مع غزة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى


يصعب عليَّ أن أكتب، ودماء حبيبنا وقائدنا وقدوتنا لم تجفَّ بعد، لكنَّ المعركة تستوجب على كلِّ فردٍ منّا أن يساهم ولو بحرفٍ أو كلمةٍ، وكلُّ هذه الكلمات لا ترتقي لغبارٍ على حذاء مجاهدٍ يقفُ شامخًا في ساحات الوغى.

من الواضح أنَّنا في مرحلةٍ بغاية الحساسيَّة والخطورة في تاريخ حركات المقاومة والتحرُّر الوطنيِّ لبلادنا. من الواضح أيضًا أنَّ العدوَّ، وخلفه الغرب كلَّه، قد أعدَّ العدَّة جيدًا لهذه المواجهة تسليحًا واستخباراتٍ وعدَّةً وخطَّة. من الواضح أيضًا أنَّ العدوَّ، ومِن خلاصات مواجهة المقاومة معه عبر عقودٍ، قد بنى خطَّته التي تقوم على تحييد عناصر القوَّة لدى المقاومة كي يستطيع تحقيق انتصارٍ ساحقٍ من دون الاضطرار إلى خوض مواجهةٍ فعليَّة. لقد بنى الأعداء إستراتيجيَّتهم على ضرب عناصر القوَّة لدى المقاومة - وهي من خلاصات لجنة "فينوغراد" وتقوم على الآتي:

- القائد الرمز: شَكَّل الشهيد القائد السيِّد نصر الله رديفًا للنصر، وكانت المقاومة وأهلها على يقينٍ بأنَّ طالما هو على رأس المقاومة فالنصر حليفها، مهما تكالب الأعداء ومكروا.

- القيادة والسيطرة: من خلاصات "فينوغراد" أنَّ المقاومة لم تفقد للحظةٍ في الحرب القيادة والسيطرة، وكانت الأوامر والخطط والتعزيزات تصل حتَّى إلى آخر عنصرٍ مقاتلٍ على مشارف مارون الراس. من هنا عمل العدوُّ - ولا يزال - على ضرب غرف العمليَّات والقيادات العليا والميدانيَّة لضرب قدرة المقاومة على إدارة عمليَّاتها بكفاءة.

- شبكة الاتِّصالات: شبكة الاتصالات جزءٌ لا يتجزَّأ من القيادة والسيطرة لدى المقاومة، وقد كانت إحدى أسرار الانتصار في حرب تمُّوز عام ٢٠٠٦ وما قبلها وما بعدها. عَمِل العدوُّ، من خلال عمليَّة البيجر واللاسلكيِّ، ومن خلال الترويج أنَّ عددًا من الاغتيالات نجح بسبب اختراقاتٍ في شبكة السلكي لدى المقاومة، على ضرب الثقة لدى المقاومة بشبكات اتِّصالها، لدفعها إمِّا إلى تجنُّب الاتِّصال أو إلى البحث خلال الحرب عن أساليب اتِّصالٍ أخرى قد تكون أكثر خطورة.

- المعنويَّات وأهل المقاومة: أقوى أسلحة المقاومة وأصلبها هي أهلها وناسها. عَمِل العدوُّ، من خلال ضرباته "النوعيَّة"، على ضرب معنويَّات بيئة المقاومة، من خلال استهداف القادة واحدًا تلو الآخر، وصولاً إلى الشهيد القائد، مع ضخٍّ إعلاميٍّ هائلٍ، من أجل بثِّ روح الهزيمة والاستسلام في الصفوف. يضاف إلى ذلك، عمليَّات التهجير القسريِّ وتهديدات الإخلاء والمجازر المتزايدة بحقِّ النازحين والصامدين. ومن المتوقَّع أن تشمل الخطَّة أيضًا بداية الضغط على النازحين من قِبل حلفاء/عملاء الغرب التاريخيِّين في مناطقهم، من أجل ممارسة مزيدٍ من الضغط على المقاومة للاستسلام.

- صورة حلفاء المقاومة: عَمِل العدوُّ أيضًا، ومن خلال ماكينته الإعلاميَّة وعملائه، على تهشيم صورة حلفاء المقاومة أمام جمهورها، وقد بدأت الحملة واستعرت مع الترويج منذ أشهرٍ لأنَّ إيران قد باعت المقاومة وخذلتها وتآمرت عليها، وصولاً إلى اتِّهام إيران بالوشاية بمكان الشهيد القائد. طاول الطعن أيضًا سوريا ودورها كحليفٍ للمقاومة وظهيرٍ لها ومصدرٍ ومعبرٍ للإمداد والتسليح. وما انتشار أقاويلَ من نوع "تُركنا وحدنا" إلَّا إشارةٌ إلى هذه الدعاية، التي تقودها أبواق الغرب في بلادنا، حتَّى وهي تذرف دموع التماسيح على شهدائنا وقادتنا.

- طرق الإمداد: يعمل العدوُّ علنًا، من قبل الحرب وخلالها، على ضرب طرق إمداد المقاومة. وقد بدأت بتكثيف ضرباتها على المعابر مع سوريا، والمعابر بين سوريا والعراق، وقد يتطوَّر هذا الاستهداف ليصل إلى إخراج المطارات والموانئ السوريَّة قريبًا عن الخدمة.

- غزَّة: بموازاة كلِّ ذلك، بدأت الماكينة الإعلاميَّة بتحميل غزَّة مسؤوليَّة كلِّ ما حصل، والقول أنَّ الذنب كلَّه هو ذنب يحيى السنوار وحماس والقسَّام، وأنَّ عمليَّة ٧ أكتوبر هي سبب مأساتنا وواقعنا المرير.

الآن، وبعد الضربات وخلالها، سيحضر المبعوثون الغربيُّون ليطرحوا أوراق الاستسلام، وهم يلبسون ثوب الطهارة تحت شعار خوفهم علينا وعلى بلادنا؛ الأميركيُّ بالأمس والفرنسيُّ غدًا... ومعهم جوقةً من الخونة الأذلَّاء.

هذا ما هو مطروحٌ أمامنا الآن، فما نحن بفاعلين؟ ما العمل؟

في معرض الإجابة على هذا السؤال، حاولت استحضار كلمات سيِّدنا القائد في كلِّ خطابٍ وأمام كلِّ موقفٍ، فأنا من جيلٍ تربَّى في مدرسةٍ أستاذها السيِّد نصر الله، فهمنا منها السياسة والإستراتيجيا، ومنه تعلَّمنا أن نرى أبعد من الظاهر. فما العمل؟

عسكريًا، الأمر متروكٌ لأهل الميدان، وهم أدرى وأقوى وأشجع وأنبل أبناء بلادنا. هم مخرزنا في أعين الأعداء مهما جاروا، وهم عصارة تاريخنا النبيل. هم بقيَّة الله في الأرض، وهم تجسيد انتصار الدم على السيف.

أمَّا نحن، جمهور المقاومة وشعبها، ظهيرها وحصنها الواقي، فالمسؤوليَّة علينا مضاعفةٌ، والتالي بعضٌ من هذه المسؤوليَّة لا كلَّها:

- الصبر ثمَّ الصبر: أليس الصبح بقريب؟ يريدون منَّا الاستسلام، فهل سنتخذ الليل جَمَلا؟ علينا أن نستوعب حجم الضربات التي تلقَّتها المقاومة، وهي ضرباتٌ تنهار على إثرها دولٌ كاملةٌ، إن على مستوى القائد الشهيد أو على مستوى قيادات الصفِّ الأوَّل والثاني والعمليَّات. علينا أن نستوعب أيضًا، وكما قال الشهيد القائد، أنَّ الضربة التي لا تقتلنا تقوِّينا. لم نمت، إذًا ما زلنا بعيدين عن الهزيمة. ولكن من الطبيعيِّ أن تحتاج المقاومة إلى قليلٍ من الوقت لتنظيم الصفوف والمتابعة، بأستراتيجيَّاتٍ جديدةٍ، بعزمٍ وقوَّةٍ واقتدار. العدوُّ يعمل ليلًا نهارًا ليمنع مقاومتنا من استيعاب الضربات، فعلينا ألَّا نكون عونًا له. نصبر على المقاومة، نشدُّ من أزرها، نرفع معنوياتها، ونكرِّر العهد بأنَّنا والمقاومة كيانٌ واحدٌ، لن يستطيعوا إنهاءها ما بقي منَّا طفلٌ يتنفس.

- مواجهة سرديَّة العدوِّ وفضح أعوانه: أكثر من نصف مقوِّمات هذه الحرب هو العامل النفسيُّ، الذي يهدف إلى إحباطنا وانتزاع استسلامنا. رأينا ذلك بوضوحٍ بالأمس، فمنهم مَن كان يدَّعي حرصه علينا، ويقول أنَّ كلَّ الطوائف فقدت قادتها من قبلٍ، والآن يقول أنَّه يتقبَّل الشيعة "المهزومين" باستشهاد قائدهم. الهدف من هذه الدعاية تكريس منطق الهزيمة في العقول والقلوب، حتَّى يصبح اليأس قدرا. هل نحن يائسون؟ قائدنا الشهيد قال دومًا أنَّ اليأس خيانةٌ لدماء الشهداء، فهل سنخون دماء قائدنا وقادتنا. اليوم، علينا أن نتمسَّك أكثر من أيِّ يومٍ مضى بالنصر كهدفٍ، بالمقاومة كوسيلةٍ، وبأنَّ مَن ينصر الله ينصره. ثمن النصر ومهره غالٍ، ولكنَّنا أهل التضحية والقرابين، ألم يردِّد جمهور المقاومة بملئ الحناجر خلف أبو هادي في تشييع هادي: "أرضيت يا رب؟ خذ حتَّى ترضى."

- التمسُّك بالحلفاء: سيرة الشهيد القائد مليئةٌ بالوصايا، وهو كان مدرسةً في التحليل والإستراتيجيا والقيادة. لكنَّ وصيَّته الأخيرة كانت وحدة الساحات، وقد دفع حياته ثمنًا لهذه الوحدة. كان السيِّد مدركًا ومتيقِّنًا بأنَّ هزيمة إسرائيل تكمن في شلِّ دورها المزدوج، وهذا الدور هو الردع العسكريُّ من جهةٍ والتفتيت من جهةٍ أخرى. نجحت المقاومة في لبنان عبر السنوات في ضرب صورة إسرائيل الردعيَّة، وقد حطَّمت ردع إسرائيل في تمُّوز ٢٠٠٦ بغير رجعة. وراكمت المقاومة الفلسطينيَّة على كسر الردع الإسرائيليِّ لبناء إستراتيجيَّتها وصولاً إلى عمليَّة ٧ أكتوبر. من بعد تهشيم الردع الإسرائيليِّ، بدأ السيِّد العمل على وحدة الساحات، وكان له ولرفاقه، وعلى رأسهم الشهيد الحاج قاسم سليماني الدور الأبرز في بناء هذه المنظومة الموحَّدة في المواجهة، من جبال صنعاء إلى جبل عامل وجبل الشيخ، مرورًا بسوريا والعراق والضفَّة وغزَّة. هذه الوحدة كانت مشروع قائدنا. لم يجبره عليها أحد. لم يكُن السنوار مَن ورَّطنا في هذه الوحدة. لقد كانت قرارًا واعيًا من السيِّد واخوانه. كان يعلم عظمة هذا الهدف وأقدم عليه مدركًا لحجم التضحيات الذي يتطلَّبه. وفي رأيي، كلُّ ما نراه اليوم هو ردُّ فعلٍ على برنامج وحدة الساحات. هل تعتقدون أنَّ الغرب وإسرائيل يقبلون بإستراتيجيَّة التوحيد بعد قرنٍ من التفتيت؟ كلُّ أساطيل الغرب وقواعده وعبيده مجنَّدون لضرب هذه الوحدة، وهم يعملون اليوم أيضًا لخلق الشرخ مع غزَّة (بعد أن عملوا لعقودٍ على خلق شرخٍ طائفيِّ يمنع مشاريع الوحدة)، ولكنَّ التناقض الأكبر بين الهيمنة والاستعمار قد صهر الشروخ، ووحَّد أكثر بكثيرٍ مما فرَّقوا. هل نقبل اليوم ونسكت عن مَن يحاول تحميل غزَّة وزر دمائنا؟ هل نقول أو نفكِّر بعكس ما كان يقول سيِّدنا الشهيد؟ نحن اليوم مع غزة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. نحن اليوم مع اليمن وقائده، مع العراق ومقاومته، مع سوريا وجراحها، ومع إيران السيِّد الخامنئيِّ وحرس الثورة، فهم رفاق سيدنا الشهيد ورفاق مقاومتنا، وشركاء ساحتنا ونحن شركاءٌ لهم.

أخيرًا، علينا أن نتذكَّر دومًا، وفي كلِّ مرَّةٍ تُعرض علينا ورقة استسلامٍ، ويعمل الكون على إظهار أن لا سبيل لنا للحياة من دون استسلامٍ، أنَّ الجواب على هذه الورقة أعطاه الحسين من قبل في كربلاء، وأنَّ مقاومتنا هي مقاومة هيهات منَّا الذلة، وهي مقاومة انتصار الدم على السيف، وصوت مقاومتنا هو صوت عليِّ الأكبر صارخًا "ألسنا على الحق، إذًا لا نبالي إن وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا."

نحن الحقُّ وأهله، نحن الصبر والوعي، نحن أهل المقاومة المنتصرة المؤزَّرة، مقاومة التحرُّر الوطنيِّ، مقاومة الثأر للشهداء بالنصر على الهيمنة والاستعمار. ولن نقبل بأقلِّ من النصر المؤزَّر ثأرًا لدماء سيدنا القائد.

(بقلم أحد الشرفاء)

تعليقات: