مارون الراس المنكوبة من العدوان ومن .. إهمال الدولة

المكان ذاته من مارون الراس كما بدا العام الماضي
المكان ذاته من مارون الراس كما بدا العام الماضي


مدرسـة البلـدة تبـدو، بعـد الترميـم، متحفـاً لآثـار العـدوان.

أضحى لشك التبغ في مارون الراس طعم آخر. تحول القطاف الأول الذي يسميه الجنوبيون «الثنوة»، لثانوية قيمته نسبة إلى المحصول ككل، إلى ذكرى لا تنسى بالنسبة لأم حسن كرنيب.

يومها، قبل عام من الآن، شنت إسرائيل عدوانها وكانت أم حسن قد قطفت «ثنوتها». ما يزال مشهد بكرها حسن ماثلاً أمامها. رجل في التاسعة عشرة من عمره يسابقها على الوريقات التي عادة ما تكون صغيرة في تموز، لينتهي من الثلم تلو الآخر وليحل بينها وبين تعب قضت العمر تبذله لتربيته وإخوته الستة.

خطف العدوان حسن وسُجل في عداد المفقودين. عام على الحرب وأم حسن تنتظر «بشرى» بقاء ولدها على قيد الحياة وما تزال.

في قبو منزلها الذي يخصصه الجنوبيون عادة للدخان ومواسمه، كانت أم حسن تشك دخان القطفة الأولى مع بناتها الأربع. تفاقم المناسبة حدة وجعها وتخنق الكلام في حلقها: «لم يعد لدي قدرة على الحكي عن حسن. أريده أن يرجع يرجع بالسلامة فقط».

ترك عدوان تموز في بلدة مارون الراس ما تركه في المناطق التي استهدفها: شهداء ودمار هائل وبلدات مقطعة الأوصال والكثير من وجع نفسي خطفت منه ضرورة استئناف الحياة أولوية المعالجة.

عام على العدوان وسكينى، جارة أم حسن كرنيب، بالكاد تمكنت من إقناع حفيدتها سهى بالعودة لزيارتها بعد عام على نزوحها مع والدها تحت القصف.

يومها وقبل بدء العدوان بيومين قصدت سهى مارون الراس لتحتفل بعيد مولدها السابع مع أقرانها. في 12 تموز من العام الماضي، أي في يوم عيدها بالذات، «أهدتها» إسرائيل وابلاً من القذائف كانت إيذاناً بالحرب. اليوم لم تعد سهى تريد الاحتفال بعيدها بأي شكل من الأشكال «صارت تظن ان عيدها نحس». تشرح الجدة سكينى.

لم يتغير شيء في مارون الراس 2007 عنه في 14 آب 2006 تاريخ وقف الأعمال الحربية. وحدهم قلة من أهل البلدة، التي دفعت من دم أبنائها وأرزاقهم ورفعت رأس لبنان بمعركتها الشهيرة، عادوا إلى ما تبقى من منازلهم.

تغرق مارون بالدمار والخراب. قبل نكبة ,1948 كان أهلها «يكرجون» عن تلتها العالية باتجاه الجليل الفلسطيني ومنه إلى حيفا وبقية مدن ما تزال غالية على قلوبهم. أطاح الغزاة الجار واغتصبوا أرضه ولم يبق لمارون سوى الدار. وعلى دُورها توالت الاعتداءات الإسرائيلية منذ العام 1972 ولغاية الأمس القريب.

ومع كل اعتداء كانت مارون تخسر جزءاً من منازلها. منازل ما تزال ملفات تعويضاتها عالقة في أدراج أصحاب القرار منذ عشرين عاماً وأكثر: «أكل الدهر عليها وشرب»، يقول الحاج أحمد فارس الذي كان يزور شقيقه في مارون. «بيتي راح من 1978 ولم يعوضوا علي وها أنا خارج الضيعة منذ ذلك الحين».

تحتار وأنت تدور في مارون الراس عن سبب الإهمال الذي يلفها. من بين وحدات البلدة السكنية الـ350 نجت سبعة منازل فقط من التدمير والقصف، فيما سُوّي 160 منزلاً بالأرض وهناك 165 وحدة سكنية بحاجة إلى ترميم جزئي وكلي، وفق كشف مؤسسة جهاد البناء.

على عكس القرى المحيطة بها ولسبب لا يعرفه الأهالي، لم تتبنّ أي جهة إعادة بناء مارون الراس. وحده رجل الأعمال الكويتي ناصر الخرافي تعهد ببناء 70 منزلاً من المنازل التي سويت بالأرض، فيما دفعت مؤسسة جهاد البناء تعويضات أثاث البيوت وبعض «الهدايا»، لا تعويضات، عن الخسائر الزراعية. وقامت الجمعية السويسرية الخيرية بـ«لفتة» تراوحت ما بين 250 وبين 1500 دولار لأكبر مزارع.

من بين 8500 نسمة هم عديد سكان مارون الراس «يعيش في البلدة حوالى الف نسمة فقط» وفق رئيس بلديتها مصطفى علوية. يمكن لطرقات البلدة ان تشرح أحد اسباب استمرار النزوح. تلال التراب ما تزال متكومة في الكثير من الطرقات. لم تكلف أي من الجهات الرسمية أو الأهلية المساعِدة عناء تسويتها لتسهيل مرور الأهالي عليها. يسير «الصامدون» بصعوبة بين الحفر الترابية تحيط بهم صخور وحجارة قذفها القصف بعيداً بعدما اقتلعها من الحقول والمنازل القريبة.

على هذه الطرقات المحفرة تكثر صهاريج المياه. لم يجر إصلاح شبكة مياه مارون، وها هم أهلها الذين خسروا المواسم الزراعية العام الماضي وجزءاً من موسم هذا العام، يشترون المياه بمعدل صهريج للعائلة كل يومين. طمرت معظم آبار التجميع التي تلقت ضربة قاصمة من القصف ودنس الإسرائيليون ما وصلوا إليه. أفرغ أهالي مارون آبارهم لتطهيرها وملئها من جديد لكن شتاء ما بعد العدوان جاء شحيحاً لناحية الأمطار، فلم يوفقوا.

وكان لتخريب الإسرائيليين برك مارون الراس الثلاث أن يزيد من «طين» الأزمة الزراعية «بلة». لم يعد بوسع الأهالي استعمال مياه البرك لري بعض «سحاري» الخضار الصيفية التي كانت ملاذهم من نار ألأسعار.

وحال خراب البرك دون إعادة تشكيل قطاع الماشية في مارون: «كنا نسقي قطيع الماعز من بركة الحافور»، يقول أبو جهاد: «مات ثلاثة أرباع القطيع في الحرب وتشرد الربع الآخر في بلاد الله الواسعة».

خسر أهالي مارون، وفق علوية «1600 رأس ماعز و85 رأس بقر و15 حصانا». لم تر مارون ممثلاً رسمياً لوزارة الزراعة للوقوف على خسائرها التي لا تحصى زراعياً.

ليس هناك من وظائف في مارون الراس. يعتمد أهلها المقيمون بشكل أساسي على الزراعة والمواشي. كان مزراعو البلدة قد قطفوا القطفة الأولى من الدخان حين شنت إسرائيل عدوانها. بقيت القطفة الثانوية، في قاموس المردود المادي للتسعير، يتيمة. وعلى صنادل التبغ احترقت أينما وضعها أصحابها. وكما بالدخان، عاث الإسرائيليون بكروم الزيتون جرفاً وحرقاً وتكسيراً. أما حقول القمح وجلوله التي كان الأهالي قد عملوا على حصدها وتغميرها وتهيئتها للدراسة (فصل القمح عن التبن والقش) فقد احترقت: «ورأيت النار تمشي مثل سلسلة ذهبية بحقول مارون، وتنتقل من غمر قمح إلى آخر»، وفق شهادة أحد الذين صمدوا في مارون «كان منظر القمح يحرق القلب».

مع كل فظائع العدوان، عاد أهالي مارون ليجدوا أنفسهم بلا مواسم وبالتالي من دون أي مدخول: «حتى خيارة بالأرض ما كان عندنا»، تقول الحاجة سكينى وهي تشذب الأعشاب الطفيلية من ثلم البندورة.

بالإضافة إلى الزراعة وشبكة المياه والطرقات تضررت شبكة الهاتف «لم يجر تصليحها حتى»، يقول رئيس البلدية ليسأل «وكيف يبقى الناس هنا؟».

هناك مشكلة في مارون الراس ما بين تقدير الأهالي لخسائرهم وتقدير مجلس الجنوب: «هناك بيوت مهدمة من الاعتداءات السابقة»، يقول رئيس البلدية ويتابع: «وهذه مؤجلة لا نعرف إلى متى، ولكن يجري دفع تعويضات هذا العدوان تدريجيا».

مدرسة مارون

تبقى مدرسة مارون الراس هي قصة القصص ونموذجاً عن بعض التجاوزات التي تحصل في مسيرة إعادة الإعمار.

تبنت الجمعية المسيحية الأرثوذكسية الخيرية إعادة بناء مدرسة مارون الراس بشقيها القديم والجديد، وفق رئيس البلدية مصطفى علوية.

وصل المبلغ المرصود للمدرسة وفق مديرها محمد حمادة وعلوية إلى 35 ألف دولار.

قبل مدة قصيرة قام المتعهد بتسليم المدرسة إلى مديرها وتفاجأ الأهالي بعدم ترميم المدرسة كما يجب، واقتصار الترميم المبتور على المدرسة الجديدة من دون القديمة. كان الأهالي والمدير ينوون تحويلها إلى دار لحضانة الأطفال، وكان رئيس البلدية علوية يرغب بجعلها مركزاً بلدياً في قلب الضيعة.

يوافق مدير المدرسة محمد حمادة على أن الترميم غير مكتمل، وعندما تسأله عن سبب توقيعه على استلامها يجيب «كنت أعرف انها معمعة فعرفت ان لا خيار لي غير هذا».

كان رئيس البلدية مصطفى علوية هو من وقع الاتفاقية مع الجمعية وسمح لهم بترميم المدرسة لذا يرى أنه «كان على الجمعية والمتعهد أن يطلبا توقيع البلدية قبل تسليم المدرسة. لكنهما لم يراجعاني في الموضوع ورحلا».

تدخل المدرسة لتجد في ملعبها صخرة كبيرة قذفها صاروخ مقاتلة إسرائيلية من الحقل القريب ولم يخرجها المرممون. زجاج النوافذ المحطم ما يزال في مكانه بينما التلامذة يواظبون على الحضور يومياً إلى صفوفهم.

رصاص الإسرائيليين وشظايا صواريخهم ما تزال «تزين» أرضية الصفوف وتخترق جدران المختبر وأرضيته. مياه الشتاء عرفت طريقها إلى التسرب من إطارات النوافذ المصنوعة من الألمنيوم لأن المتعهد لم يغيرها بل عمد إلى إصلاحها «على الماشي» كما يقول المدير.

ومن داخل غرف التدريس يمكن رؤية «جداول» مياه الشتاء التي تسربت إلى مقاعد التلامذة وبالقرب منهم بسبب التصدع الذي لم يجد من يرأبه.

أما الطامة التي تضحك وتبكي في الآن معاً فهو منظر المدرسة الخارجي. عمد المتعهد إلى استخدام مواد طلاء رخيصة لواجهة المدرسة بعد سد ثغرات وحفر الشظايا، لكنه اكتفى بسد الجدران المتضررة في الجهة الخلفية للمدرسة بالإسمنت من دون تكليف نفسه بطلائها وإعادتها إلى ما كانت عليه فتم تشويه المدرسة. «35 ألف دولار كلفة ترميم المدرسة»؟ يتوافق رئيس البلدية في مارون ومدير مدرستها على أن المدفوع لا يتجاوز العشرة آلاف دولار، فأين الباقي؟

سؤال آخر تطرحه فاطمة عن كل المساعي التي يبذلها الأهالي لحمل أطفالهم على نسيان عدوان تموز: «إلى أي مدرسة سنرسلهم بعدما تحولت مدرسة البلدة إلى متحف يذكر بالعدوان على ما يبدو».

...وكما يبدو اليوم (ا ف ب)
...وكما يبدو اليوم (ا ف ب)


تعليقات: