عـن هـادي وأحبائـه الذيـن رحلـوا ذات مجـزرة وقعـت قبـل عـام

هادي الأول الى اليمين (صورة خاصة بمؤسسة الامام الهادي)
هادي الأول الى اليمين (صورة خاصة بمؤسسة الامام الهادي)


كانت الساعة حوالى الثانية عشرة والنصف. أو قبلها بساعة... لا يعرف محمود فعلا.

ساعة ضائعة بين الحياة وبين الغياب عنها.. الوقت بحد ذاته لا يعني شيئا. ما يعنيه فعلا، هو توقف عقارب ساعة حزينة في يوم حزين عند مجزرة.

خمسة شهداء وخمسة عشر جريحا من آل زيات في البرج الشمالي في صور. هو اليوم الرابع للحرب، 16 تموز .2006

عاش الوالد محمود زيات الأيام الأولى من الحرب مع العائلة. بعد المجزرة عاش الشهداء سلامهم الداخلي وبقي هو والجرحى في حربهم الخاصة.

سقف واحد جمع عشرين فردا من العائلة في ذلك اليوم.

لحظة واحدة خطفت خمسة منهم: والدة محمود رقية هاشم عواضة (70 عاما)، شقيقته حنان رامز زيات (46 عاما)، ابنة شقيقته (نهى) ريهام ماجد عطوي (10 سنوات)، زوجته حنان علي زيات (33 عاما) وابنه هادي (14 عاما).

بين حالات الجرحى الخمسة عشر الأكثر خطورة، شقيقته نهى التي عانت من غيبوبة لأشهر طويلة وفقدان ذاكرة وأصيبت بجروح بالغة ونقلت للعلاج في ايطاليا، من دون أن تعرف شيئا عن مصير ابنتها أو أي من أفراد العائلة، حتى بعد انتهاء العلاج وعودتها إلى لبنان في السادس من تموز الحالي.

كان محمود وأفراد العائلة يعيشون هاجس اللحظة الأولى للقائها. يبتكرون وسائل «مبسطة» لابلاغها بمجزرة وقعت قبل سنة. لا يمكن الكلام مع نهى بعد وصولها.. «كيف نقول لها انهم ليسوا هنا؟ انهم لم يعودوا بيننا؟».

تلك المجزرة

قبل عام، لما وقعت المجزرة، أصيب محمود بنزيف في الدماغ وبتقطع في الأعصاب وبكسور. هو اليوم يتحدث عن الشهيدات، ويترك ابنه هادي لحديث آخر طويل.

يتحدث عن ريهام الطفلة الشهيدة، الطالبة المتفوقة التي كانت تحرز 97 في المئة في المعدل العام في دراستها، وعن الزوجة حنان التي رفعت اصبعها وكررت الشهادة قبل يوم من المجزرة. قبل هذا اليوم كان المنزل يكتظ بعائلات نازحة، وبسبب القصف العنيف الذي طال المصانع القريبة رحلوا.

أما هادي...

«هادي ابني المصاب بصمم عميق، علمني الكثير، أكثر مما علمته.. في مجتمع ظالم ينادونه يا أخرس.. وأنا بأب الاخرس عرفت ان هادي رباني اكثر ما ربيته». يقول محمود.

انتقل الإبن في الخامسة من عمره الى «بيت» جديد غير بيت العائلة، الى السكن الداخلي في «مؤسسة الإمام الهادي للإعاقة السميعة والبصرية». «لما بلغ العاشرة قال إنه يريد ان يحارب العدو». قال إنه يريد ان «يقوصه». رسمه في على اوراق بيضاء، مع تفاصيل كثيرة. كل ما كبر سنة زاد رسمه تفصيلا.

رسم السلاح والدبابة والبيوت المحاصرة ورسم مقامون يقتحمون المواقع العسكرية. تحولت رسومه الى مشاهد مترابطة تروي قصة منسوجة. نالت اعجاب زائري معارض المؤسسة فبيعت كلها.

لم يكن الرسم هو الهدف، ولم يمل من تكرار ذلك، «المقاومة» هي ما يريد. قال ذلك بلغة الإشارات وكرره بلغة الجسد في مسرحيات أدى أدواراها الرئيسية. لم يرفض الوالد رفضا قاطعا «لا أقوى على رفض طلب له، حتى هذا.. فهادي كان هدفي في الحياة وسعادته كانت تحديّ الدائم».

كان الجواب «عندما تكبر». كررها الوالد دائما، ثم حدد له «الكبر» بعمر الخامسة عشرة، بعد حصوله على شهادة البريفيه، ووعده أن يسمح له بالتدرب مع المقاومة الصيفية المقبلة (هذه السنة)، إذا لم يعارضوا إعاقته».

تمسك هادي بالوعد، وانصرف الى يوميات رائعة كان يقضيها مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء والأساتذة والأهل.

يقول مدرّسه عبد الله غانم ومدرّسته آمال عواضة أن هادي كان «أكثر التلامذة تميزا، ومرحا، كان هادفا، محبا للآخر، خلاّقا ونشيطا..»،.

خلال تسع سنوات في المؤسسة «استطاع أن يكون التلميذ الذي لا ينسى، وأصبح لقبه الدومينو الداعم لكل نشاط»، تشرح مسؤولة الإعلام فريال بزي. بطاقات علامات هادي تظهره الأول في صفوفه دائما، وتحمل ملاحظات ايجابية من نوع «يتحلى بصفات القائد.. ويتميز بكاريزما وشخصية اجتماعية..».

كان لدى محمود، والد هادي، حلم كان يعمل على تحقيقه: مساعدة هادي على النطق، «الآن لم يعد لدي ما أعمل على تحقيقه معه»، يقول. وكان لدى هادي أحلام كثيرة، لم تحوله اعاقته عن تحقيقها: كرة القدم أبرزها وشكل مع صديقه المقرب محمد عبدالله ثنائيا مميزا. «عندما بدأ هادي باللعب مع فريق المؤسسة في التاسعة كان قميصه أشبه بفستان.. لأنه كان اصغر اللاعبين» يقول غانم.

إصرار هادي جعله يتمـــسك بسؤال وحـــيد كرره لكل لاعب كرة قدم زار المؤسسة: «أتستقبلون الصم في النـادي؟»..

شارك في «مهرجان المسرح المدرسي» وأدى أدوارا عن البيئة والزراعة والجوع والترفيه فكان الفلاح والجائع المتشرد والخيرّ .. تميز بخفته، وببراعته في ألعاب الخفة، «كان يقوم بحركات تضحك الجميع حتى الممثلين الفكاهيين الذي زاروا المؤسسة»، بحسب غانم.

عندما زار «دار العجزة» مع رفاقه، «أطعم هادي العجزة واحدا تلو الآخر.. حدثهم بإشاراتهم ورفه عنهم وقالوا إنه فيه سر غريب، يجعله محبوبا». وقالوا إنه «غير.. كله روح وكله حركة».

كل ذلك قبل ان يحين الموعد، قبل ان يحصل على شهادة البريفيه و.. يحين وقت تنفيذ الوالد للوعد. ولكن.. وقعت الحرب في..؟ في لبنان. وأصبح والده وأخواه محمد (12 عاما) وحســــين (7 أعوام) والعائلة يزورونه وكل الشهداء في المدافن ويحدثونه هو خاصة.. ولكـن بدون لغة الإشارات.

تعليقات: