غازي نبعة: راعٍ و«قيدوم» جماهير الأفراح

لم يجد ابو علي في الشبابة المعدنية دفء القصب
لم يجد ابو علي في الشبابة المعدنية دفء القصب


في مزارع شبعا كانت ولادته. تهجّر في سن السابعة، متنقلاً بين عدد من القرى اللبنانية، عمل فيها راعياً وعازفاً. إنه غازي نبعة، الذي عانى التهجير، وخرج منه فناناً معروفاً في لبنان وخارجه. أحيا أول عرس قروي في سن الرابعة عشرة

شبعا ــ

يصعب الوصول إلى منزل غازي نبعة في أعالي بلدة الهبارية، قضاء حاصبيا. فزائر البيت القابع في «آخر الدنيا» يحتاج إلى أكثر من نصف ساعة من السير على القدمين في الزواريب الضيّقة للوصول إليه. لكن، رغم كل هذا البعد، ثمة ما يجعل هذا البيت مقصوداً بقوة، إذ لا تلبث أن تسأل سكان المنطقة عن غازي نبعة، حتى يأتيك الجواب: «آه، قصدك أبو علي، بتضل طالع طلوع». يحفظ أهالي المنطقة طريق منزل أبو علي عن ظهر قلب، لكثرة سؤال الناس عنه. لكن، ما الذي يجعل أبو علي مطلوباً إلى هذا الحد؟ الجواب بكل بساطة: «شبابته» أو المنجيرة بلغة أهل القرى.

لم يولد أبو علي فناناً، لكن عمله في «رعي الماشية» في شبابه دفعه إلى هذا الاتجاه. ويعود أبو علي في ذاكرته إلى عمر السابعة في بلدته شبعا، عندما بدأ يخرج لرعي المواشي، متنقلاً بقطيعه بين التلال والأودية. لم يجد حينها الطفل الصغير سوى «المنجيرة» رفيقاً له. مرة تلو أخرى، بدأ يتعلّم العزف قليلاً، إلى أن وصل إلى إتقان بعض «المقطوعات الموسيقية مثل الميجانا وحتى رباعيات الخيام للسيدة أم كلثوم»، يقول أبو علي. جاء الاحتلال الإسرائيلي وسقطت المزارع في السبعينيات، فانقطع أبو علي عن العزف. فقد بدأت مرحلة جديدة من حياته: مرحلة التهجير من منطقة لبنانية إلى أخرى. خلال تلك الفترة، تنقّل بين مناطق عدّة، كانت آخرها بلدة مرج الزهور. هناك، عاد إلى مهنته في رعي الماشية والعزف أيضاً.

سافر أبو علي إلى الكويت هرباً من التجنيد في «جيش لحد»

أحيا أول عرس شعبي عام 1974 في بلدة مرج الزهور، مقابل أجر قدره عشر ليرات. كان هذا أول مبلغ يتقاضاه أبو علي في مسيرته الفنية، وقد استبدل بتلك الليرات شبابته المصنوعة من القصب بشبابة جديدة من المعدن الأبيض. لكنه لم يلبث أن عاد إلى شبابته القصب، فتلك المعدنية لم تُرضه فنياً «بسبب إيقاعها السمعي المختلف تماماً، فالقصب يصدر صوتاً حنوناً إيقاعه بطيء يتناسب مع الدلعونة والميجانا والدبكة اللبنانية، فيما المعدن سريع الإيقاع؛ لأنه مصقول من الداخل ويخلو من التعاريج التي تعطي ألواناً موسيقية حنونة». أما العرس الثاني، فكان في الكويت حيث تلقّى دعوة لحضور فرح أحد الأصدقاء أثناء وجوده هناك. وبما أن «الشبابة لا تفارقني، فقد قدمت عرضاً موسيقياً من التراث اللبناني أعجب الحاضرين وشد انتباههم لسماع المزيد». لهذا السبب، «تلقيت إكرامية خصصتها لشراء ملابس تليق بالأفراح التي كنت سأحييها».

ذاع صيته وسط أبناء الجالية اللبنانية في الكويت، فأحبه الجميع. وبعد عودته إلى لبنان، أحسّ بأنه وجد طريقه، فبدأ بإحياء الأعراس. هكذا، بدأ يسطع نجمه، وكرّت سبحة الدعوات لإحياء الأعراس في كل المناطق، فبات أبو علي «قيدوم» المناسبات والأفراح، ومن دونه لا يحلو فرح ولا يطيب عرس. وبعد تزايد الطلب عليه، بات على الراغبين «الحجز مسبقاً». أما تسعيرة سهرة العرس فتغيرت. «صارت بالفرنجي، يعني بتبدا من 500 دولار أميركي وما فوق، حسب أوضاع الزبون». لكنها قد تكون أقل من هذا بكثير لمن تربطه به علاقات صداقة. ويوضح أبو علي أن زبائنه من مختلف شرائح المجتمع «منهم الغني والفقير ومتوسط الحال، لكن على كل الأحوال برضي الجميع وبلبي طلباتهم». يتميز أبو علي بموسيقاه، فالكل يعرف صوت شبابته «الحنونة، فأنا أعتمد نمطاً مميزاً من الألحان».

توسّع النشاط الفني لأبو علي، فصبيحة كل ثلاثاء من كل أسبوع، يحضر إلى سوق الخان الشعبي، مرتدياً بذلة رسمية وكرافات بخلاف جميع زبائن السوق. أما المنجيرة فهي غب الطلب، «مشكولة» في وسطه عند خاصرته اليسرى، يتناولها ليقدّم وصلة موسيقية تطرب زبائن السوق، فيبقى فيه حتى ساعات المساء، ليعود بعدها إلى منزله بالغلة التي يجمعها. وعن عمله الفني، يشير أبو علي إلى أنه «محصور في معظمه بساعات الليل وفي فصل الصيف تحديداً».

رغم «نجاحه الفني»، كما يقول، إلا أنه لم يتخلَّ عن قطيع الماشية الذي يملكه. وفي هذا الإطار، يقول أبو علي إنه يعتمد على مصدرين أساسيين في حياته: رعي الماشية وإحياء الحفلات الفنية في الأعراس. وفي الشق الأول، يقول أبو علي إنه «500 رأس ماعز، هم تحويشة العمر والمرتكز الأساسي في عيش عائلتي التي تعتمد على مدخول بيع الحليب». ويقدّر أبو علي الإنتاج اليومي من الحليب «بنحو 200 كيلوغرام، أي ما يعادل 300 ألف ليرة، يضاف إليها مردود بيع بعض المواشي». أما المصدر الثاني، أي الحفلات الفنية، فيشير أبو علي إلى أنها «أعمال موسمية ودخلها متقطع، لكنها تأتي لنا بمردود مادي يراوح بين 15 و20 ألف دولار سنوياً، وخصوصاً الحفلات الخارجية». كل هذه المداخيل والأسفار الخليجية والإقامة في الفنادق الفخمة لم تغيّر شيئاً في شخصية أبو علي أو حتى عاداته، فهو «ابن مزارع بلدة شبعا وأعتزّ بأنني راعٍ لقطيع ماعز يطعم عائلة من 20 فرداً». هكذا يصف نفسه.

هكذا، هي حياة أبو علي الفنية، لكن ماذا عن حياته الشخصيّة؟ حياة ذلك الرجل حافلة بالتهجير؛ إذ تنقّل بين مناطق كثيرة ودولة الكويت، وتزوّج خلال تلك الفترة باثنتين، قبل أن يعود بعد تحرير الجنوب عام 2000 إلى بلدته شبعا، ليستقر مع عائلته المكونة من 16 شاباً وفتاة.

سافر أبو علي في سن الخامسة عشرة إلى الكويت، هرباً من الحرب والتجنيد في «جيش لحد». كان ذلك في عام 1975، لكنه ما لبث أن عاد إلى لبنان في عام 1981 للاستقرار فيه والزواج. تزوج وفاء نبعة (16 عاماً) التي أنجبت له خمسة صبيان وأربع بنات. أما الزواج الثاني، فكان عام 1992 بابنة عمه نبيلة نبعة (17 عاماً)، وقد أنجبت له أربع بنات وثلاثة صبيان. وعن زواجه الثاني، يقول: «نصيب، وأكثر من ذلك، زوجتي الأولى كانت موافقة والأمور المادية ميسرة والحمد لله». هنا، تقول زوجته الأولى وفاء إن حبها له دفعها للموافقة على زواجه من ابنة عمه، وهي التي طلبت يدها وأعدّت العدة والتجهيزات لعرس لا مثيل له. وتبرر موافقتها بالقول إن «زوجي كان يرغب بابنة عمه للحفاظ على سترتها وكرامتها». تؤيد الزوجة الثانية ما تقوله وفاء، وتضيف أن «أبو علي منصف وعادل وقادر على تلبية كل المتطلبات. كذلك فإنني أساعده في تحضير اللبن واللبنة والجبن وأتقاسم عمل البيت مع وفاء، ونذهب معاً إلى الأسواق لشراء الملابس والحاجات للأطفال».

أعراس زمان

يتذكر أبو علي حفلاته الفنية الأولى، فيشير إلى أن الأعراس في القرى في أوائل السبعينيات، كانت تدوم سبعة أيام «3 قبل العرس ونهار العرس و3 بعد العرس». وخلال تلك الأيام التي كانت تقام فيها الحفلات مجاناً، «كان لدينا عدد من الطقوس، منها تقديم رؤوس الماشية هدايا للعروسين أو ذبحها أمامهما، على أن تقدم للحضور على شكل مناسف».

تعليقات: