راشد شاتيلا: الحضارة المصرية والذكاء الاصطناعي.. حين يلتقي العقل القديم بالعقل الرقمي في بناء المستقبل


في قلب الصحراء، حيث شقّ النيل طريقه الأبدي نحو الخلود، ولدت أولى ومضات الفكر الإنساني المنظّم. كانت الحضارة المصرية القديمة أكثر من ممالك وأهرامات؛ كانت مختبرًا مبكرًا للعقل البشري في سعيه لفهم الوجود، وتنظيم الزمن، وترويض الطبيعة بالمعرفة. واليوم، وبعد آلاف السنين، يعود السؤال نفسه ولكن بأدوات جديدة: كيف سيقود الذكاء الاصطناعي البشرية إلى حضارة جديدة، لا تُبنى بالحجر، بل بالكود؟

لقد امتاز المصري القديم بعقلٍ تحليليٍّ فذٍّ استطاع أن يحسب مواقع النجوم، ويقيس فيض النيل، ويبتكر نظام كتابة سابق لعصره. كانت الحضارة المصرية أول من آمن بأن المعرفة هي الطريق إلى الخلود، وأن التقدّم لا يتحقق إلا حين يتحد العقل مع الإيمان بالمعنى. الذكاء الاصطناعي اليوم يسير على الدرب نفسه، إذ يحاول أن يمنح الإنسان نوعًا جديدًا من الخلود، لا للجسد هذه المرة، بل للفكر، عبر بياناتٍ تتجاوز حدود الزمن والمكان.

وإذا كان المصريون قد شيّدوا أهراماتهم لتكون جسورًا بين الأرض والسماء، فإن الذكاء الاصطناعي يشيد اليوم أهراماتٍ رقمية من المعرفة، تحفظ ذاكرة البشرية وتعيد تشكيلها في ثوانٍ. لكن كما احتاج المصري القديم إلى كهنةٍ يفسّرون الأسرار، يحتاج العصر الحديث إلى فلاسفةٍ وعلماء قانونٍ وأخلاقٍ يضبطون مسار الذكاء الاصطناعي حتى لا يتحول إلى فرعونٍ جديدٍ بلا ضمير.

إنّ ما ميّز الحضارة المصرية لم يكن فقط علمها أو هندستها، بل روحها المتسائلة التي كانت ترى في كل اكتشافٍ رسالةً للخلود الإنساني. هذه الروح هي ما يجب أن نُحييه في تعاملنا مع الذكاء الاصطناعي. فبدلاً من الخوف منه، علينا أن نوجّهه ليكون أداةً لتحسين التعليم، والصحة، وإعادة بناء العدالة في العالم، تمامًا كما استخدم المصري القديم علمه في خدمة حياته اليومية وتنظيم مجتمعه.

في المستقبل، يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي الوريث الشرعي للعقل المصري القديم. فهو، مثله، يسعى إلى النظام، والدقة، والخلود. غير أنّ الخطر يكمن في أن نتركه يعمل بلا بصيرة، فيتحول من وسيلةٍ للتحرر إلى أداةٍ للهيمنة. الحضارة المصرية نجت من الفوضى لأنها كانت توازن بين العقل والإيمان، بين التقدّم والتقديس. وهذا هو التوازن الذي يحتاجه العالم الرقمي اليوم.

قد لا تكون الأهرامات الحديثة من حجرٍ أو رخام، بل من شبكاتٍ عصبية وخوارزميات تتفاعل كالعقل البشري. ومع ذلك، تبقى الرسالة واحدة: الإنسان هو المركز، والعقل يجب أن يخدم القيم قبل أن يخدم السرعة. من دون هذا الوعي، سيصبح الذكاء الاصطناعي تمثالًا آخر من تماثيل الغرور الإنساني، لا روح فيه ولا هدف.

وهكذا، حين ننظر إلى المستقبل بعين الحضارة المصرية، ندرك أن الذكاء الاصطناعي ليس قطيعةً مع الماضي، بل امتدادٌ له في شكلٍ جديد. إنه محاولة جديدة لبناء “الأهرام الفكرية” التي تخلّد الإنسان بعقله لا بجسده، وبقيمه لا بآلته. وحين يتلاقى العقل القديم بالعقل الرقمي، عندها فقط يمكن أن يولد عصرٌ جديد، يكون فيه الذكاء في خدمة الإنسان، لا العكس.

راشد شاتيلا محلل سياسي باحث مختص في الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات

تعليقات: