
امرأة تصعد وأخرى تسقط: النهاية المظلمة لصراع لونا الشبل وأسماء الأسد
في السنوات الأخيرة، بدا القصر الجمهوري في دمشق وكأنه يعيش على إيقاع توازن هش بين سلطتين نسائيتين: أسماء الأسد، الزوجة التي راكمت مشروع نفوذ طويل الأمد، ولونا الشبل، المستشارة الإعلامية التي شقّت طريقها بسرعة استثنائية إلى المربّع الضيّق لصناعة القرار.
لكن جوهر الصراع بين المرأتين بقي طيّ الكتمان خلف جدران القصر، إلى أن ظهرت التسريبات التي بثّتها قناة "العربية" يوم التحرير، كاشفة جزءاً من المشهد الخفي: جلسة وديّة تجمع لونا ببشار الأسد، لغة جسد توحي بقرب غير مألوف، وضحكات متبادلة لا تشبه اللقاءات البروتوكولية بين رئيس ومستشارة.
هذه المقاطع المصوّرة، إلى جانب ما كان يرشح سابقاً من تسريبات من داخل القصر عن علاقة حميمية تجمع الأسد بالشبل، أعادت صياغة الأسئلة ودفعت المتابعين إلى إعادة النظر في طبيعة الصراع الذي شغل لسنوات أوساط الإعلام والسياسة، وظلّ حتى وقت قريب مادة للاجتهادات والتكهنات.
صعود لونا في فراغ السلطة الناعم
تنحدر لونا الشبل من محافظة السويداء. درست الصحافة قبل أن تعمل في قناة "الجزيرة"، ثم استقالت قبل بداية الثورة السورية لتتحوّل لاحقاً إلى واحدة من أبرز الوجوه الإعلامية للنظام. لم يكن دخولها القصر الجمهوري مجرّد انتقال وظيفي، بل كان انتقالاً طبقياً وسياسياً إلى فضاء مغلق لا يُسمح بالصعود داخله إلا لمن يحظون بثقة رأس السلطة، أو لمن يُنظر إليهم كأدوات ضرورية لإعادة تشكيل صورته العامة.
خلال سنواتها الأولى في القصر، تمتّعت لونا بامتيازات لم تُمنح لغيرها: قرب مباشر من بشار الأسد، دور يتجاوز حدود المستشار الإعلامي ليصل إلى مستوى التقرير والتحليل وصياغة الرسائل، إضافة إلى حضورها في اجتماعات كانت محصورة تقليدياً بدائرة ضيقة من أفراد العائلة والأجهزة الأمنية.
وبحسب شهادات متقاطعة لمصادر سورية معارضة وإعلاميين سابقين في دمشق، تحوّلت لونا سريعاً إلى ما يشبه "العقل الإعلامي المرافق لبشار"، وبدأ اسمها يتردد في الأوساط السياسية باعتبارها "امرأة قوية" داخل النظام، تماماً كما ظهرت بثينة شعبان قبل نحو عقد… قبل أن يجري تهميش الأخيرة بصورة متعمّدة لحساب الدور المتنامي للشبل.
المرأة ذات الشعر الأشقر والعيون الزرقاء ــ وفق شهادات حصلت عليها "المدن" ــ كانت تتحرك داخل القصر وكأنها مالكته، تصرخ في وجه الجميع، والجميع يمتثل. بل إنّها، في إحدى المرات، وبّخت وزير شؤون رئاسة الجمهورية منصور عزام أمام الحاضرين من دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض.
المرض القاتل
لم يكن صعود لونا الشبل مجرّد تطوّر وظيفي؛ بل جاء نتيجة تمدّد مدروس في الفراغ الذي تركته أسماء الأسد خلال بعض مراحل مرضها وابتعادها المؤقّت عن الواجهة، ولا سيما أثناء علاجها من سرطان الثدي عام 2019. ويُعتقد أن تلك المرحلة مثّلت الذروة في التوتر بين المرأتين، إذ تحوّلت إلى لحظة انكشاف لنوايا الشبل الحقيقية. فقد عبّرت، في محيطها الضيّق، عن رغبة جامحة في أن تصبح "السيدة الأولى"، بل ذهبت حدّ القول إن "مرض أسماء قد يفتح باباً لمرحلة جديدة" داخل القصر، قبل أن تلفظ عبارتها الشهيرة: "الله ياخدا".
ووصلت تلك الأحاديث إلى مسمع أسماء الأسد، التي كانت تعمل منذ عام 2011 على ترسيخ صورة "السيدة النموذجية" و"قائدة المجتمع المدني". وبالتالي، كان كلام بهذا الحجم، إذا صحّ وصوله إليها، أشبه بإعلان حرب داخل البيت الواحد.
ومع مرور الوقت، بدأت المؤشرات تتكشّف رويداً رويداً: توتّر واضح بين دوائر العمل التابعة لأسماء وتلك التي تتحرك عبرها لونا.
تضارب متزايد بين الرؤيتين الإعلاميتين: رؤية أسماء "التنموية ــ الاجتماعية"، مقابل رؤية لونا "السياسية ــ الأمنية".
بهذا، لم يعد الصراع محصوراً بتنافس نفوذ، بل تحوّل إلى مواجهة صامتة بين مشروعين داخل القصر نفسه. فقد تزايد حضور لونا الشبل في المشهد العام، مقابل تراجع نسبي لأسماء الأسد خلال فترة المرض. وبحسٍّ أنثوي يدرك خطورة المنافسة، ومع فشل محاولات أسماء المتكررة لإبعاد لونا عن دائرة القرار، تردّد أنّها طلبت نقل الشبل إلى موقع مستشارة تعمل تحت إشرافها المباشر، في محاولة لإعادة هندسة مسار نفوذها داخل القصر.
وبرغم أن هذا الإجراء لم يُنفّذ حرفياً، إلّا أنّه شكّل بداية مرحلة "الكبح"، التي تطوّرت لاحقاً إلى محاولات إقصاء كاملة باءت بالفشل في مراحلها الأولى. فالشبل كانت تتصرّف كما لو أنّها "السيدة الأولى"، حتى أنها ــ وفق ما علمته "المدن" ــ وجّهت تهديداً لمذيعة في التلفزيون السوري أعجب بها الرئيس المخلوع، قائلة إنها "ستقرف رأسها إذا اقتربت منه مجدداً"، في دلالة على شعورها بنفوذ شخصي يتجاوز حدود الدور الوظيفي. تسريبات قناة "العربية" جاءت لاحقاً لتعزّز هذا الانطباع.
امتداد الصراع
خلال فترة علاج أسماء الأسد، حاولت ــ وبمساعدة من ابنها الأكبر حافظ ــ الحدّ من نفوذ لونا الشبل وتقليص حضورها في الإعلام الرسمي وداخل أروقة القصر. وقد تعزّز هذا الاتجاه بتحذير منسوب إلى قاسم سليماني عام 2018، أفاد بأن لونا "غير موثوقة" وربما "مرتبطة بجهات خارجية".
وبغضّ النظر عن مدى دقّة تلك التحذيرات، فقد استثمرتها أسماء الأسد لإعادة صياغة سردية سياسية ــ أمنية تُبرّر إبعاد الشبل عن دائرة النفوذ. إذ كان الصراع بين السيدتين، في جوهره، معركة على من يمتلك الحق في تعريف "صورة الرئيس".
فأسماء الأسد ترى نفسها صاحبة مشروع طويل الأمد لإعادة تشكيل صورة النظام، عبر خطاب "التعافي"، و"المجتمع المدني"، و"الاقتصاد الاجتماعي". تمتلك شبكات واسعة من الجمعيات والأنشطة، إضافة إلى ارتباطات مالية عميقة مع رجال أعمال نافذين.
كانت لونا الشبل تمثّل رؤية أكثر مباشرة وحدّة: حماية صورة الأسد سياسياً، التحكّم بالرسائل الإعلامية، إدارة الأزمات عبر الخطاب الأمني، وترسيخ "زعامة الرئيس" في الإعلام المحلي والدولي. وفي وقت بدا فيه بشار الأسد نفسه متأرجحاً بين أدوار متعددة، بات وجود امرأتين تمثّلان رؤيتين متناقضتين خطراً على تماسك البنية الداخلية للقصر.
ورغم أنّ الأسد ــ وفق مقربين ــ كان يميل إلى الاعتماد على لونا في مهامّه الإعلامية، فإن أسماء بقيت صاحبة الثقل الأكبر داخل شبكات النفوذ المدني ــ الاقتصادي، ما منحها القدرة على حسم معركة بطيئة وطويلة لصالحها.
وفي السنة الأخيرة قبل السقوط، نجحت أسماء الأسد في تهميش دور لونا بصورة شبه كاملة، قبل أن تصعد إلى الواجهة شخصية جديدة هي دارين سليمان، التي بدأت تتقدّم كوجه موالٍ مفضّل لدى دوائر القصر.
سقوط لونا
بعد أشهر من التهميش المنهجي، جاء الخبر الصادم: حادث سير قاتل على طريق يعفور في 5 تموز/يوليو 2024.
الرواية الرسمية اكتفت بالقول إن ما جرى "حادث مروري"، لكن تزامن الحادث مع اعتقال شقيقها، علَم الشبل، بتهم تتعلّق بـ"التخابر"، فتح الباب أمام موجة واسعة من التكهنات حول أن الوفاة قد لا تكون "بريئة" بالكامل. وكشفت "المدن" سابقاً، أن الشبل تعرّضت لضربات على الرأس أدت إلى كسر في الجمجمة، ما زاد من علامات الاستفهام حول حقيقة ما جرى.
وفي السياق السوري، لا تُقرأ الحوادث التي تقع بالتزامن مع صراعات السلطة بعيداً عن المناخ السياسي. لذلك رأى كثيرون أن رحيل لونا جاء بعد أن تحوّلت إلى عبء أمني وسياسي، وبعد أن استنفدت دورها داخل النظام. أُزيلت لونا من المشهد بالكامل.
لتبدأ بعد ذلك مرحلة السؤال الأكبر: كيف انتصرت أسماء الأسد؟
لا يعود انتصار أسماء الأسد إلى مجرد صفتها كـ"زوجة الرئيس"، بل إلى قدرتها على بناء منظومة نفوذ متكاملة داخل الدولة والمجتمع، منظومة تتجاوز حدود الدور البروتوكولي إلى بنية سلطة فعلية تتفرّع في أكثر من اتجاه.
التحكم بالملف المالي ــ الاقتصادي: عبر رعاية شبكات واسعة من رجال الأعمال، وتوجيه الاستثمارات، وإعادة توزيع الامتيازات داخل الاقتصاد السوري. ومع إعادة هيكلة السوق بعد 2011، تضاعفت قدرة أسماء على التأثير في القرارات المالية عبر مؤسسات رديفة تعمل تحت مظلتها.
السيطرة على المنظمات والجمعيات المدنية: إذ شكّلت الجمعيات التي ترعاها واجهة اجتماعية ذات تأثير كبير، تُستخدم لضبط المزاج العام، والتحكّم بخطاب "التعافي"، وتثبيت حضورها كوجه مدني للنظام. هذه الشبكات مكّنتها من الوصول إلى فئات شعبية لا تصل إليها أجهزة الدولة التقليدية.
تحالفات محسوبة مع الأجهزة الأمنية: التي كانت تبحث عن "الاستقرار قبل أي شيء". ومع اتساع دور أسماء في إدارة الملفات الاجتماعية والاقتصادية، أصبحت تلك الأجهزة ترى فيها شريكاً يضمن ضبط الهامش الشعبي، ويخفّف الأعباء الأمنية المباشرة.
مشروع إعلامي طويل النفس: لا يقوم على التكتيكات اللحظية، بل على إعادة صياغة صورة النظام كاملاً: من خطاب "الدولة المنهكة" إلى "الدولة التي تتعافى". وقد وظّفت لهذا الغرض منصات رقمية، ومؤسسات إعلامية رديفة، وسرديات متماسكة تخدم رؤيتها.
إدارة دقيقة للخصوم داخل القصر: حيث تحوّلت لونا الشبل، بمرور الوقت، من حليفة نافعة إلى تهديد صريح لنفوذ أسماء. ومن ثمّ جرى التعامل معها وفق منطق "المشكلة التي يجب احتواؤها"، قبل أن تُدرج ضمن فئة "المشكلة التي يجب حلّها"، وهو ما انتهى بتهميشها الكامل ثم خروجها النهائي من المشهد.
في المقابل، لم تكن لونا تمتلك بنية نفوذ مشابهة. فقد اعتمدت على قربها الشخصي من بشار الأسد، وهو مصدر قوي لكنه هشّ، خصوصاً في صراعات السلطة الداخلية التي تتشابك فيها الحسابات العائلية، والأمنية، والاقتصادية. ومع تضخّم حضور أسماء، بدا نفوذ لونا وكأنه يستند إلى عمود واحد، بينما كانت أسماء تبني جداراً كاملاً من الأعمدة.
وهكذا انتهت المواجهة:أسماء بمنظومة نفوذ متماسكة، ولونا بسلطة تعتمد على شخص واحد… وسقوطها كان مسألة وقت.
مشهد الختام
لا يمكن قراءة الصراع بين لونا الشبل وأسماء الأسد خارج طبيعة النظام السوري نفسه، نظام يقوم على الشخصنة، وعلى توزيع محسوب للأدوار داخل دائرة ضيّقة من الأقارب والموالين. ففي بنية سلطوية كهذه: لا وجود فعلياً لوظائف مستقلّة، ولا لسلطات تستند إلى القانون، بل لشبكة مصالح متداخلة تتحكّم بها درجة القرب من رأس الهرم، ويسقط منها كل من يفقد الحماية أو يتجاوز حدود الدور المرسوم له.
ضمن هذه المعادلة، كانت لونا الشبل أقوى مما يسمح به موقعها الرسمي، وأقرب إلى مركز السلطة مما يحتمله نظام يقوم على ثنائية "الزعيم الأوحد" و"السيدة الأولى الواحدة". ومع ذلك، ظلّ قربها هشّاً، لأنها لم تمتلك شبكات النفوذ التي راكمتها أسماء خلال سنوات طويلة.
أما أسماء الأسد فقد أثبتت، مرة تلو أخرى، أنها ليست مجرّد زوجة رئيس بائد، بل فاعلة سياسية تعرف متى تتقدم، ومتى تهاجم، ومتى تستعيد المساحة التي تعتبرها جزءاً من ملكية القصر. قدرتها على إدارة شبكة معقّدة من المال والإعلام والأمن جعلتها الطرف الأكثر ثباتاً في معركة النفوذ.
وهكذا انتهى الصراع كما تنتهي معظم الصراعات في الأنظمة المغلقة: من يبقى داخل القصر هو المنتصر، ومن يُستبعَد لا يعود أبداً.
قُتلت لونا الشبل، وغادرت أسماء الأخرس بعدها ... وبقي القصر.
الخيام | khiyam.com
تعليقات: