الجريمة في منطلقاتها وعلاجاتها ..

لا شكَّ أن الجريمة نتيجة حتمية لانحراف الفطرة السليمة عن مسارها الصحيح
لا شكَّ أن الجريمة نتيجة حتمية لانحراف الفطرة السليمة عن مسارها الصحيح


تشير الإحصائيات والدراسات إلى ارتفاع معدلات الجريمة ارتفاعا ملحوظاً وذلك رغم الجهود التي يبذلها رجال الأمن والتدابير الوقائية التي تتخذها الدوائر المعنية بسلامة المواطنين وحماية أموالهم وممتلكاتهم, وبعيداً عن لغة الجداول والأرقام فإنّ ما تطالعنا به وسائل الإعلام يومياً عن جرائم القتل والسطو وو.. خير شاهد ودليل على الواقع المزري والمتردّي الذي يتهدّد السلم الأهلي ويحوّل المجتمع إلى غاب لا يأمن المرء فيه على نفسه وعرضه وماله .

يقول عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم :" الجريمة جزءٌ من الحياة " أي أنَّ للجريمة واقعاً اجتماعياً ولا يمكن تغييبها نهائياً عن مسرح الحياة .

ولا شكَّ أن الجريمة نتيجة حتمية لانحراف الفطرة السليمة عن مسارها الصحيح, ولغلبة المطامع والأهواء الجامحة وسيطرتها المحكمة على العقل والإرادة والإنسانية, ومحصّلة طبيعية لغياب الوازع الديني الذي يشكّل منبّهاً ذاتيا وزاجراً داخليا .

إلا أنَّ اعتبار الجريمة واقعاً مفروضاً لا يبرّر وجودها وتحوّلها إلى حالة طبيعية وواقع معاش, ولا يشرّع تناميها أو احتضانها تحت أيّ ظرف من الظروف او مبرّر من المبرّرات, من هنا وقبل أن ننطلق باتجاه تسمية العقوبات وافتراض الزواجر لا بدّ أن نبحث عن الأسباب والدوافع الواقعية التي تدفع بالفرد وتحوّله إلى مجرم متمرّس , أو تحوّل البيئة الاجتماعية إلى بيئة عنف وجريمة, وباعتقادي أنَّ هذه نقطة محورية وحَرية بالتأمّل لأنّها المدخل إلى معالجة جذرية للتخلّص من الجريمة وتداعياتها السلبية .

التتبّع والاستقراء لنماذج عديدة من الجرائم, والدراسة والتحليل النفسيّ لبعض الحالات من المجرمين يجعلنا أمام أكثر من استنتاج ويقودنا للاعتراف أنَّ الجريمة لا تنمو في صحراء قاحلة وإنما تولد وتتكاثر في البيئة الخصبة المساعدة, وخصوبة البيئة إنّما تتهيأ نتيجة عوامل عدّة أولها وأبرزها الواقع الاقتصادي عندما نتحدث عن جريمة مالية, والواقع الأخلاقي عندما نتحدث عن جريمة اخلاقية, لذلك لا بدّ من دراسة البيئة أولاً ومعالجة نقاط الضعف التي يمكن أن تكون سبباً لنمو الجريمة واستفحالها .

ليس تبريراً للسرقة ولا تحريضاً عليها القول إنَّ سياسة التجويع والتنكيل الاقتصادي بالنّاس قد يدفع بعضهم إلى الاعتداء على أموال الأخرين , وانما تذكيراً للقيمين وتنبيهاً لهم بأن يأخذوا بموازين العدل ويستشعروا جوع النّاس وحاجاتهم ومعاناتهم .

ليس تبريراً للقتل وسفك الدماء ولا تحريضاً عليهما القول إنَّ الجور في الحكم وعدم الانتصار لقضايا المظلومين وأصحاب الحقوق قد يدفع البعض منهم إلى استحصال حقّه بيده وتنصيب نفسه قاضياً في ظل تقاعس القضاة أو تواطئهم .

يبقى من الأهمية بمكان الإشارة إلى عامل إضافيّ مساعد على ارتفاع معدّلات الجريمة وتحوّلها إلى سلوك مستديم وهو مزاجية العقوبة وتذبذبها, وعدم تناسبها كمّا وكيفاً مع الجناية المرتكبة, ولا أتجاوز النَصَفَ في ادعائي أنَّ عشوائية العقوبة أحياناً وفوضويتها والإستخفاف بها يدفع إلى التجرؤ على الجريمة ويحفّز على الإقدام عليها, مضافاً إليه فإنَّ الفرز اللاعلمي إنّ صح التعبير للسجناء, والدمج بين أصحاب الجنح الصغيرة والمجرمين المرتكبين للجنايات من شأنه أن يحوّل السجن إلى أكاديمية تدّرس فنون الجريمة وتخرّج المجرمين المحترفين, في الوقت الذي يُراد فيه للسجن أن يكون معهداً إصلاحياً يعيد تقويم شخصية السجين ويأخذ بيده للانخراط مجدّدا في المجتمع كفرد صالح .

وبالخلاصة فإنّ مواجهة الجريمة للحدّ منها أو تذويبها يستوجب الإلمام بكافة التفاصيل والشروط المتعلقة, كما يحتاج إلى ملامسة ميدانية للدوافع التي تأخذ بيد الإنسان إلى طريق الانحراف والرذيلة, على أن تكون عملية التأهيل بيد متخصصين وذوي كفاءة عالية مقدّمة لتحقيق نتائج مرضية ملموسة .

بقلم : الشيخ محمد أسعد قانصو

Ch.m.kanso@hotmail.com

تعليقات: