
حين تُكتب حكايات الشعوب، لا تكون البطولة في امتلاك السلاح، بل في امتلاك الإرادة. العدوان، على اختلاف أنواعه، لم يعرف حدودًا جغرافية أو دينية، بل واجه في كلّ مرة الشعوب التي آمنت بأنّ وحدتها هي سرّ الخلاص. من فلسطين التي ما زالت تقاوم، إلى الجنوب اللبناني الذي صمد، ومن ألاسكا التي انتصرت على قسوة الطبيعة، إلى ألمانيا واليابان اللتين نهضتا من تحت الركام، يتكرّر الدرس ذاته: الوطن يُبنى حين تتوحّد القلوب، لا حين تتكاثر الأصوات.
فلسطين هي البوصلة التي تذكّر العالم بأنّ الصمود لا يحتاج إلى عتادٍ بقدر ما يحتاج إلى وحدة الموقف. هناك تلتقي الأجيال على هدفٍ واحد: الحفاظ على الأرض والهوية. رغم الجراح والانقسامات المفروضة، بقيت فلسطين حيّة لأنها آمنت أن الشعب الواحد، مهما تفرّق، يجتمع تحت راية الحقّ. تلك الوحدة الروحية هي التي منعت العدم من ابتلاع الذاكرة، وجعلت من الوجود الفلسطيني فعل مقاومةٍ يوميّة.
في الجنوب اللبناني، حيث التقت الأرض بالعزّة، تجلّت الوحدة الوطنية بأبهى صورها. هناك لم تكن المواجهة مجرّد دفاعٍ عن حدود، بل عن كرامة وطنٍ بكامله. اتحد الشعب بمختلف أطيافه حول هدفٍ واحد: التحرّر والصمود. ومن رحم المعاناة، وُلد النصر، لا بفضل القوة وحدها، بل بفضل التلاحم بين الناس الذين جعلوا من التضحية طريقًا إلى الكرامة، ومن الوحدة جدارًا في وجه الانقسام والخوف.
وهنا، تُرفع التحية بإجلالٍ لروح شهداء الجنوب ولبنان، الذين سطّروا بدمائهم صفحة النور في تاريخ هذا الوطن. إنهم من جعلوا من الأرض كتابًا للعزة، ومن التضحية لغةً للحياة. بفضلهم بقي لبنان واقفًا، وبفضل وحدتهم بقيت الكرامة رايةً ترفرف فوق الجراح.
كانت ألاسكا تخوض معركتها الخاصة ضدّ برد الطبيعة وظروفها القاسية. لم يكن العدوان هنا عسكريًّا، بل بيئيًّا واقتصاديًّا، ومع ذلك انتصرت ألاسكا حين توحّد الإنسان مع الطبيعة. أدار أبناؤها مواردهم بعقلٍ جماعيّ، فحوّلوا الصعوبات إلى طاقة، والعزلة إلى مصدر قوّة. الوحدة هنا لم تكن سياسية، بل إنسانية، جمعت بين العلم، والبيئة، والإصرار على الحياة.
ألمانيا قدّمت درسًا خالدًا في كيفيّة تحويل الهزيمة إلى بداية جديدة. بعد أن تفرّق أبناؤها، اكتشفوا أنّ خلاصهم لا يكون بالانقسام، بل بالعمل المشترك. فالتفتوا حول مشروعٍ وطنيّ شامل أعاد بناء الإنسان قبل الحجر. تحوّلت المصانع المهدّمة إلى مدارس إنتاج، والعقول إلى ثرواتٍ حيّة. بالوحدة والعلم والانضباط، استطاع الألمان أن يصنعوا معجزة النهوض، ويعيدوا لوطنهم مكانته بين الأمم.
أما اليابان، فقد واجهت العدوان بأسلوبٍ مختلف: بالسكوت والعمل. لم ترفع الصوت، بل رفعت مستوى الوعي والإبداع. آمنت بأنّ الوحدة تبدأ من المدرسة، ومن احترام الفرد للجماعة. تحوّل الألم إلى طاقة إنتاج، والدمار إلى فرصة للتطوير. بهذه الروح الجماعية، أعادت اليابان بناء ذاتها، وحقّقت نهضةً علمية وثقافية جعلت منها مثالاً في كيفية الانتصار بالإرادة والعقل، لا بالسلاح والنار.
تُثبت هذه النماذج المختلفة أن العدوان، مهما كان شكله، لا يُهزم إلا بوحدة الصف. فلسطين قاومت بالهوية، والجنوب بالكرامة، وألاسكا بالانسجام، وألمانيا واليابان بالعمل والعلم. فالوحدة الوطنية ليست شعارًا، بل روحًا تُحيي الأوطان وتزرع فيها معنى الانتماء. الشعوب التي تتفرّق تضعف، أما تلك التي تتوحّد، فتبني مجدها بأيديها وتفرض احترامها على العالم.
في عصر التحوّل الرقمي، أصبح الذكاء الاصطناعي أداةً في يد الشعوب التي تسعى للنهوض من جديد. الدول التي فهمت قيمته لم تتركه يحكمها، بل جعلته يخدم وحدتها وتطوّرها. استخدمته ألمانيا واليابان لتنظيم الإنتاج وإدارة الموارد بكفاءةٍ تحترم الإنسان، فيما لجأت إليه دول أخرى لحماية البيئة، وتطوير التعليم، ومراقبة الفساد. الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الوحدة، بل وسيلةٌ لتعزيزها: يوحّد الجهود، ويمنح المجتمعات رؤيةً دقيقة لما تملك، وما يمكن أن تصبح عليه. حين يُستخدم بضميرٍ وطنيّ، يتحوّل إلى عقلٍ جماعيّ يُعيد بناء الأوطان كما أعادت الإرادة بناءها من قبل.
كما نهضت ألمانيا واليابان من تحت الركام، يمكن للجنوب اللبناني أن ينهض من جديد، لا بالحجارة وحدها، بل بالعقول الشابّة التي تحمل شغف التغيير. إعادة الإعمار ليست بناء جدرانٍ فقط، بل بناء ثقةٍ بين المواطن وأرضه. يمكن أن تتحوّل قرى الجنوب إلى نماذجٍ في التنمية المستدامة، إذا توحّدت الجهود بين الدولة والمجتمع، واستُثمرت طاقات الشباب في الزراعة، والتعليم، والتكنولوجيا. فلبنان بأسره يحتاج اليوم إلى روح الجنوب: تلك الإرادة الصلبة التي لا تعرف الهزيمة. عندما يتوحّد اللبنانيون حول مشروع وطنيّ جامع، بعيدًا عن الانقسام، يمكنهم أن يجعلوا من الألم حافزًا للنهوض، ومن الذكاء الاصطناعي والعلم رافعةً لاقتصادٍ مزدهر يليق بتاريخهم وحضارتهم. فالشباب هم جيل الإعمار، والعلم هو جسرهم نحو المستقبل.
إنّ وحدة الشعوب هي المعجزة التي لا تموت، والسلاح الذي لا يصدأ. ما بين فلسطين وألاسكا، والجنوب اللبناني وألمانيا واليابان، يمتدّ خيطٌ واحد من النور: كلّ وطنٍ اتّحد، انتصر وازدهر. فحين تتلاقى العقول والقلوب على هدفٍ واحد، يصبح المستحيل طريقًا نحو المستقبل، وتتحوّل الهزيمة إلى نقطة انطلاقٍ جديدة في رحلة بناء الإنسان والوطن.
وتبقى تحيّة الوفاء خالدةً لروح شهداء لبنان والجنوب، الذين كتبوا بدمائهم دستور الكرامة، وعلّموا الأجيال أنّ الوحدة هي طريق الحياة، وأنّ الأوطان لا تُبنى بالحجارة فقط، بل بالإخلاص، والإيمان، والتضحية في سبيلها.
راشد شاتيلا سياسي لبناني مختص في الذكاء الاصطناعي و إدارة البيانات
الخيام | khiyam.com
تعليقات: