ذكريات جورج شامي... روايات عدة في رواية واحدة

ذكريات عارية: الكتاب طبق دسم من أطياف المعرفة
ذكريات عارية: الكتاب طبق دسم من أطياف المعرفة


الكتاب طبق دسم من أطياف المعرفة... ودعوة إلى سيادة العقل والنباهة

منذ السطر الأول في روايته الجديدة ذكريات عارية، الصادرة عن دار الكواكب 2010- يترنح الكاتب جورج شامي بين ماض عتيق وحاضر صعب. ويستحضر جدلية الخير والشر. يعالجها على ضوء ما تعلمه ودرسه. هو المتشبع بإيمانه، يريد انتصارا كاملا للخير ويطلب محوا للشر...

أما الحياة الإنسانية فتقوم على جدلية الخير والشر، المرافقان للحياة البشرية منذ الأزل... الكاتب مؤمن بامتياز. لكنه يقظ ويطرح الأسئلة. ثم ينتقد بعنف بعض المفاهيم السائدة. كما ينتقد تطبيق بعض التعاليم تطبيقا خاطئا... وهو يرى أن الطفل الذي كان... لا يزال يسكنه.. بحيث صارا صنوان لا يفترقان: فعندما أتكلم يتكلم ذلك الطفل معي، وعندما أنام ينام ذاك الطفل معي. وعندما أسافر يسافر ذلك الطفل معي. ص 26.

زمن الكاتب رفيقه أيضا. لكنه يتخلى طوعا عن زمنه هذا عندما يتوجه إلى عالم موروث إلى مغاور الذات، حيث يتدفق البوح شلالات. ص 28. ويعاتب زمنه العجوز، الذي يصفه بزمن الطيش والعشق والمجون والغطرسة والنجاح والسقوط والمغامرة... هكذا يهجوه بسبب كبر السن واقتراب موعد الرحيل... لكن الزمن يسامحه ويعاهده على الوفاء حتى النهايةodhl ],j ;,l...

حوار مع والده الميت

يقف الكاتب أمام القبر يروي بصيغة المتكلم تفاصيل حياته، لوالده الميت منذ عشرين سنة. ويعترف أنه لم يزر قبره منذ وفاته سوى تلك المرة. يصف طفولته الأولى وتصرفاته البريئة، المزعجة أحيانا، بتلقين من خاله. ثم يتكلم عن مرحلة بلوغه ومراهقته ويورد نماذج عن علاقاته الغرامية، في الخيمة الصيفية على سطح المنزل، من دون أن ينسى بركة الماء التي كان يسبح فيها مع صبية من عمره في ضيعة الخربة من قضاء مرجعيون، التي أصبح اسمها، بعد تطور العمران فيها: برج الملوك، و لا ينسى أن يذكر والدته ويشير إلى أنها من بلدة كوكبا الجنوبية، في قضاء حاصبيا، حيث أمضت طفولتها وتطلب رقادها الأخير في تربتها... وكوكبا بلدة حرمونية تتدرج بيوتها الجميلة، فوق سفح عريض، تظلله أشجار زيتون تاريخية، ويسقي أطرافه نهر الحاصباني في الوادي الأخضر الخصيب... ومثل كل مصدوم، يعاتب والده وجهاً لقبر ... لأنه لم يقسم أملاكه بين أبنائه وهو حي يرزق... وفي هذا الحوار من جانب واحد، هو جانب الكاتب، تتبدى عوامل الأسى من ظلم ذوي القربى...

ليس جديدا ما قام به الكاتب من بوح وعتاب أمام المدفن... فالأمر معروف منذ القدم.. حيث أن كل قبر مشكى للضيم ومبكى... لكن الجديد فيه، التعبير عن تقصير الكاتب الطويل، في زيارة القبر والإفصاح عن مكنوناته والشكوى من ظلم أخيه، إضافة إلى تعداد صروف الدهر ومتاعب الحياة...

الولد الذي خرج باكرا من منزل العائلة وتعلم في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، اصبح صحافيا لامعا، ثم مديرا ورئيس أن يشير إلى المرضعة البدوية زينة. التي كانت تتردد على منزلهم، ويبيت ظنا سيئا بوالده ملمحا إلى علاقة عاطفية له بها... لكن وصف الكاتب لها وصفا دقيقا وشيقا كامرأة، يدعو إلى الظن، انه شخصيا كان معجبا بها وميالا اليها، ثم اسقط ذلك على والده من دون أن يعترف بذلك. فاتهمه ظلما بأنه والد طفلها اليتيم الذي كان يلازمها...

الكنوز المرصودة

يقول المؤلف أن صاحب القبر أي مالكه، ليس والده. بل عرابه، وقد سمح بدفن والده فيه. هذا العراب، كما أخبره الفقيد من وراء جدران القبر، يهوى معاشرة الأموات.. لأنه مهووس بالبحث عن الكنوز المرصودة... فقد حفر حفرا عديدة بحثا عن هذه الكنوز، من دون جدوى..

يبرز الكاتب بعض المعتقدات الشعبية، مثل الرقوة من حبيبة العين وتذويب الرصاص لإبعاد الأذى، إضافة إلى إيمان المرضعات الجاهلات بالسحر والشعوذة... يبين الكاتب ذلك في مفاصل عدة من روايته التي جرت أحداثها، في القرن العشرين، كما تدل النصوص على ذلك...

إن العادات والتقاليد اللبنانية القديمة، التي أشار إليها الكاتب، ساخرا منها، تدل على المستوى العلمي المتردي الذي كان سائدا في الأوساط الشعبية، ما أدى إلى انتشار الخرافات والسحر والشعوذة واستطلاع الغيب...

الرموز والعائلة

إضافة إلى والد الكاتب ووالدته واخوته وصديق والده والمرضعة زينب، يتكلم المؤلف كثيرا عن رموز اختارها، مثل كلبه ولصيقه التوأم وزمنه العجوز... ويخصها بآراء وأدوار في الحوار والأسباب والنتائج...

قد لا نرى فيها حقائق اكثر منها رموزا اختارها من قاموسه الشخصي ومطالعاته الواسعة، ليثير فضول القارئ واستفساراته... هي في نظري شبيهة برموز جبران العالمية، لا سيما في كتابه النبي يطلقها للقارئ ألغازا يشغفه بها، بأسلوب من التشويق واختبار المعلومات والمعرفة...

وتضم عائلة أبيه، الأب والأم و الأولاد ... إضافة إلى عائلته أيضا... يتكلم الكاتب عن العائلتين بالتفصيل. كما يتكلم عن أولاده وتخصصهم العالي في علوم العصر وحيازتهم الشهادات الجامعية... وهو من خلال ذلك يستعرض حالات تاريخية وتطورات للأحداث والمفاهيم كما يتكلم بإسهاب عن بعض جوانب ودوافع الحرب اللبنانية...

الكتابة الصحافية

الكاتب صحافي يتردد اسمه بتقدير واحترام في المحافل الصحافية الكبرى، داخل لبنان وفي الدول العربية وأوروبا ودول أخرى عديدة زارها أو أقام فيها... والكتابات الصحافية التي مارسها في معظم مراحل حياته المهنية، تنعكس في كتاباته الروائية... يضاف إلى ذلك تضمين رواياته، ولاسيما روايته ذكريات عارية التي نحن بصددها، أحداثا جساما كان قد كتب عنها، زمن حدوثها...

في هذا المجال يذكر دخول الجيش اللبناني إلى بلدة شبعا الحرمونية. شبعا البلدة الثلجية الجبلية، المتدرجة على سفح حرمون العالي، المشرعة أحياؤها للريح، الشاهدة على البروق والصواعق... لقد سجل بصدق كثيرا من التفاصيل... لا سيما استقبال الضباط والجنود من قبل أهالي شبعا، بعد الغياب القسري للجيش زمنا طويلا جدا، بسبب الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي ومنه تلك البلدة.

كنت شخصيا في عداد المستقبلين بصفتي مواطن لبناني من شبعا. وأشهد على صحة ما ذكر من تفاصيل دخول الجيش واستقباله من قبل المواطنين الأهالي ... ما يعني انه كان فعلا هناك، بشحمه ولحمه وكاميرته وأوراقه وقلمه... وأخص بالذكر من الشواهد، ما سجله عن عدم ترجل الضباط والجنود من سياراتهم العسكرية، حيث تمهلت تلك السيارات في مسيرها وتوقفت قليلا أمام مشهد ذبح الخراف من قبل الأهالي، ترحيبا بقدوم الجيش الذي انتظروه سنوات طويلة...

لا بد من الملاحظة هنا، إنني لم اكن على معرفة بعد بهذا الصحافي اللامع... لذلك، لم الحظ قدومه ولم التق به... وكم كنت أتمنى هذا اللقاء للقيام بواجب الترحيب والضيافة ، على طريقة سكان الأعالي.

قضايا لبنانية

القضايا اللبنانية بعامة، السياسية والطائفية والوطنية والدستورية والتعليمية والجامعية وسواها... أثارها الكاتب بالنقاش الجيد والاقتراحات البناءة والنظرات الدقيقة... بين فئات وشخصيات قديرة من النسيج اللبناني وقياداته الفاعلة سابقا وحاضرا، في حدود زمنية مرسومة بالأرقام ونظرات دقيقة إلى الواقع اللبناني وتناقضاته وتشابك مصالحه...

لقد عالج مؤلف الرواية الدكتور جورج شامي هذه القضايا الشائكة، والمستعصية أحيانا، على مدى ثلاثة فصول 19-20-21 وحوالي سبعين صفحة من الرواية ...

سجل النقاش وشارك فيه، إلى جانب حوالي مائة وثلاثين اختصاصيا، من الفاعليات الجامعية والقضائية والطبية والأدبية والثقافية والعسكرية والهندسية والدينية والسياسية ومنها الشيخ صبحي الصالح والرئيس حسين الحسيني والمطران غريغوار حداد.

الحوار علمي ممتع. تناول شؤون الدين والدنيا والمفاهيم السائدة التي تشرح الوقائع الحياتية على ضوء المعطيات الدينية السائدة وتعدد الطوائف...

الأسلوب

الكتاب روايات عدة في رواية واحدة... والمواضيع خصبة تنتج أضعاف ما نتوقع. تكفي الإشارة إلى بعض قضايا لبنان المعقدة: الجنسية، الطائفية، التاريخ ومفهوم الدولة...

في مذكراته ثورة على السائد. فهو يعلن مفاهيم جديدة. العالم كما يتخيله ويريده هو المطلوب.. لقد نادى في مذكراته بسيادة العقل والنباهة في ما سطر من مثل واعتمد من مناهج... كان السلوك الخاطئ للمغرورين والمتحكمين والمفسدين، نبراسا يقود آراءه نحو الأصح والأقوم والأفضل... لقد كان رائيا...

الكتاب طبق دسم من أطياف المعرفة ودليل ثابت على خبرة الكاتب الإعلامية والإدارية والعلمية والإنسانية. الغلاف مزين بالقناع. قناع بين وجهين متقابلين: الأبيض والأسود. الخير والشر. الحقيقة والكذبة... هذا التضاد هو محور الرواية الأساسي. يعالجه المؤلف على ضوء المفاهيم الدينية والمعطيات البشرية وسلوك الناس... الذكريات عارية فعلا.. عارية كما ولدت وحدثت...

أتت مواضيع الرواية بصيغة المتكلم. والكاتب هو البطل. يسطر الأحداث ويسجل الأخطاء ويشير إلى العلاج... في الفصل 23 يعير الكاتب اهتمامه لأمور تتعلق بالتعليم في لبنان في جميع مراحله... فيدعو إلى اتباع الأساليب التعليمية الناجعة في إعداد الأجيال اللبنانية. الكاتب صاحب خبرة واسعة في الشؤون العلمية والتربوية والسياسية... يصدح كتابه إفصاحا بما يراه حقائق نافعة لشباب لبنان، ومنهم أولاده، بطي صفحة الماضي والانطلاق نحو غد افضل... كما ينصحهم بالتطلع إلى الأمام والتبشير بالألفة ودحر التباغض...

إنها وصايا الكاتب، الممتلئ نضوجا ودراية وخبرة، للأجيال الفتية، بعدم السير على خطى أهلهم وأجدادهم الناقصة والتوجه نحو اختيار طرق عصرية وجديدة في التآلف والتعايش والحفاظ على الوطن العزيز لبنان...

هي سيرة ذاتية، شاءها الكاتب رواية. يبدي من خلالها آراءه الشخصية في أمور شتى وأحداث عديدة... وتأثر بالتوجهات التي تعتبر أن الرواية فن خاضع للتجارب المستمرة لا تحتويه قوالب ولا يخضع لقواعد مرسومه...

إن للكاتب حرية اعتبار مؤلفه هذا رواية اقتداء بالتيار الأدبي الذي ساد في فرنسا في الربع الأخير من القرن العشرين والذي عرف بالتخييل الذاتي لارتباطه الواضح بسيرة الكاتب الشخصية. وان للقارئ حرية الإنعتاق والتفسير على ضوء ما يقرأ، والاستدلال بعقله وفكره وحسه النقدي، على نوعية المضامين...

تعليقات: