية من الأحصنة حيث اضطُر إلى امتطائها لاجتياز الحدود التركية نحو إدلب في سوريا لتغطية الإحتجاجات، وجمع معلومات عن الجيش السوري الحر، وعناصر المقاومة المسلحة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وهذه الخيول يستخدمها المرشدون في تسللهم، لأن ركوب السيارات خطير جداً في هذه الناحية.

ويبدو أن الأزمة داهمته في طريقه نحو سوريا التي وصلها قبل نحو أسبوع، راكباً أحد الجمال في عبوره من تركيا باتجاه إدلب... فحلب، وكان بحوزته علاج للربو، فشفي منها بعد فترة من الراحة، لكن في طريق العودة، داهمته نوبة شديدة في وقت مبكر من يوم الخميس، قضت عليه بفعل سوء الأحوال الجوية، وبذل رفيقه المصور هيكس جهده لإسعافه لكن لم ينجح، فاتكأ انطوني بعد ضيق في التنفس على صخرة وتوفي على الطريق، وتم نقل جثمانه إلى تركيا تمهيداً لنقله إلى أميركا لمواراته الثرى. واشار والد أنتوني لـ"أسوشيتد برس"، إلى أن ابنه كان يعاني من الربو طوال حياته وكان يحمل دوماً ادوية المرض معه أينما ذهب، لكنه كان يمشي خلف أحصنة خلال تسلله على صهوات الجياد.إلى سوريا، وتتسبب له الأحصنة بالذات، بنوبات حساسية شديدة في الرئتين.

وأبلغ ما قاله فيه مدير تحرير الـ"نيويورك تايمز" أمام موظفي الصحيفة، إن "أنطوني مات كما عاش، مصمّم على أن يكون شاهداً على التغييرات في الشرق الأوسط، وعلى معاناة الشعب العالق، بين قمع الحكومة وقوى المعارضة".

نعته الجامعة الأميركية في بيروت، التي كانت قد منحته الدكتوراه الفخرية في حزيران من العام الماضي. حينها قال عنه رئيس الجامعة الدكتور بيتر دورمان، إنه من مراسلي الخطوط الأمامية في الجبهات، وإنه معروف بتغطيته التي لا تضاهى لأخبار الشرق الأوسط... وقال، إن شديد كأميركي يتكلم العربية، يشعر فوراً بالمشاركة الوجدانية مع الناس العاديين، الذين غطّى آلامهم وجروحهم الجسدية والنفسية، ويرسم صوراً حية لشعوب الشرق الأوسط، ويُدخل قرّاءه في حياة الأفراد الذين يصفهم.

وقد توجه شديد إلى الطلاب بالقول: "جيلكم لديه فرصة لتصحيح أخطاء جيلي وأجيال آبائنا وأجدادنا. للمرة الأولى منذ فترة طويلة، لدينا القدرة على التخيّل، وبطبيعة الحال، والأهم، إقامة واقع جديد من خلال هذا الخيال".

كلام الصور:

البيت الذي أعاد تأهيله في مرجعيون ولم يهنأ به – صورة مايا العشي – مرجعيون

صورة حديثة لأنطوني شديد الصحافي الأميركي المرجعيوني الأصل

    البيت الذي أعاد تأهيله في مرجعيون ولم يهنأ به – صورة ادوار العشي – مرجعيون
البيت الذي أعاد تأهيله في مرجعيون ولم يهنأ به – صورة ادوار العشي – مرجعيون


تعليقات: