العروج إلى الذاكرة في \"ملحمة الخيارات الصعبة\"


كنا طلاب طبٍ في العشرينات الأولى من العمر، وقد سبقني لسنوات قليلة إلى "غرينوبل"، قبل أن تجمعنا "تور"، المدينة التاريخية المائجة بعبق التاريخ يفوح من قصورها الخلّابة على ضفّة النهر.

هناك إلتقينا، وشدّتنا، أحدنا إلى الآخر، صداقة ما زالت في وهجها حتى كتابة هذه السطور... كانت الجرأة ما تميّزه، وإستثمار الوقت ما يجيده، من دون أن تكون غواياته على حساب واجباته. كما إستهوته الرياضة، لترويض جسده وعقله، ليس على العنف، ولكن لتحصين الموقف عند الضرورة إلى ذلك فهو يستلّ الفرح من عمق الرتابة. يقود حسناواته ولا ينقاد. أما فلسطين فقد غاصت في هواجسه، وبدا حينئذٍ وكأنه قادم ل"فتح" المدينة، وليس مجرد طالب عادي، ينكب على دراسته، ويطارد الفتيات في أوقات الفراغ... هذه الكلمة الأخيرة لم تكن يوماً بين مفرداته.

مضت الأيام والسنون ولا يزال في وتيرته المستعصية، فمن الصعب تقليده. ولكن من السهل أن تواكبه وتجترح المنجزات معه، وتتخلّق بأسلوبه عندما تلوح المغامرة، لتجد نفسك إلى جانبه قائداً غير آبهٍ بالصعاب والتحديات. هذه ملامح من سير كامل مهنا في "تور". فلم يأت إليها من فراغ ليتّخذ فجأةً دور المحرّك لحوافز الطلاب اللبنانيين، ومنهم من كان يراود عن بعدٍ السياسة، ومنهم من كانت الأخيرة خارج همومه... فقد حمل معه تراثاً تسرّب مبكراً إلى وعيه الطفولي. منذ نكبة فلسطين، يافعاً شاباً أكتنه أبعاد الدور في مراحل الدراسة، حيث كان الطالب المشاكس في صخب حركة القومية العربية التي ظلّت متوقدة فيه، حتى الإنهيار المريع في هزيمة حزيران 1967، تلك التي تركت ندباً في قلبه، ولم يتجاوز محنتها إلا بعد أن لاح له أفق جديد، أخذ به إلى فكرة البؤر الثورية تحت شعار الماركسية، بديلاً للفكر القومي المتراجع... وفلسطين بعد تنتفض في عروقه.

تتكيء على الذاكرة مستعيداً القليل من التفاصيل: إحتلال السفارة اللبنانية في باريس، رداً على مجزرة الطائرة، وكان كامل حينئذٍ رئيساً لأول إتحاد للطلاب اللبنانيين في فرنسا، وكنت نائبه وفي عداد الفصيل الذي "داهم" السفارة. سبقنا إلى التخرّج، ولكنه لم يعد إلى الوطن، فذهب مباشرةً إلى ظفار إحدى البؤر الماركسية في الخليج، واجداً فيها ما يطابق أحلامه الكبيرة. ومن ظفار، إلى الجنوب تحت وابل القاذفات الإسرائيلية، ثم إلى ضواحي البؤس حول العاصمة. تابع المسيرة إلى المحطّة الأكثر خطورة في النبعة، حيث كان صموده الأسطوري. ولم يكن قد إستراح سوى سحابة من ليل، حتى كان يخوض تجربة بين الركام في الدامور، حيث تحول "مخيم" المهجرين الطارئ إلى مجتمع رعاية وتنمية، لينهض به نحو حياة جديدة ليست تحمل من المأساة سوى الذكريات، حتى إذا أنجز المهمة الصعبة عاد إلى جنوبه، فكانت عامل المنبثقة من ترابه، مؤسسةً لكل الوطن، فلا يخبو دورها في حرب أو سلم.

كنت لا أزال عبر ذلك الشريط معه، وإذا غبت وإن طال الوقت لا أحسّ إلا وكأنني تناولت عشاء البارحة معه... فالوفاء ما فطر، والأصدقاء هم القبيلة التي يشتبك معها بقلبه وينافح عنها حتى ولو كان أكثر معاناة ممن يعانون. وفي هذا السياق يحضرني لقاء مع صديقه ريجيس دوبريه، إبّان زيارته إلى الشمال، وقد أوصاني أن أهتمّ به، فبادرني المفكّر الفرنسي قائلاً: أنت نائب رئيس مؤسسة عامل؟ فوجئت بالسؤال، ولم أجد جواباً أكثر إختصاراً من هذا القول: عامل هي كامل مهنا، وهي تستمد رياحين الأمل منه، وليس غيره قادراً على بعث الضوء في هذه المنارة التي يستهدي بها المهمشون والمستضعفون.

لن أتحدث عن الأوشحة التي تلقاها الصديق مهنا، فهو أرفع منها قامةً، ولكن ما أعادني إلى التذكر صدور يومياته، مدونة في "ملحمة الخيارات الصعبة" وهي تروي بتواضع التجربة الفريدة، والتي كان لي شرف الإنخراط فيها. وثمة ما يلفتك على الرغم من مواكبة التجربة ومعها "الأيام" أنك تقرأ "الملحمة" وكأن أشياء منها تفوتك عن كامل مهنا الماركسي، القومي، الفلسطيني، اللبناني، الجنوبي، الظفاري... وعبثاً تحاول الفصل بين هذه التوصيفات، فهذه مجتمعةً كلّها في شخصيته. وإذا جاز لي أن أضيف شيئاً، كصديق منذ نيّف وأربعين عاماً، فهو يمثل حالةً نادرة، في ثباته على مواقفه وإقتناعاته. هذا الضارب عميقاً في الجنوب، مستمداً القوة من طيبة أهله وكفاحهم ضد الإقطاع والجهل والفقر... إنه أشبه بالسنديانة العملاقة المتجذرة في الأرض، ترتعش أوراقها أمام رياح فلسطين، وتبقى أغصانها شامخةً تزهو بآمال الثورة والتغيير.

لقد تبدلت أحوال الدنيا... فإنهارت الشيوعية وإرتمت الإشتراكية في أحضان الرأسمالية، كما تضعضعت الأنظمة العربية، وبعضها إن لم يكن أكثر منه، خرج من تاريخه، متلاشياً حسّ الممانعة فيه. فصارت ترى إيران العدو الخطر وإسرائيل الحليف القريب، ربما في الرحم... وإنقلب الفلسطينيون-أو سلطتهم الهشة- على قضيتهم، لاهثين وراء تسوية تجعلهم في أحسن أحوالها من حواشي الإحتلال الصهيوني... وفي سياق ذلك، لم يعد المناضلون مناضلين، فقد وهنوا أو خضعوا للأمر الواقع، أو مالؤوا "المتساقطين" حسب التعبير "الظفاري". ولم يعد سوى القليل القابض بكلتا يديه على الجمر، وقي مقدّمتهم كامل مهنا، العازل عنه الأضواء والسياسات المبتذلة، وخيّر نفسه، فإختار جبهة الفقراء، "عاملاً بصمت". وكان رائداً بحقٍّ للحركة الإجتماعية في ديناميتها ومشروعها المتجدّد، ونموذجها الراقي على مستوى التضحية ونكران الذات.

إنه كامل مهنا، نسيج وحده لا يشبه إلا نفسه.

تعليقات: