قهوة الساحة: تراث غلبه الشوق الى ليالي السهر في راشيا

مختار راشيا جورج المعلولي وأبو ميشال غصن في مقهى السهر
مختار راشيا جورج المعلولي وأبو ميشال غصن في مقهى السهر


راشيا ـ

تدخل " قهوة الساحة" أو ما يعرف "بمقهى السهر" في راشيا، فيستفيق تاريخ افترش كهفاً تراثياً عند مدخل السوق الأثري في المدينة، هو مقهى ليلي وقهوة نهارية في أيام العز، أيام زمان يوم كان شبان راشيا وشيبها وشباب قرى المنطقة وبعض الوافدين من عنجر ومن زحلة وبيروت، يحتشدون في غرفة طولها ستة أمتار بعرض أربعة أمتار ونصف المتر، خلفها "بار" صغير ومجلى حجري مقصب، وبابان خشبيان عتيقان يفضي أحدهما إلى ركن صغير، كان أشبه بمستودع ومطبخ في آن، فيما الآخر مخرج عند الضرورة إلى المقلب الآخر من السوق.

قهوة الساحة لم تخترقها نار الفرنسيين يوم أحرقوا راشيا في العام 1925 إبان الثورة، يوم اقتحم الثوار قلعة راشيا ودخلوا أسوارها المنيعة، بل استمرت مشرعة أبوابها للمحتلين حينها ولأبناء البلدة ممن لم تغادر قوافلهم إلى ديار الله الواسعة، خصوصاً كبار السن والفتية الذين كانوا يتحلقون على مقربة من باب خشبي ضخم، ظل شاهداً على حركة السوق من المارة ومن الداخلين والخارجين إلى القهوة حتى العام 1997 يوم رممت وزارة السياحة سوق راشيا التراثي فاقتلعت أبوابه العتيقة التي أكل الدهر منها وشرب، والتي جلبت الحظ طوال السنوات التي خلت لأصحاب المحال والدكاكين، لتحل أبواب خشبية ولكنها من غير ذاكرة ولا تاريخ، ولا تعرف الوجوه ولا الحكايات، فيما تحولت الأنظار عن سوق راشيا، فلم يعد ملاذاً للمتسوقين من خارج البلدة.

مختار راشيا جورج مخايل كرجي المعلولي، القيم على القهوة بعد أن ورثها عن أبيه، بمشاركة أبناء طنوس خليفة ورثة والدهم، فتح في تلك القهوة مكتبه الإختياري، لتسهيل أمور المواطنين الذين يقصدونه عند مدخل السوق "الفوقاني" كما يردد الناس هناك، يلقي شنطته المحملة بالأوراق والوثائق والأختام والأقلام وقصاصات الجرائد، على طاولة خشبية، موغلة في القدم، شانها شأن سبع طاولات، زميلات العمل المضني على مدى عشرات السنين، والتي لم تسترح حينها من عدة السهر حتى الفجر، ولا من فناجين القهوة حتى العصر، فيما زنود الشباب الفتية وأذرع الوافدين كانت تطوق جنباتها، خصوصاً عند احتدام المنافسة في ألعاب الزهر والورق والنرد وغيرها من ألعاب زمان.

ويجلس المختار على كرسي خشبي، طالما حمل الأوزان الثقيلة ولا زال متيناً رغم مرور عقود على صنعه شأنه أيضاً شأن حوالي عشرين كرسياً من أصل سبعين، كانت تحشر وتتلاصق لتتسع لعشرات محبي السهر في ذلك المقهى المشهور آنذاك، والذي طالما استضاف محبي التسلية والطرب الأصيل، الذي أوكل إلى راديو قديم كان يبعث الدفء في القلوب والنفوس قبل أن ينبعث من وجاق راشاني من الطراز القديم جداً غرس فيه الشيخ أبو صالح القضماني بصماته وأنفاسه لمواجهة أيام الشتاء يوم كانت الثلجة في كانون تسد المنافذ وتطمر البيوت أحياناً حسب المعلولي، فلا تذيبها من الدروب، والسابلة، إلا أقدام قصّاد القهوة ليلاً أو نهاراً، وحرارة الحماسة للقاء، وتوهج قصص ذلك الزمان من حكواتي القهوة" أبو ادوار".

وإذ يتسمر البلاط القديم في مكانه على أرض المقهى منذ بسط للمرة الأولى في ذلك الزمان، ما انفك السقف الخشبي محافظاً على نضارته حيث صمدت عشر حورات عتيقة حملت ألواحاً خشبية مطلية خوفاً من التسوس، وقفت حاجزاً بين السطح الترابي الطيني القديم وبين تلك الأعمدة والجسور التي لم يقو عليها الزمن بعد ولم تقتلعها رياح التمدين كما فعلت بذاك السطح الترابي الذي بات اسمنتياً بعدما خرقته أعمدة الباطون ليحمل طابقاً ثانياً يعلو فوق القهوة أو ما يعرف بالعلية.

المقهى لم يعد يستقبل رواده، فـ"الركاوي" النحاسية المعلقة في الحيطان استراحت من لهب النيران ومن رغوة القهوة التي طالما عبثت بلونها، والأكواب غادرت مسرحها الخشبي في ركن تهشم بفعل الدهر، والنراجيل ألقت حبلها على غاربها وارتحلت مع دخان ذلك الزمان، فيما بعض القصبات تزنرت بالغبار وانكفأت عن مهمة إرسال الدخان في حنايا المكان وفي السوق التراثي في راشيا.

جورج كرجي لم يعد بحاجة إلى "برطلة "مسؤول من هنا أو نافذ من هناك لوقف أو تخفيف "كبسات الدرك" إلى مقهاه الليلي، فكازينوات المنطقة ومطاعمها التي تتسع للمئات والألوف تستهوي الكثيرين، وتجذبهم.

قلة قليلة تحن الى قهوة زمان من أمثال أبو ميشال غصن ليقرأ الصحف، وأبو وليد مهنا، وأبو حنا، وجورج عسكر، وجان سعد، وأبو فادي، فتراهم يمضون قيلولة النهار لساعة أو أكثر عند المختار يشربون القهوة من "ركوة نحاسية قديمة" ولكن بفناجين بلاستيكية، سيما وأن المجلى الحجري القديم أحيل على التقاعد بسبب تغير الشبكة المائية في العلية، ولثقب في ماسورة الحنفية أحدثها "كومبراسور" أبو ايوب حين مدد أدوات الصحية في العلية.

المختار كرجي يستقبل عشرات الوافدين يومياً "على الواقف" فهذا يريد تختيم صور باسبور أو هوية وذاك يريد ورقة مختار ليذهب إلى دائرة النفوس، وآخر يأتي بشاهدين ليملأ وثيقة ولادة، فيما المختار ومجايليه من رفاق الدرب شهود أحياء على وفاة "قهوة الساحة" أو ملهى السهر.

تعليقات: