القروض الشخصية وتعزيز النمط الاستهلاكي للمجتمعات

الأستاذ سليم سعيد مهنا
الأستاذ سليم سعيد مهنا


ظاهرة المجتمع الاستهلاكي ليست بالجديدة لدى معظم شعوب العالم وبالأخص شعوب الدول النامية، هذه الظاهرة التي تنامت مع زيادة إنتاج السلع والخدمات الاستهلاكية وتقدم وسائل الدعاية والإعلان وزيادة سطوة الإعلانات التجارية، ومع تطور التسويق وانتقاله من العمل على تلبية الحاجات بما هو متاح من منتجات، إلى محاولة اكتشاف الحاجات والرغبات وخلقها وتلبيتها بمجموعة من المنتجات والخدمات الجديدة والمبتكرة، لتصبح مع الوقت ضروريات لا يمكن الاستغناء عنها.

هذا النمط من العادات الاستهلاكية أدى إلى تطور أساليب البيع بالتقسيط وتنوعها، وإلى ابتكار أنواع جديدة من التسهيلات التجارية كان للمصارف المجال الأكبر فيها، سواء عبر قيامها بمنح القروض الشخصية المباشرة لعملائها، أو عبر تمويل شراء السلع والخدمات الاستهلاكية وجدولتها لآجال طويلة.

إن توفر السيولة العالية وعدم تمكن المصارف من استخدام فوائضها النقدية في تمويل الشركات Corporate banking تجنباً لما يعرف بالتركيز الائتماني Concentrated credit exposure ، أي تركيز التمويل على الشركات الكبيرة وتحمُّل أخطار عالية، وأيضاً رغبة المصارف في توزيع الأخطار على شريحة واسعة من العملاء فيما يعرف بالأعمال المصرفية بالتجزئة banking Retail ، هي من أسباب فورة القروض الشخصية المصرفية التي بلغت مبلغاً كان من الصعب لأحد توقعه، حيث وصلت إلى سقوف مالية مرتفعة وآجال طويلة جداً (25 عاماً في أبو ظبي)، ولأغراض مختلفة لم توفر حتى عمليات التجميل والإنجاب (الخصوبة)، وقد يكون الآتي أكثر خيالاً وأشد دهشة.

ولم يقتصر منح القروض والتسهيلات على المصارف فقط، فقد تعددت وسائل الحصول عليها وبرزت جهات تمويل أخرى لعبت دور الوسيط بين المستهلك والمسَّوق عبر بعض المنظمات غير المصرفية، وأيضاً عبر التسهيلات المباشرة من الشركات والمحلات التجارية، إضافة الى قروض منظمات العمل (سلف الموظفين)، كذلك السلف الخاصة بين الأصدقاء والجمعيات.

هذه التسهيلات الائتمانية توزعت بين قروض استهلاكية وقروض استثمارية، حيث يهدف القرض الاستهلاكي إلى تغطية نفقات لا يمكن رسملتها او استردادها كنفقات الزواج والترفيه والسياحة والسفر...، فيما غاية القرض الاستثماري الحصول على ممتلكات ملموسة وبناء ثروات رأسمالية تحقق لمالكها عائدات من خلال ارتفاع قيمتها او تشغيلها، كتملك العقارات والمعدات او التجهيزات.

الآثار الايجابية والسلبية للقروض

مما تقدم، يبدو جلياً أن الجهات التي تقدم التمويل إنما تلعب دوراً بارزاً في إتاحة الفرصة للأفراد لسد حاجاتهم وبناء ثروات رأسمالية ودعم الاقتصاد الوطني، إلا أن هذا المشهد لا يخلو من عيوب غير مرغوب فيها، ولا بد من الوقوف عندها لما لها من آثار سلبية اقتصادياً واجتماعياً.

بشكل عام تتلخص الآثار الاقتصادية السلبية في أن نسبة كبيرة من القروض الشخصية قد اتجهت بالأفراد نحو شراء منتجات استهلاكية وأصبح مدى أو فرصة شراء أصول رأسمالية ضيقاً، وفي حالات عدة يضطر المستهلكون أو المقترضون فيها إلى تسييل أملاك وأصول موروثة بغرض الوفاء بالتزاماتهم تجاه مقرضيهم من المصارف أو من الآخرين، كما أن بعض الحالات تظهر أن صافي الدخل الشهري لبعض الأفراد المدينين قد لا يتجاوز المائة دولار شهرياً بعد اقتطاع التزاماته تجاه دائنيه، وهو ما يفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية القائمة أصلاً ويؤدي لاحقاً إلى ركود في الأسواق بسبب انخفاض القدرة الشرائية لهذه الشريحة الواسعة من المقترضين، كما تظهر الآثار الاقتصادية السلبية في زيادة استيراد المواد الاستهلاكية من الخارج وزيادة الضغوط على ميزان المدفوعات.

أما الآثار الاجتماعية السلبية فهي تكمن في تعميم ثقافة الاستهلاك إلى درجة تمس بالأمن الاجتماعي وتهدد بزعزعة أمن واستقرار كثير من الأسر نتيجة النمط الاستهلاكي الذي أصبح يتجاوز الامكانيات المادية لمعظمهم، وتوسعهم في الاعتماد على القروض والسلف التي قضت أو أشبعت حاجات آنية لهم، كما يمكن لهذا الوضع أن يزداد تأزماً وأن يؤدي إلى أزمات معيشية أكبر وإلى تعثر كثير من هؤلاء المقترضين، في حال ارتفاع أسعار المواد التموينية وغيرها من المواد الأساسية عند وقوع كوارث طبيعية او اضطرابات عالمية، أو في حالة انخفاض سعر صرف العملة الوطنية.

لقد بينت الدراسات زيادة نسبة المقترضين حول العالم (نسبة 85% من المقيمين في دبي مدينون للمصارف) وهذا يدل على عدم كفاية الدخل الفردي في كثير من الأحيان ورغبة المقترض في سد احتياجاته المادية بسرعة، كما يدل على تغير أنماط الحياة لدى معظم شعوب العالم وإلى تراجع فكرة التوفير الشخصي التي ظلت حتى الثمانينيات من القرن الماضي هي الأساس في تمويل المشاريع الشخصية للأفراد.

ما الحل؟

هذا النمط من الاقتراض الاستهلاكي المتنامي، قد لا تتوقف آثاره السلبية عند حدود معروفة يمكن ضبط نتائجها والتحكم بها، لذا فإنه من الضروري البدء بخطوات وقائية وإصلاحية تحد من انعكاساته الاجتماعية والاقتصادية وتمنع تفاقمها، وربما يكون للمصارف القدرة الأكبر على ضبطها ومعالجتها ومحاولة السيطرة عليها، بدأً بالتركيز على الإقراض الرأسمالي لتحسين ظروف الأفراد في المستقبل، ووجوب عدم التراخي في شروط منح القروض للأفراد والتوقف ملياً عند دراسة وضع المقترض المستقبلي وليس الحالي فقط، والأخذ بالحسبان الخلل بين قيمة ارتفاع كلفة المعيشة وراتب المقترض خلال فترة التسديد، وعدم الوقوع في فخ التنافس بهدف زيادة الحصة السوقية.

أما على صعيد الدولة والمؤسسات الأهلية، فيتوجب إصدار تشريعات مصرفية تسمح للمصارف بتنويع استثماراتها في منافذ استثمارية إنتاجية مدروسة، للحد من أثر المبالغة في استخدام السيولة الزائدة في القروض الاستهلاكية للأفراد، وبناء حملات ترويجية موجهة للمستهلكين تزيد من ثقافتهم حول الموضوع، كما ينبغي تفعيل دور جمعيات حماية المستهلك في توعية المواطنين لأفضل طرائق الاقتراض وأنواعها، وتوجيههم نحو القروض التي تزيد من إنتاجيتهم وليس استهلاكهم.

سليم سعيد مهنا

* مدير فرع بنك الموارد - حاصبيا

باحث مصرفي ومؤلف كتاب "العمل المصرفي واستراتيجية التسويق" - مكتبة أنطوان 2009

عضو مؤسس وأحد خبراء "مركز الدراسات الاستشارية" www.csc-studies.com

تعليقات: