عيناتا الجنوبية مسقط المرجع فضل الله تتمسك بفاجعتها وكبريائها

بلدة عيناتا
بلدة عيناتا


مقاومتها الأتراك والغزاة وتاريخها العلمائي من أبرز سماتها

يفخر أبناء بلدة عيناتا الجنوبية بأن بلدتهم الصغيرة أنجبت عدداً من رجال الدين والفقهاء ولا تزال منبعاً لهؤلاء، عدا عن ان القرية الوادعة استحقت عن جدارة أن تكون حاضرة جبل عامل، وهي مسقط عائلة فضل الله وفقيدها العلامة المرجع محمد حسين فضل الله.

لا تزال اللافتات السود تكلل مئذنة مسجد بلدة عيناتا (بنت جبيل) حداداً على عالِمها وفقيهها المرجع السيد محمد حسين فضل الله. وابناء البلدة والجوار لا يصدقون ان السيد قد رحل عن هذه الدنيا، ولن يعود الى بلدة تميزت بمدرستها الدينية التي تتلمذ فيها عدد من رجال الدين، من عيناتا وجاراتها، على يد اساتذتها من عائلة فضل الله. وهؤلاء هم من السادة، فيما يعدّ الفلاحون من العامة، علماً ان هؤلاء، وفق ما يذكر المؤرخون، كانوا يهبون اراضيهم الى علماء الدين عوض خسارتها ودفع مبالغ تفوق انتاجها لضريبة "الويركو" التركية لأن العلماء كانوا معفيين من الضرائب والتجنيد الاجباري.

السادة: انسباء النبي

تصف الباحثة خديجة علي أيوب بلدة عيناتا بأنها "موغلة في القدم ويرجع تاريخها الى الألف الثاني قبل الميلاد وحكمها الهكسوس والفراعنة والرومان، وصولاً الى الفتح الاسلامي والانتداب الفرنسي، وفق ما تذكر في كتابها "تاريخ عيناتا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي 1920 - 1978". وتعتبر ان البلدة شكلت منذ أواسط القرن السادس عشر المقر الاساسي لأسر العلماء ورجال الدين من عائلة فضل الله حتى يومنا هذا، وحظي أفرادها بمكانة اجتماعية وعلمية مهمة داخل المجتمع العيناتي وخارجه، وهم يلقبون بـ"السيّاد" أو السادة. ولقب السيد يعطى عند المسلمين لمن يرقى نسبه الى النبي محمد (صلعم) عبر أحد الأئمة الاثني عشر (ع) وهو يلحق بالمتعلم والأمي على السواء، كما يلحق بالمرأة فيقال لها "الشريفة" وهو يغلب على لقب الشيخ والحاج، وأفراد عائلة فضل الله يعتمرون العمامة الخضراء أو السوداء لتمييزهم عن الشيخ الذي يرتدي عمامة بيضاء.

وتميزت عائلة فضل الله، اضافة الى ارثها الديني والعلماني، بانها من العائلات المحافظة على تماسكها وتكاثرها، بزواج القربى في الدرجة الاولى والزواج الخارجي مع أسر الاعيان والزعماء والعلماء في جبل عامل مثل عوائل مغنية، شمس الدين، شرارة، بزي... الخ. وهذا الامر بدا جلياً في بلدة عيناتا وفق المعمر السيد نجيب ابرهيم (103 أعوام) حيث أقامت عائلة فضل الله في حارة واحدة قرب المسجد القديم، ولم تكن هناك حالات زواج تجمع عائلة فضل الله وعائلات أخرى في بادئ الامر و"أذكر ان أحد علماء فضل الله رفض تزويج ابنته لأحد أبناء بلدة الخيام، ولكن بعد سنوات عدل عن رأيه وكان مهر الفتاة صاعاً (يستعمل لكيل الحبوب) مملوءاً بالذهب".

مدارس عيناتا: أساتذة وفقهاء

عرفت المدارس الدينية طريقها الى عيناتا وعرفت تطورها مع عائلة فضل الله والشيخ موسى مغنية، علماً ان النجف كان (ولا يزال) قبلة الطامحين الى تعلم الفقه والتمرّس في الامور الدينية. وأسس السيد نجيب فضل الله مدرسة عيناتا بمشاركة الشيخ مغنية في العام 1897 وفق ما يذكر حفيد الاخير يوسف نظام الدين فضل الله في كتابه "منارة الفقهاء - الشيخ موسى مغنية". وتعتبر عيناتا من الحواضر العلمية التاريخية في جبل عامل وموطناً لفقهاء كثر ومركزاً ثقافياً مشهوراً، وأقام فيها علماء من عائلة خاتون الذين بنوا مسجدها القديم. وفي بدايات القرن العاشر الهجري وصل الشريف حسن جد عائلة فضل الله، والاخيرة جددت النشاط الادبي والثقافي والتعليمي في عيناتا. وحفل تاريخ البلدة العريق بعدد من علماء الدين الذين ساهموا في نشر التعاليم الدينية عبر المدارس العلمية، ولا يزال أهالي البلدة يذكرون تميز السيدة جميلة طالب فضل الله في تدريس معظم أبناء البلدة مطلع القرن الفائت وينوه ابرهيم بمزايا السيدة. ومن جهة ثانية يذكر ان مدرسة عيناتا القديمة كانت تضم 5 غرف وسقفها من الخشب ولا تزال اطلالها واضحة حتى يومنا هذا. ومن أبرز تلامذتها السادة محسن الامين ومحمد سعيد فضل الله وعبد الرؤوف فضل الله وعبد اللطيف فضل الله.

أما المرجع الراحل السيد محمد حسين فولد في النجف وتلقى دروسه هناك بعدما تتلمذ على والده السيد عبد الرؤوف، وكان تلميذاً لكبار المراجع والعلماء في النجف امثال المرجع الراحل السيد أبو القاسم الخوئي.

مقاومة من عهد الاتراك

ينقل بعض المعمرين في عيناتا ان الاتراك زحفوا الى البلدة في العام 1916 لالقاء القبض على أحد المطلوبين السيد جواد فضل الله الذي أعدموه في وسط بلدة بنت جبيل. وفي العام 1920 أثر تداعيات حوادث ذلك العام وغداة انعقاد مؤتمر الحجير، فجعت عائلة فضل الله وبلدة عيناتا بمقتل اثنين من أبنائها هما السيدان محمد حسين وعبد المنعم، فيما نجا ثالث من العائلة وفق ما يذكر الزميل حسين أيوب في بحثه عن بلدته عيناتا.

لم تعرف عيناتا المساكنة مع الاحتلال، فكانت متمردة على المحتلين ولم توفر الاقطاع والاقطاعيين، وفق المعمر السيد ابرهيم ان خلافاً نشب بين أحد الفلاحين ورجال الراحل كامل الاسعد (جدّ الرئيس الراحل كامل الاسعد) وشكا هذا الفلاح أمره الى السيد نجيب فضل الله والد السيد عبد الرؤوف وجدّ العلامة المرجع السيد محمد حسين ووجه السيد رسالته الشهيرة الى الاسعد وفيها:

"(...) الى فرعون البلاد وجرثومة الفساد، لأهدمنّ مجدك ولأقوضنّ عزك وان لم تنته عن غيّك لنهيناك". ولعبت عائلة فضل الله دوراً مميزاً في مواجهة التطبيع مع اليهود قبل النكبة، وأصدر عدد من علمائها فتاوى تحرّم بيع الاراضي لليهود، على خلاف توجه بعض الاقطاعيين في تلك الحقبة.

ولم تكن مقاومة الاتراك والفرنسيين حكراً على عائلة فضل الله، وتشهد انتفاضة العام 1936 على شجاعة شباب عيناتا في رفض الاستغلال عندما انتفضوا ضد الشركة الفرنسية المحتكرة للتبغ عامذاك مطالبين برفع اسعار التبغ المحلي. وخلال المواجهات مع القوات الفرنسية سقط كل من محمد الجمال وعقيل الدعبول من عيناتا، اضافة الى مصطفى العشي من بنت جبيل، وفق ما يذكر أحد المشاركين في تلك الانتفاضة المناضل العتيق ابرهيم نعيم بري، ورثى السيد صدر الدين فضل الله الشهيدين دعبول والجمال بأبيات شعر قال فيها:

ان الشجاعة والبسالة ضمنا

جدتا يضم محمداً وعقيلا

نذر نعما وجدا وقد حمى القضا

غير الشهادة للحياة سبيلا

***

لا يتوقف تاريخ عيناتا عند العام 1936 لأن حراك ابنائها في تمايز دائم، وكذلك مقاوميها الذين جسدوا الوفاء للوطن والدفاع عن حدوده في محطات عدة، كان آخرها عدوان تموز 2006 وسقوط 14 شهيداً من خيرة شباب عيناتا، وهم ممسكون بنادق وبيارق العزة... والنصر.

تعليقات: