
الكاتب راشد شاتيلا
في أرضٍ يلتقي فيها عبير الأرز بنسيم البحر، يقف لبنان دائمًا رمزًا للتعايش والصمود. تاريخه، وإن كان مثقلًا بالحروب والانقسامات السياسية والتدخلات الخارجية، إلا أنه كُتب أيضًا بإرادة شعبه هذا الشعب الذي، رغم اختلافاته، كان دائمًا يتوحّد عندما تكون مصلحة الوطن على المحك. فالوحدة الوطنية في لبنان ليست شعارًا يُرفع، بل شريان حياة يربط أجزاء الوطن ويحفظه من الانهيار.
تكمن قوة لبنان في تنوّعه. فالمسيحيون والمسلمون والدروز، كلّ طائفةٍ تحمل إرثها وتقاليدها ورؤيتها للوطن، لكن ما يجعل لبنان فريدًا ليس اختلاف مكوّناته، بل الانسجام الذي يمكن أن يتجلّى حين تتوحّد هذه الأصوات تحت هويةٍ وطنيةٍ واحدة. إنّ الوحدة الوطنية تعني الإيمان بأن لا طائفة ولا حزب ولا منطقة تستطيع العيش بمعزلٍ عن الآخرين، لأن الهوية اللبنانية تتجاوز حدود الطائفية الضيّقة وتنتمي لكلّ مواطنٍ يؤمن بالحرية والكرامة والتعايش.
تشكل الحرب الأهلية اللبنانية ذكرى أليمة لما يحدث حين تضيع الوحدة. فسنوات الدمار أثبتت أن لا قوّة خارجية تستطيع إعادة بناء ما دمّرته الانقسامات الداخلية. ومن بين ركام تلك الحرب وُلدت حقيقة أعمق: عندما يتكاتف اللبنانيون، يستطيعون إعادة إعمار المدن، وإنعاش الاقتصاد، واستعادة السلام. إنّ جيل ما بعد الحرب يحمل مسؤولية ألا تتكرّر تلك المأساة أبدًا.
أما الجيل الشاب اليوم، فهو مفتاح لبنان الموحد. على عكس الأجيال السابقة، هو أكثر انفتاحًا على العالم، وأكثر وعيًا بقضايا العدالة الاجتماعية، وأقل ارتباطًا بولاءات طائفية قديمة. يحلم هذا الجيل بلبنانٍ يقوم على الكفاءة لا المحسوبيات، على المساواة لا الانتماءات، وعلى حب الوطن فوق أي ولاءٍ سياسي. ومن خلال إبداعه وتعليمه وإصراره، يمكن أن يتحول حلم الوحدة إلى واقعٍ دائم.
ولا يمكن أن تتحقق الوحدة الحقيقية دون قيادةٍ مسؤولة. فعلى الطبقة السياسية في لبنان أن تسمو فوق المصالح الشخصية والطائفية، وأن تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. لقد حان الوقت لرؤيةٍ سياسيةٍ جديدة، تدرك أن بقاء لبنان مرهونٌ بالتعاون لا بالصراع. فعندما يضع السياسيون الإصلاح والعدالة فوق الفساد والانقسام، سيستعيد الشعب ثقته بدولته.
كما تُختبر وحدة لبنان في وجه العدوان. فعبر تاريخه، واجه لبنان تهديداتٍ خارجية متكرّرة، لكنه في كل مرة كان أبناؤه يقفون صفًا واحدًا، متجاوزين خلافاتهم الداخلية. إنّ الوحدة في المقاومة، سواء كانت عسكرية أو دبلوماسية أو اجتماعية، تبقى الأساس في بقاء لبنان وصموده. فالجبهة الداخلية الموحّدة هي السلاح الأقوى في وجه كل من يسعى إلى إضعاف الوطن أو تقسيمه.
الوحدة الوطنية ليست ضرورة سياسية فحسب، بل واجبٌ أخلاقي أيضًا. فإعادة الإعمار، سواء للبنى التحتية أو للمؤسسات، تتطلب شعورًا مشتركًا بالمسؤولية. وكل لبناني، في الداخل أو في المهجر، يستطيع أن يساهم في بناء لبنان الذي يعكس روحه الحقيقية لبنان الصامد، الرحيم، والحر. إنّ إعادة الإعمار لا يجب أن تقتصر على الحجر، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة بناء الثقة والأخلاق والهدف الوطني المشترك.
إنّ جمال لبنان يكمن في تناقضاته الجبل والبحر، الشرق والغرب، الحداثة والتقاليد . والوحدة الوطنية هي الخيط الذي يشدّ هذه اللوحة معًا. فعندما يتذكّر اللبنانيون أن قوتهم الحقيقية في وحدتهم، لن تهزمهم أي أزمة، ولن تفرّقهم أي قوةٍ خارجية، ولن تطفئ ظلامات الزمن نورهم.
لبنان الموحد ليس حلمًا، بل هو قدرُ شعبٍ عانى كل شيء، ومع ذلك لا يزال يؤمن بالمستقبل .
راشد شاتيلا
كاتب وباحث لبناني – مختص في الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات
الخيام | khiyam.com
تعليقات: