ألمانيا والمهاجرون... واقع عمره عقود وإرث من التقوقع المتبادل

 مسجد \
مسجد \"سهيتليك\" (الشهداء بالتركية) الأكبر في برلين


الدمج بين نجاح وفشل والإسلام يبقى كياناً مجهولاً

..

برلين:

كأنه شبح لا سبيل إلى الإمساك به، اسمه يتردد في كل مكان. إنه تيلو زاراتسين، واضع الكتاب الذي يحقق منذ آب نسبة مبيعات لا سابق لها منذ الحرب العالمية الثانية. كتاب وُصف بأنه عنصري ومتطرف، يعزو التراجع الاقتصادي للبلاد إلى المهاجرين، المسلمين منهم، لضعف أدائهم اللغوي والتربوي والوظيفي، وحتى تركيبتهم الجينية وجذورهم الحضارية.

في برلين التي تستضيفك للمشاركة في مؤتمر عن الهجرة والاندماج يُنظم بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية، أكثر من محاضر ومسؤول يشبه أفكاره بخطب أدولف هتلر. نعم، هتلر، والأمر مرعب، فالرجل ليس من اليمين ولا من النازيين الجدد، وإن تكن الصحف الأميركية والبريطانية تقارنه بزعيم حزب الحرية الهولندي غيرت فايلدرز صاحب فيلم "فِتنة" المناهض للإسلام.

زاراتسين أخرج النقاش من الخفر إلى العلن، ثم تنحى في أيلول عن مناصبه في الاتحاد الديموقراطي المسيحي الحاكم ومجلس إدارة المصرف المركزي. وطوال ثمانية أيام أمضيناها في ألمانيا، لم يكن ثمة سبيل للوصول إليه. يشرح لك أولاف، الخبير في تاريخ الشرق الأوسط، أنه نطق، "يا للأسف"، بما يفكر فيه الألمان، وخصوصاً بعدما أثبتت السنوات الأخيرة أن المسألة لا تحل بالأموال، "أعطتهم الحكومات الماركات ثم الأورو (في أنظمة الرعاية الاجتماعية)، ثم فوجئت بأن الأمر لم ينجح". ويشكو سائق سيارة أجرة قازاقي من أن المسلمين لم يتعافوا من الارتياب فيهم بعد هجمات 11 أيلول 2001 التي خُطط لجزء منها في هامبورغ، و"الآن ظهر زاراتسين ليزيد أوضاعنا تعقيداً".

المهاجرون.. اندماج أم ذوبان

وجود الأجانب ليس حديثاً إذ يرتبط بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كانت برلين مقسمة وتلفها الهزيمة، فبدأ استقدام "العمال الضيوف".

يقول وزير الخارجية التركي السابق يشار ياكيش، رئيس اللجنة الأوروبية في البرلمان التركي، لـ"النهار" في مقابلة عبر البريد الالكتروني إن الحكومتين التركية والألمانية الغربية أغفلتا تقدير الأبعاد التي ستأخذها ظاهرة استقدام عمال "غير مهرة" من قرى جبلية بعيدة، فهؤلاء وجدوا أنفسهم في مراكز صناعية ألمانية من دون المرور في مدن تركية. كانوا أميين بمعظمهم، و"ظنوا أن في وسعهم العودة بعد ادخار مبلغ من المال يكفي لفتح متجر أو شراء ثيران وجرارات زراعية". ومرت السنون، ولم يرجعوا، "كانوا مجتمعاً معزولاً في غيتوات". غير أنه "أخيراً أدرك الجانبان حجم الغلطة وبدأا اتخاذ إجراءات لتسهيل اندماج الأتراك في المجتمع الألماني، وقد صاروا في جيلهم الثالث أو الرابع". وتؤكد المحاضرة في جامعة هامبولت في برلين باربرة يون أن السلطات الألمانية لا تريد الإقرار بعجزها عن تقبل ثمانية ملايين مهاجر في أراضيها، 5،6 ملايين منهم مسلمون. وتضيف بحزم :"كلنا يعرف تاريخ ألمانيا، لا أحد يتعرض لليهود اليوم، المسلمون هم الضحايا الجديدة، تستهدفهم آليات التمييز ذاتها".

ويسترعي الانتباه ان زاراتسين تحدث أيضاً عن "جينات معينة لدى جميع اليهود"، غير أن الاهتمام الإعلامي انصب على موقفه من المسلمين. ومما كتب :"لا أريد لنمط حياتنا أن تحدده دعوات المؤذن إلى الصلاة، أو أن نصير غرباء في وطننا". كما ان "الهجرة غير المضبوطة من شأنها في أي وقت تقويض دعائم استقرار أي مجتمع. لهذا أقامت الامبراطورية الصينية سورها العظيم وكان للرومان تحصيناتهم الحدودية. في أي زمن لم تكن قضية أمن الأراضي شيئاً تافهاً. إن التعقيدات الناجمة عن تلك المسائل تهدد الدول والمجتمعات في صلبها وتتسلل فيها بعمق، وفي كل مرة ينتهي الأمر بموجات مجنونة من سفك الدماء والعنف". خطاب كأنه عن غزو خارجي، ولكن يُقصد به أفراد يقيمون في البلاد منذ سنوات.

ما هو تعريف المهاجر المندمج، نسأل رئيسة دائرة سوق العمل وتشغيل المهاجرين في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بيتينا شاتات، تجيب أنه الشخص الذي يعيش مستقلاً عن نظام الرعاية الاجتماعية ويتكلم الألمانية حتى في منزله، "لا نطلب منه نسيان جذوره، بل عدم الانعزال في مجتمعات رديفة". تصمت قليلاً ثم تتحدث من تلقائها عن نظرية زاراتسين باختفاء ألمانيا "النقية"، في إشارة إلى كون 34 في المئة من الأولاد دون سن الخامسة من أصول مهاجرة، مؤكدة أن "هذا مفهوم سخيف اخترعه هتلر، إذ عرفت البلاد الهجرات مدى تاريخها. انظري إلى أعداد البولونيين هنا". والواقع أن هؤلاء يحتلون المرتبة الثانية في نسبة "الأجانب" بعد الأتراك، يليهم الرومانيون والأميركيون والبلغار، كما جاء في أرقام مكتب الإحصاء الفيديرالي لعام 2009. غير أنها تقر بانعدام سياسة اندماج محددة، على رغم تبني قانون للهجرة في 2005، وبأن الدمج انتقائي وتمييزي لاستيعابه فقط أصحاب الكفايات.

ويشير رئيس دائرة الاندماج في وزارة الداخلية هارتفينغ ستوك إلى الرياضة وسيلة واقعية لتحقيق الاندماج، فقواعدها عالمية ولا تتطلب اتقاناً كاملاً للغة. ويسترعي الانتباه أن قاعة الاجتماعات التي استقبلنا فيها تزينها صور للفريق الألماني لكرة القدم، إحداها للاعب داكن البشرة.

الإسلام.. ذاك المجهول

"الإسلام أيضاً ينتمي إلى ألمانيا"، قال الرئيس كريستيان فولف في الذكرى العشرين لتوحيد البلاد، فقوبل باحتجاج وتوجس. وجاء في استطلاع للرأي نشرته صحيفة "بيلد" في تشرين الأول أن 66 في المئة من مواطنيه يخالفونه الرأي.

بعد تنظيم أربع قمم عن الاندماج ومؤتمر عن الإسلام ووجود مجلس أعلى للمسلمين في ألمانيا، نسأل مسؤولاً في المستشارية طلب عدم ذكر اسمه أي إسلام تريدون. فيجيب :"الإسلام متنوع، وهذا يصعب التعامل معه لأنه ليس مؤسسة مثل الكنيسة. لا نسعى إلى إسلام ألماني أو أوروبي، بل إلى إسلام يُناسب مجتمعنا وقيمنا، والشريعة لا تنسجم معها بطبيعة الحال".

ويذكر أن الدستور الألماني ينص على حرية المعتقد "ما دامت الديانة تتوافق مع الأطر السياسية والديموقراطية"، وعلى حماية حق من لا يريد اتباع أي عقيدة، خصوصاً أن كثيرين من أبناء ألمانيا الديموقراطية (الشرقية سابقاً) كانوا تخلوا عن انتمائهم إلى الكنيستين الكاثوليكية واللوثرية (البروتستانية). غير أن ذلك لا ينفي أن الكنيسة البروتستانتية تمتعت بنفوذ لا نظير له في بلدان ما وراء الستار الحديد. وقد كان من وجوهها القس هورست كاسنر، والد المستشارة أنغيلا ميركل.

يقول لنا القس فولكر فايغل، ممثل الكنيسة اللوثرية لدى الحكومة، إن "الإسلام كان مجهولاً وبعيداً، هناك في الشرق، في القاهرة واسطنبول، وليس بيننا. في تقديري، المشكلة ليست الأديان بل المتدينون. الإسلام يحض على الرحمة بالصَدَقة والزكاة، لكن البعض يبالغ في تطبيقه، وإن كنت لا أنكر أن التاريخ المسيحي شهد تطرفاً مماثلاً في الحملات الصليبية". ويضيف :"نريد دمج الإسلام بلغتنا، ونشجع تدريس جامعاتنا للفقه الإسلامي، لكن الأئمة الأتراك شديدو الفخر بأصولهم ولا يسهلون مهمتنا".

اللغة، معظم الأئمة لا يجيدونها، وتالياً لا يمكن السلطات الاطلاع على مضمون خطبهم. من هنا برزت الحاجة إلى إخضاعهم لدورات في الجامعات الألمانية. وتفيد مجلة "در شبيغل" أن مئة إمام على الأقل راغبون في ذلك. لكن مهلاً، من يُدرس هؤلاء، وفي أي إطار فقهي وأكاديمي، وهم في معظمهم خريجو كليات دينية في بلدانهم؟ وهل يقبل مسلم أن يلقنه مسيحي أصول ديانته؟

كما أن الإشكالية أعمق من الشق اللغوي. فالكنيسة مؤسسة، يشرح فايغل، "مجتمعات ننتمي إليها، نسجل أسماءنا لديها وندفع لها رسوماً تصل إلى تسعة في المئة من الدخل السنوي. أنا أتكلم باسم 25 مليون شخص، وهذا أيضاً حال الكنيسة الكاثوليكية. قد يبدو الأمر شبيهاً بإدارة حكومية، لكننا نمول مؤسسات ومستشفيات... يختلف الأمر مع المسلمين، هناك إسلام تركي، سعودي، مصري، جزائري. لا سلطة معنوية تماثل بابا إسلامياً. لا كيان مثل الكنيسة (يستخدم حرفياً كلمة Church) في الإسلام. المسلمون لا يدفعون أموالاً، وإن يكن يمكنهم إنشاء هيئة لتحصيل الضرائب".

يشير كلام فايغل إلى رغبة في قولبة الإسلام في إطار مؤسساتي هرمي يماثل هيكلية الكنائس من خلال سلطتين روحية وزمنية مادية. يقول لك خبير في تاريخ الأديان إن الأمر يعكس جهلاً بطبيعة دينٍ لم يعرف في مساره شخصية جامعة سوى نبيه محمد، وربما الخلفاء الأربعة. ويضيف :"يريد الغرب إسلاماً بقواعد مسيحية، إسلاماً موحداً مع أن المسيحية نفسها ليست كذلك. ولماذا على المسلمين دفع رسوم وفي دينهم الزكاة؟" ويشير إمام عربي الأصل إلى أن "ألمانيا التي تتحدث عن الاندماج لم تمنع نشوء غيتوات المهاجرين. الاندماج لم ينجح، لا تقبل للحجاب ولتعليم الإسلام في المدارس".

يا لها من حلقة مفرغة!

..

شهادات وحكايا

يوماً بعد آخر، تلمس بنفسك حجم انتشار المهاجرين، أصوات عراقية ولبنانية وأردنية في مركز للتسوق. تتحدث إلى بائع الجلديات الجزائري الذي أخرجته أعمال العنف في بلاده إلى "سراب" أوروبا، والحمال المغربي الذي يجيد سبع لغات، والسائق العراقي، وهو في الأصل مهندس، والنادل المصري تتسع ابتسامته حين يكتشف أن بيننا زملاء من القاهرة. تصادف كتابات بالعربية والتركية في المتاجر، وتلمح علماً لبنانياً على شرفة منزل في ضاحية شبانداو.

كيف يعيش هؤلاء؟ يرد رئيس رابطة الأعمال التركية - الألمانية حسني أوزكانلي بسؤال :"ماذا يعني الاندماج؟ أن نصبغ شعورنا ونضع عدسات لاصقة ملونة؟ نحن مسلمون، وهل هذه جريمة؟ مر نصف قرن، ولا نزال أجانب مع أننا نتكلم الألمانية وندفع الضرائب ونؤدي واجبات المواطنة". وفي المقابل، تقول سيدة الأعمال نوران تاستان إن مشكلة أوروبا ليست مع الإسلام، بل "أزمتها الاقتصادية التي أفلتت التعصب من عقاله".

أما نهاد سورجيج، وهو مؤسس مركز لتأهيل صحافيين ذوي أصول أجنبية، فيروي لك بفخر أنه "نجل اثنين من العمال الضيوف الأتراك". قدم إلى ألمانيا عام 1968 حين كان في الرابعة عشرة، "وُضعت في صف للأجانب مع لبنانيين وعراقيين... نصحني والد صديقي بالذهاب إلى المكتبة العامة. انتقيت كتباً للأولاد في سن السادسة لأن فيها صوراً تشرح الكلمات. علمت نفسي مفردات جديدة، وبعد أشهر، اخترت كتباً لمن في الثامنة من العمر. طلبت من مدير المدرسة نقلي إلى الدروس العادية، صرت في الصف الثامن، وترقيت بعد أسابيع إلى التاسع والعاشر. أنا اليوم أنتمي إلى برلين ولست ضيفاً فيها".

ويتذكر ألماني آخر: "ذهبت إلى قريتي التركية لتحديد هويتي. لكن نُظر إلي هناك بارتياب، أضع قرطاً في أذني وأساعد زوجتي في الطهي، قالوا إني نصف رجل. كنت غريباً فعدت إلى ألمانيا". وهو يعمل في مشروع اجتماعي يُسمى "آباء الحي" يقدم النصح للمهاجرين في معالجة مشاكل أبنائهم، ذلك أن "الكثير من المراهقين يفتقدون المثل الأعلى، فيتحولون نحو الإجرام".

وفي شبانداو نلتقي شباناً وشابات دون الثامنة عشرة معظمهم ولدوا هنا لأسر من جنوب لبنان. نخرج معهم في دورية في رفقة رجل أمن ألماني، فهؤلاء يتعاونون مع الشرطة المحلية في إطار برنامج "أقوياء من دون عنف". يوزعون منشورات، ويدعون أترابهم إلى الانتظام في الدراسة. يلفتك النضج الذي يتحلون به. هذه ستكون طبيبة، وهذا شرطي، وذاك يبدو أن السياسة تستهويه، يريد تغيير صورة اللبنانيين، إذ "ليسوا كلهم طالبي لجوء أو مهاجرين غير شرعيين، ولسنا أبناء مافيات ولا نروج المخدرات، وإن فعل ذلك بعض اللبنانيين". وإذ تشير الإحصاءات الرسمية لبداية 2010 إلى وجود 21718 لبنانياً في ألمانيا، فإن هذا الرقم يتمدد إذا ما أضيف إليه، في مصادر أخرى، المقيمون بصورة غير قانونية وأبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان والأكراد الآتين منه، كل هؤلاء يُعدون "لبنانيين". من هنا يمكن فهم أن يرد في صحيفة "بيلد" أن 80 في المئة من "اللبنانيين" يعيشون على الرعاية الاجتماعية. وفي دراسة قدمها لنا المسؤول في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية يورغن شرودر أنه في تشرين الثاني 2010 كان 7730 لبنانياً عاطلين عن العمل، وهي النسبة العليا بين المهاجرين العرب.

هذا الانطباع القاتم يتبدد قليلاً في مركز رعاية رائد مزدوج اللغة أسسه عبد الله الحجير، "الأردني الألماني المتجنس" كما يصف لنا نفسه، ليسهل للصغار اكتساب الألمانية في إطار التعاليم الإسلامية، تمهيداً لانخراطهم في مدارس عادية. ومعهم أولاد من بلدان غير عربية مثل أندونيسيا، وآخرون ألمان يريد لهم ذووهم الاختلاط بأطفال لا يشبهونهم في الجذور والدين لينموا بانفتاح وتسامح.

ويبدو تحقيق الاندماج أصعب للنساء، فهن صاحبات المشاكل الأسرية والتعليم الأدنى والحظوظ الأقل في سوق العمل و... الحجاب والتشادور. لهن مراكز يلتقين فيها وتقصدها الفتيات "للحديث في كل شيء، حتى الحب والجنس". لكن المكان، على حميميته، يمثل نقيضاً لمبدأ الاندماج، فهو فضاء يُبعد الآخر، بما في ذلك الرجل.

... في الختام لا تفارق ذهنك صورتان متناقضتان، المصرية المحجبة مروى الشربيني يطعنها حتى الموت في تموز 2009 ألماني روسي الأصل، رافضاً وجودها في حيه، قبل سنة من نشر نظريات زاراتسين. وعز الدين ورفيقه، الطفلان في دار الرعاية، يتعاركان بالعربية ثم يتصالحان بالألمانية. يا لها من مفارقة! لعله "اندماج" مبكر!

...

..

.

بــرلـــيـــن... مـــديــنـــة الــحــرب الـــبـــــاردة الــتــي نســيــت الـــجــــدار

ســـاحــة مــفــتـــوحـــة لاســـتـــذكـــار دائــــم لــعـــبء الـــنــــازيـــــة

يُنسب إلى الرئيس الأميركي سابقاً جون كينيدي قوله: "ليس هذا حلاً مرضياً، لكن رؤية جدار أفضل من نشوب حرب". كان يقصد الجدار الذي بدأ بناؤه عام 1961، في برلين، مدينة القطاعات الأربعة، البريطاني في الغرب، والأميركي في الجنوب الغربي، والفرنسي في الشمال الغربي، والسوفياتي في الشرق. المدينة الضحية، المسرح الأبرز للحرب الباردة الى حين سقوط الجدار عام 1989.

تستقبلك برلين بدفء على رغم بردها القارس، ويغمرك الثلج بوداعة القطن منسجماً مع أجواء الميلاد ورأس السنة. مقر إقامتك يقع في ما كان الجزء الشرقي، في فندق افتتح العام الماضي حاملاً اسم كينيدي. ومع ذلك، يصعب عليك العودة بعقارب الزمن إلى الوراء، إلى الجدار الذي بدأ أسلاكاً شائكة ثم امتد 140 كيلومتراً، لتتخيل تسع نقاط للعبور حين كان الوصول إلى حيث نحن يتطلب تأشيرة دخول وتبديل العملة.

نقترب من جادة كارل ماركس التي سميت فترة باسم ستالين، هنا كانت تقام العروض العسكرية. نمط العمارة يذكرك بأحياء فرصوفيا الحديثة التي شُيدت من الصفر بعدما محتها الحرب. يقول الدليل إنه حين كانت المدينة مقسومة، كان يمكن الوصول إلى بولونيا في ساعة ونصف ساعة، بينما كانت زيارة ميونيخ في الغرب شبه مستحيلة.

ها نحن عند الجزء الأكبر الباقي من الجدار عند الضفة الشمالية لنهر سبري، إنه ما يعرف اليوم بـ"معرض الجهة الشرقية". كأنك أمام لوحة جدارية عملاقة، ألوان ورسوم، ورسائل بيئية وسياسية. المكان يبدو مصدراً للفرح اليوم، يتهافت السياح للتصور عنده، بينما هو للشبان من أبناء المدينة مجرد غرافيتي. كم تغير الزمن!

إلى نقطة التفتيش "تشيك بوينت تشارلي" التي كانت بوابة الشطر الشرقي على الخارج. لا تزال هناك لافتتان تشيران إلى مغادرة القطاع الأميركي ودخوله، وفي الجوار متحف. أكشاك تذكارات بدل الجدار. رجل يقف عند أكياس رملية حاملاً علماً أميركياً يسمح لك بأخذ مكانه لالتقاط الصور في مقابل 2 أورو. بهذا المبلغ تصير كأنك الحارس المدقق في الهويات والمصرح بالعبور. حيث تقف تواجهت دبابات أميركية وسوفاتية في 25 تشرين الأول 1961. وهنا نزف حتى الموت الشاب بيتر فيشتر في 17 آب 1962 إثر محاولة فرار فاشلة، ووقف الجميع يتفرجون عليه يلفظ أنفاسه، بينهم ضابط أميركي امتنع عن مساعدته بحجة أنه غير مخول ذلك. لكنك لا تشعر بعبء هذا الواقع الثقيل، إذ لم يعد في المكان إلا محاكاة سياحية تمثيلية. لماذا لا تريد برلين لزائرها أن يعيش مأساة تقسيمها ويعود إلى زمن الحرب الباردة، بينما فرصوفيا، على سبيل المثال، تجاهر، في ساحاتها ومتاحفها، بكونها ضحية مرتين، للألمان والسوفيات؟ هل تعاقب برلين ذاتها معتقدة أنها تستحق ما تعرضت له منذ سقوطها؟ وماذا عن تلك الدبابة السوفياتية المعروضة في موقع آخر؟ يتساءل الدليل كأنه يخاطب نفسه، هل كان دخولها احتلالاً أم تحريراً.

وأنت تتنقل في الباص مستمعاً إلى شرح لمعالم المدينة، تكاد تضيع بين الشرق والغرب لشدة ما كان الجدار متداخلاً في الأحياء. يقارن زميل عربي برلين بـ"الشرقية" و"الغربية" في بيروت. تفكر في الأمر، في بلادك لم يتطلب الأمر سوراً اسمنتياً لتكون هناك شبه دولتين.

تقترب من مقر مستشارية الرايش الثالث، يشير إلينا الدليل إلى حيث انتحر أدولف هتلر. غير بعيد من بوابة براندنبورغ، رمز توحيد المدينة، نصب اليهود القتلى في أوروبا الذي دشن في أيار 2005. إنه فسحة مفتوحة من الجهات الأربع تمتد على 19 ألف متر مربع، فيه 2711 كتلة رمادية صلبة متفاوتة الارتفاع. قال مهندسه بيتر إيزمان إنه أراد استحداث بقعة تُشعر بالارتباك. حقاً يوحي الموقع بذلك. لماذا 2711 كتلة؟ وماذا تمثل؟ وكيف على الناس التعامل معها؟ بعضهم يجلس عليها كأنها مقاعد، آخرون يسيرون بينها كأنهم في حديقة عامة. وقد ثارت اعتراضات يهودية على غموض المكان، وأخرى ألمانية على إغفال ضحايا النازية من غير اليهود.

لكن ثمة نصباً أقل أهمية وحجماً، للغجر، للمعارضين السياسيين، للمعاقين، للشاذين جنسياً. اعتذارات متعددة، لكنها متفرقة، لا مكان يجمعها، بخلاف معسكر أوشفيتز في بولونيا الذي يشي بفظاعات النازية حيال فئات ليس بينها من يفوق الأخرى أهمية.

نصب برلين المتعددة تجعلك تفكر في بلدان أخرى لا تعتذر. من يمكنه تصور أن تقيم اسرائيل نُصباً لأبناء دير ياسين وكفر قاسم وغزة وجنين وقانا، أو أن يقوم في باريس تمثال لضحايا الاستعمار في الجزائر وسواها، أو في أنقرة نصب للأرمن؟ولأن المسألة اليهودية لا يمكن تجاوزها، أعادت برلين عام 2001 افتتاح المتحف اليهودي بعدما أقفلته السلطات النازية عام 1938. وقرب جزء آخر باق من الجدار، وفي المكان نفسه حيث كان مقر "الغستابو"، متحف عن أهوال النازية.

يروي لك رجل أعمال ألماني أن والدته انتمت في شبابها إلى النازية. تسأله هل ندمت، فيبتسم ويجيب :"بعد الحرب زارت أمي لندن، شاهدت تمثالاً لونستون تشرشل، فصرخت : لماذا يكرمون هذا القاتل؟". ولكن ماذا عن فظائع النازية؟ يرد :"دمر الحلفاء مدننا. تعرضت ألمانيا لعقاب جماعي استمر حتى 1989. ألم يكن التقسيم عقاباً؟ هل تساءلت يوماً لماذا قام معسكر الاعتقال في أوشفيتز وليس في ألمانيا؟ لأن بولونيا نفسها كانت أقل تسامحاً حيال اليهود. انظري إلى سجون غوانتانامو، أليس الأمر مشابهاً؟".

يقول خبير تلفزيوني ألماني بارز إن والده قاتل السوفيات على الحدود البولونية، و"كانت الحرب العالمية الثانية مأساة للأمة. أمي شهدت القصف الوحشي للمدينة من سقف المبنى. في غزة قد تسمع اليوم من يروي الحكايات نفسها... كل ألماني يحمل إرث الماضي، مرة قابلت صينياً في كولومبيا، لم تمثل ألمانيا له غير شخص واحد، هتلر".

للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثمة معرض يحمل اسمه في متحف التاريخ الألماني ويستمر حتى شباط 2011. يناقش أسباب صعوده، بالصور والوثائق وأشرطة الفيديو. "دولة الفوهرر" لم تكن ممكنة "من دون الشعب"، يقول أحد المنظمين لـ"النيويورك تايمس".

يحاول المعرض ربط صعود الرجل بالمجتمع، في تحميل ضمني لمسؤولية جماعية. نرى هتلر يتهافت الجميع على مصافحته، كتبه وأوراقه، رسومه، ولقطات له يضحك أو يجلس بجدية قرب كلبه، وبعض الرايات النازية والبزات العسكرية، والأوسمة التي حازها وتماثيل نصفيه له. تستغرب كيف أن تلك المقتنيات لم تُتلف بعد هزيمة صاحبها.

البداية كانت في ميونيخ حيث حظي بدعم سيدات المجتمع المخملي. وتدفقت مئات رسائل المحبة اليه في عيد ميلاده الـ43 في 20 نيسان 1932. يسترعي انتباهك أن النصوص التي تواكب المعروضات تحمل عبارات مثل "المُخَلص الوطني"، تماماً كما كان يُنظر إليه آنذاك. وتحت شارة لـ"ساحة أدولف هتلر"، نقرأ أن الرخاء الاقتصادي جعل المجتمع الألماني يتقبل "اضطهاد اليهود وقتل المتخلفين عقلياً وسواهم من الذين عُدوا عاملاً اجتماعياً بلا أهمية. كانوا أقلية غير مرغوب فيها".

ثم نشهد انقلاباً في وصف هتلر، اعتباراً من عام 1943، من "المخلص" إلى "سبب المشكلة". تغيرت المعروضات، غلاف لصحيفة تحمل نبأ موته ورسوم كاريكاتورية في تموز 1944 تتهكم عليه. وثمة صور قليلة لناجين من معسكر أوشفيتز. وإذ تقترب من نهاية المعرض، تقرأ ما وضعه المنظمون :"المواجهة مع الماضي صارت مكوناً من الثقافة السياسية المعاصرة. لذا لا نهاية للنقاش في شأن هتلر"، الرجل الذي احتل غلاف "در شبيغل" 46 مرة بين عامي 1949 و2010.

هذا المعرض الذي يتناول هتلر بشبه حياد ولا يتعامل معه بالقسوة التي تتوقعها، هو آخر مشاهداتك في برلين، مدينة ذات ماض متعدد الوجه ولكل وجه حكايات لا تزال تروى.

س. أ. ظ.

بقايا جدار برلين
بقايا جدار برلين


تعليقات: