قلق من احتمال تجدّد الحرب والترقّب سيّد الانتظار


تروي غادة من بلدة الخيام ما حدث مع صهرها، الذي دُمّر مطعمه مرتين خلال الحرب. ”دُمر مطعم صهري في الخيام، فنزح مع عائلته إلى حيّ ماضي في الضاحية الجنوبيّة، حيث افتتح مطعمًا جديدًا فيه. لكن مع بداية قصف الضاحية، دُمّر مطعمه هناك، فاضطرّ إلى النزوح مع عائلته نحو بلدة في قضاء الكورة“. تضيف غادة ”عادوا إلى الخيام، حيث افتتح مطعمًا من جديد، لكنّه لم يتمكّن من شراء كلّ المعدّات واقتصر على الأساسيّات، فهو لا يستطيع أن يبقى من دون عمل، ولا أن يتحمّل خسارة أخرى.“

تتابع غادة: ”على الرغم من وجود 900 عائلة تعيش اليوم في الخيام، إلاّ أن كثيرًا من العائلات لم تعد، وبقيت في المناطق التي نزحت اليها، إمّا لأنّ منازلها في الخيام دُمّرت أو تضرّرت، أو لأنّهم لا يريدون خوض تجربة نزوح جديدة“.

..

لا يجتمع جنوبيّان هذه الأيام إلّا ويكون الكلام حول حرب متوقّعة ثالثهما، ”في حرب أو ما في حرب“؟ جهّز بعضهم ”شنط“ النزوح تحسّبًا لأيّ طارئ محتمل، وبعض آخر جدّد عقد الإيجار في المنطقة التي نزح إليها أثناء الحرب قبل أكثر من عام، وكثر وضعوا خططًا وكأنّ الحرب واقعة لا محالة. في المحصّلة ما يعيشه أهل الجنوب اليوم من حالة اللاحرب واللاسلم ربّما يكون أصعب من الحرب بذاتها، مع كل ما يرافق ذلك من قلق وضياع وخوف من مستقبل مجهول.

عند السؤال الذي يحضر بشكل دائم، ينقسم الجنوبيّون بين من يستبعد حصول حرب جديدة، معتبرًا الترويج لها، يأتي ضمن سياق حرب نفسية يشنّها العدوّ، وبين من يعتبرها حاصلة لا محالة، واضعًا تواريخ لحدوثها، محدّدًا أهدافها ودرجتها، وإذا ما كانت شاملة أم ضيّقة.

كلّ تلك التنبّؤات لا تبقى أسيرة الأحاديث الشخصيّة، بل تنتقل كالنار في الهشيم إلى مجموعات الـ ”واتس أبّ“، التي تنشر باستمرار أيضًا أخبار الاستهدافات اليوميّة والغارات، والتصريحات التي تحمل التهديد والوعيد، حتّى أصبحت متابعة الأخبار جزءًا لا يتجزّأ من حياة الناس اليوميّة ليس في الجنوب وحسب، بل في الضاحية الجنوبيّة ومنطقة بعلبك الهرمل.


ارتفاع منسوب القلق

ارتفع منسوب القلق بعد التهديدات المتواصلة التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليّون، آخرها كان لوزير الدفاع يسرائيل كاتس الأحد الماضي قال فيه ”إنّ الجيش الإسرائيليّ سيكثّف هجماته ضدّ حزب الله في جنوب لبنان“. تهديد واضح يعتبره محمّد إدريس، صاحب أحد متاجر الألبسة في حارة حريك ببيروت حربًا نفسيّة للضغط والقبول بمفاوضات مباشرة مع الإسرائيليّين.

لا يندم محمد على فتح محلّه من جديد وشراء بضاعة شتويّة. يقول لـ ”مناطق نت“: ”الرزق على الله، لا يمكن أن نبقى رهينة تهديدات العدوّ الإسرائيليّ، ولا يمكن أن نوقف أعمالنا بانتظار حدوث الحرب، لا نستطيع أن نتحكّم بالنتيجة، وإذا حصلت سنفعل كما فعلنا في الحرب الماضية“. ويتابع محمّد ”دفعت كثيرًا لتجديد المحلّ وعلى رغم ذلك أعتبره ثمنًا قليلًا أمام ما دفعه غيرنا في هذه الحرب، الحمدلله أننا وعائلتنا بخير وصحّة، هذا أهمّ شيء“.

من ناحيتها، تعيش ندى الدرّ التي انتقلت حديثًا إلى منزل جديد بعد أن دمّر العدوان بيتها القديم في بئر العبد ببيروت حيرة عميقة. تقول لـ ”مناطق نت“: ”لا أعلم إذا كان ينبغي عليّ استكمال شراء تجهيزات المنزل، فثمّة شعور غريب يساورني بأنّ الحرب ستندلع فور انتهائي من ذلك. هذا التردّد يجعلني أمام خيارات صعبة، وأشدّها خوفي من النزوح مجدّدًا. أطفالي يطالبون بأسرّة وغرفة خاصّة لهم، وكلّ مرّة أخلق عذرًا جديدًا كي أؤجّل ذلك، لكنّ التأجيل هذا اقترب من أن يصبح عامًا كاملًا“.


خوف من تكرار النزوح

لم تترك زينب بيتها الذي استأجرته خلال الحرب في منطقة بشارة الخوري إلاّ منذ شهرين، لأنّها لم تعد تستطيع تكبّد دفع ألف دولار شهريًّا. عادت إلى منزلها في حارة حريك بعد أن رمّمته. تقول لـ ”مناطق نت: ”هذه المرّة سأسافر إلى حيث ابنتي في بريطانيا، والتي سافرت خلال الحرب وقرّرت البقاء هناك، لن تقبل معي هذه المرّة أن أبقى هنا، فهي ذاقت مرارة النزوح“.

كثير من السكّان عايشوا تجربة النزوح في الحرب السابقة، ولا يزال الخوف يداهمهم من أن تتكرّر مرّة أخرى. هذا الخوف يزداد مع أيّ خبر سلبيّ عن إمكانيّة حصول حرب، فيبدأون بالتفكير في مصير عائلاتهم، وبمن سيكون لهم الملاذ الآمن إذا اضطرّوا إلى الرحيل؟ تلفّهم كثير من الأسئلة التي تفتقد إلى أجوبة، وهم غير قادرين على استئجار منازل جديدة على الفور، كما يفعل البعض ممّن تسمح إمكانيّاتهم المادّيّة بذلك.

تروي ميسون كيف أنّها تمسّكت بالبيت الذي استأجرته في جزّين (صيدا)، تقول لـ ”مناطق نت“: ”لم يكن من السهل أبدًا العثور على منزل خلال الحرب، ارتفع الطلب على المنازل بشكل كبير، والأسعار أصبحت خياليّة. لكنّنا وجدنا بيتًا بسعر مقبول، فلمَ نتركه. أمضينا معظم الصيف هناك، وكنت أحاول أن أعوّض أطفالي عن بعض ما عاشوه، فابني تنتابه نوبة هلع في كلّ مرّة يسمع صوت المسيّرة ولذلك كان المنزل في جزّين بمثابة متنفّس له“.

لم يختلف ما فعلته أُلفَت من بلدة يحمر الشقيف عمّا قامت به ميسون التي أبقت على البيت الذي استأجرته في مدينة جبيل، تقول لـ ”مناطق نت“: ”أغلقت الباب وتركت كلّ شيء مكانه، وكأنّ إحساسي بأنّ الحرب لم تنته كان صادقًا، عدت إلى بيروت وسكنت مع أهل زوجي، حتّى لا نترك البيت هناك، وعلى رغم أنّ المدارس والأعمال عادت إلى طبيعتها، إلّا أنّ القلق لم يفارقنا، فغزّة أعطتنا دروسًا عن وحشيّة إسرائيل وربّما تكون هذه المرّة أكثر همجيّة علينا“.


تجارب النزوح وويلات الحرب

تروي سهام من بلدة الطيبة (مرجعيون) معانات عائلتها خلال الحرب الماضية، تقول لـ ”مناطق نت“: ”حاولنا كثيرًا حينها الحصول على بيت للإيجار من دون نتيجة، عددنا الكبير دفع كثيرين إلى التمنّع عن تأجيرنا، فلجأنا إلى إحدى العائلات التي تربطنا بها قرابة بعيدة في زحلة، أقمنا 15 شخصًا في غرفتين فقط، كان الوضع صعبًا جدًّا، فالرجال كانوا ينامون في الحديقة“.

بسبب ذلك، يصرّ البعض على البقاء في قراهم على رغم التهديدات الإسرائيليّة التي تستهدفهم مباشرة، غادة إدريس من بلدة الخيام الجنوبيّة، عادت إلى منزلها بعد مرور شهرين على وقف إطلاق النار تقول لـ ”مناطق نت“: ”عدت إلى بيتي وعملت على إصلاح الأضرار فيه، سجلّت أولادي في المدرسة ونعيش حياتنا بشكل طبيعيّ، لكنّ حال القلق لم تتوقّف، أشعر هذه المرة أنّ الحرب القادمة لن تستثني حجرًا أو بشرًا، لم أعد أجد مكانًا آمنًا“.


إلى أين نذهب؟

تسأل سامية التي تقطن في الغبيري بضاحية بيروت: ”شو البديل؟ شو فينا نعمل؟ ومع ذلك لا أخفي خوفي من النزوح مجدّدًا، أرتدي عباءة سوداء وهذا جعلني خلال الحرب الماضية كغريبة في بلدي، ننتقل من مكان إلى آخر، ونظرة الناس كانت مليئة بالخوف. صارت العباءة عبئًا على كلّ من ترتديها، وخوف الناس نابع من أن نعرّضهم إلى الخطر كما يقولون“. تتساءل سامية ”هذه المرّة إلى أين سنذهب؟“.

سؤال لا تطرحه سامية وحدها، بل كلّ من له معارف أو أصدقاء لم يقطع التواصل معهم، والحديث واحد وهو البحث عن بيوت للإيجار في حال شنّت اسرائيل حربًا.

ميساء من بلدة الكفور (النبطية) تقول لـ ”مناطق نت“: ”في الحرب الماضية جهّزنا كلّ شيء، اشترينا المُونة وحضّرنا أنفسنا للبقاء في البيت، ولكن عندما اشتدّت الغارات، تركنا البيت بشكل جنونيّ، لم أحمل معي الماء أو أيّ من أغراض أولادي. كنّا مشرّعين أمام الغارات المستمرّة على جانبي الطريق، ذهبنا عند صديقتي في صيدا، واستقبلتنا مشكورة على كلّ ما قامت به لأجلنا، اليوم أحاول أن أعيش أيّامي بشكل طبيعيّ، على الرغم من أصوات القصف والغارات المرعبة التي أعادت لأولادي خوفهم من الحرب“.

تسلّم مهى من بلدة زبدين (النبطية) أمرها ”إلى الله“، وتقول لـ ”مناطق نت“: ”هو أكرم علينا، وما كتب لنا سيحصل، لن نعيش دقيقة أكثر من عمرنا، علينا التمسّك بالإيمان والقوّة والصبر، إسرائيل تريد تدميرنا نفسيًّا قبل أن تدمّر بيوتنا“. تختم مهى: ”أضع هاتفي بالقرب منّي عندما أنام، وأستفيق مرارًا خلال الليل للتأكّد من الأخبار، نسمع صوت القصف والطائرات الحربيّة ولكن لا نعرف أين، أصبحت الأخبار سبيلنا للتأكّد من أنّنا ما زلنا على قيد الحياة“.

نازحون في إحدى مدارس صور أثناء الحرب العام الماضي
نازحون في إحدى مدارس صور أثناء الحرب العام الماضي


تعليقات: