الخائفون من النصر .. الخائفون على الوحدة!

هو عام واحد فقط مضى على الحرب الإسرائيلية على لبنان، لكنه كان حافلاً بالتطورات الخطيرة بما جعلنا نخاف من «نصرنا»، ونهرّبه بعيداً عن الأنظار، ونمتنع عن الاحتفال به حتى لا تكون فتنة!

هو عام واحد فقط، لكنه كان مثقلاً بالتبدلات والتقلبات في المواقف والمواقع، محلياً وعربياً... وفي إسرائيل بطبيعة الحال، وإن لأسباب مختلفة إلى حد التناقض مع ما جرى لنا وعندنا!

هو عام واحد فقط، لكنه كان ثقيلاً بالفواجع الإنسانية التي ملأت وجداننا بمواكب الشهداء، ومجازر الأطفال والنساء والفتية، شيوخاً وعجائز صبروا وصابروا ورفضوا مغادرة بيوتهم المهدمة، وبالخسائر في العمران التي تعاظمت فامتدت من الجنوب إلى البقاع والشمال وبعض الجبل فضلاً عن ضاحية بيروت النوّارة في جنوبها.

هو عام واحد فقط، لكن لبنان المنتصر في تلك الحرب الإسرائيلية يكاد ينكر نصره أو يتنكّر له حتى لا يؤاخذ به ويحاسَب عليه أكثر ممّا حوسب، وحتى لا يشتد عليه حصار «الأنظمة العربية» التي أخرجت إسرائيل من خانة العدو، وصار «السلام» معها، ولو بشروطها، المطلب على مستوى «القمة»... وهي «القمة» التي غُيِّبت عنها الحرب الإسرائيلية تماماً حتى لا يصدر عنها ما يشهد للبنان بنصره ويشهد على إسرائيل بهزيمتها.

هو عام واحد فقط، لكننا نحاول تخفيف زهو النصر بالحزن على ما خسرنا من وحدتنا التي لا نعرف كيف نستعيدها. ولأن عدونا كان أرحم بنصرنا منا فقد توجّه إليه الخائفون من النصر باللوم لأنه اعترف بما لا يريدون الاعتراف به... ذلك أن هذا العدو قد أحرج معظم العرب بانكشاف عجزه، فحاولوا التستر على الفضائح التي كشفها ـ بشجاعة المهزوم ـ عن نقص استعداداته، هو الجاهز أبداً، القادر دائماً... حتى سلَّم «العرب» بتفوّقه الكاسح وارتاحوا إلى هزيمتهم الدائمة، فجنحوا إلى «صلح» لم يطلبه ولا يريده إلا بسيفه!

كان «العرب» قد ناموا هانئين في نظرية آخر الحروب (1973)، وأن ليس بعدها إلا «الشرق الأوسط الجديد» الذي يجمعهم مع «شريكهم» الجديد، الإسرائيلي، تحت القيادة (والرعاية) الأميركية.

هو عام واحد مضى... ومنذ عام وأنظمة العرب تتحايل لطمس النصر أو اغتياله، ولو بحروب الداخل اللبناني..

هو عام واحد مضى.. لكن إسرائيل المنقسمة على ذاتها، قد واجهت هزيمتها موحّدة، سياسياً، برغم الاختلاف بين أحزابها التي تتوالد من ذاتها يساراً ويميناً، بجيشها الذي عليه تقوم «الدولة»، وأهل السياسة الذين احترفوا اللعب بالسكاكين: سقط رئيس الدولة بتهم التحرش الجنسي، وسقط رئيس الأركان بجرم الفشل، وسقط وزير الدفاع الذي جاء إلى العسكر هاوياً وخرج منه موصوماً بالغباء.

هو عام واحد مضى... لكن لبنان الذي قاتل وحده كان الكل: لم يكن طائفة أو مذهباً أو جهة، أو فريقاً. لم يكن طرفاً في خلاف، ولم يكن العدو عنده إلا العدو. كان الكل، بشعبه وجيشه المعمّد بالدم، وجماهير أمته جميعاً. كان وحده لكنه كان الأمة جميعاً.

هو عام واحد مضى... لكن الإدارة الأميركية التي أدارت الحرب فحشدت لمواجهة «المقاومة» داخل لبنان، وفي المحيط العربي، و«أمرت» القيادة الإسرائيلية بإطالة أمد المعارك، وعوّضتها النقص في الذخيرة بإمدادها ـ جواً وعبر مطارات بريطانيا ـ بالقنابل الذكية، قد حاولت فنجحت في أن تنقل الحرب إلى «الداخل العربي» ومن ثم إلى «الداخل اللبناني»، فإذا الحلفاء خصوم، وإذا الشركاء يتباعدون ويتقاطعون بل ويتبادلون الكراهية والاتهامات الفاحشة... وإذا الحوار معطّل، وإذا نقض الاتفاق حول ما كان متفقاً عليه (والمحكمة تحديداً) يعطل المجلس النيابي، ويبقي الحكومة بتراء، ويجعل «الخارج» هو الأقوى في «الداخل» الذي انقسم جبهات متواجهة، وإذا اللبنانيون يخافون على يومهم وغدهم أكثر مما خافوا على امتداد أيام المجازر والقصف التدميري وغارات الطائرات التي طاردت باعة الخبز وعمال الكهرباء والهاربين بأطفالهم والعمال الزراعيين عند أقصى الحدود اللبنانية ـ السورية شرقاً.

هو عام واحد مضى... وإسرائيل تستعد لحرب جديدة، قد تستهدف لبنان تحت عنوان مقاومته، وقد تتمدد لتشمل سوريا انطلاقاً من جولانها المحتل، وعبر «الخاصرة الرخوة» في البقاع.

هو عام واحد فقط... وها هو لبنان غير الذي كان، وغير الذي كان الأمل أن يجعله النصر أقوى، بأهله الذين توحّدوا وتضامنوا فحموا ظهر مجاهديه وهم يصدون آلة الحرب الإسرائيلية ويلحقون بها أضراراً غير مسبوقة، ويردون على الغارات بصواريخهم التي طالت لأول مرة عمق «الدولة» في الأرض الفلسطينية المحتلة..

هو عام واحد فقط... وقد رمّمت إسرائيل خلاله مفخرتها الميركافا التي أحرقها المجاهدون في سهل الخيام كما في وادي الحجير، وفي مارون الراس كما في بنت جبيل وفي عيتا الشعب وعيناثا وعيثرون إلخ... وأعادت تصحيح الأخطاء في «بنك الأهداف» بعد تسعة آلاف غارة شنها طيران العدو، وتركت في أرضنا ما يجعل من المستحيل معه أن ننساها: مليون ومئتي ألف قنبلة عنقودية.

[ [ [

هو عام واحد فقط مضى على الحرب الإسرائيلية على الوطن،

بجميع أرضه، وأهله بطوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم واتجاهاتهم جميعاً... لكن «الوحدة» مفتقدة اليوم، بين أهله، كما لم تُفتقد في أي يوم.

وما زالت «الدول»، بالقيادة الأميركية، تمنع توافق أهله على مقوّمات حياتهم جميعاً، في يومهم وغدهم...

أما القيادات الرسمية العربية فمشغولة بإقناع إسرائيل بمحاورتها لمسالمتها... ولو كان الثمن فلسطين التي تكاد تضيّعها صراعات أهلها على الجنة، بينما هم في النار، ولبنان الذي يمكن الآن رمي الحجة على أهله الذين يعجزون عن التفاهم، مباشرة في ما بينهم، ويرفضون المبادرة العربية، في حين يقبلون الدعوة الفرنسية لترف الحوار حول أمور لن يتفقوا عليها في باريس، وهي هي التي تجعلهم في مواجهة بعضهم البعض في بيروت وعبرها في العواصم القريبة والبعيدة.

لا لبنان هو لبنان، بعد عام من الحرب التي خسرتها إسرائيل، بالتأكيد، وإن لم يتمكّن من الانتصار المطلق فيها، وهو لا يقدر عليه.

ولا العرب هم ـ بدولهم المختلفة، المفترقة، المستسلمة ـ قادرون على حمل عبء هذا النصر اللبناني الباهظة أكلافه عليهم.

ولا إسرائيل هي القوة التي لا تقهر، التي كانت، والتي تهاوت صورتها الجبارة، أمام فتية آمنوا بربهم، وآمنوا بحقهم في أرضهم، وجاهدوا واستشهدوا حتى انتصر بهم وطنهم، ثم خاف منهم أقطاب اللعبة السياسية فاندفعوا بعيداً حتى صاروا في مواجهتهم، وكادوا يقاتلون أطيافهم فيقتلونها ـ مرة أخرى ـ حتى لا يؤخذوا باعترافهم بهذا النصر المخضّب، فتذهب منهم المناصب والمكاسب، في الحال والاستقبال.

ولبـــنان ما بعد هذه الحرب لن يكون لبنان الذي كان: وها نحن نشهد تحوّلاته التي كادت تخيفنا أكثر من الحرب الإسرائيلية.

تعليقات: