الخرس الزوجي


تضاف إلى قائمة المشاكل التي تعتري الحياة الزوجية وتهدد كيانها بالإنهيار ظاهرة مرضية أطلق عليها علماء الإجتماع وأخصائيو الصحة النفسية إسم مرض الخرس الزوجي أو الطلاق النفسي..

وتتلخص هذه الظاهرة بغياب لغة التخاطب والحوار في البيت الزوجي، بحيث يسود الصمت بين الزوجين، وتنتفي بينهما لغة التواصل، ليتخذ كل منهما حيزاً خاصاً به يحتجب من خلاله عن الآخر ما يجعل الحياة الزوجية أكثر تعقيداً، والهوّة بين الطرفين أكثر اتساعا، وبذلك يتجه الكيان الزوجي الى السقوط، وينتهي الى التفكّك والزوال.

ولا بدَّ من البحث في الأسباب الكامنة وراء نشوء هذه الظاهرة التي يكون سببها أحد الطرفين، وربما يكون الطرفان معا سبباً في تكوّنها، ونتيجة للفحص والمراقبة تبيّن أنَّ هناك عوامل عديدة لتولّد الخرس الزوجي نذكر منها:

ـ أولاً : تراكم المشكلات الزوجية الناتجة عن التباين في وجهات النظر بين الشريكين، وغياب اللغة المشتركة والأسلوب الموّحد في حلِّ الإختلافات، ما يؤدي الى نفور متبادل ورغبة في الإنطواء على الذات.

ـ ثانيا : الملل والرتابة التي تسيطر على بيت الزوجية نتيجة لعدم التجدّد وبثَّ روح التغيير في نمط السلوك بين الزوج والزوجة، بحيث تتحول الحياة بينهما الى تكرار مملّ يبعث على اليأس والجمود وبالتالي يؤدي إلى اعتماد الصمت وعدم الرغبة في الكلام.

ثالثا : الإختلاف في الميول والرغبات بين الزوجين يعتبر سبباً رئيسياً لظاهرة الخرس الزوجي، إذ لا يجد كلّ منهما في الأخر مستمعاً وشريكاً فيما يحبّ ويرغب الحديث عنه أو مناقشته، وعندها يضطر للّجوء الى من يشاركه اهتماماته وميوله من أصدقاء و معارف خارج حدود البيت، بينما يلتزم الصمت في دائرة الكيان الزوجي.

رابعا : التفاوت في المستوى الفكري والثقافي لكلا الزوجين يشكل عنصراً إضافيا لتولّد الخرس الزوجي، وهو أمر في غاية الأهمية، ينبغي التنبّه له عند اختيار الشريك والإلتفات إلى القواسم المشتركة التي تؤسس إهتماماً مشتركاً وميولاً مطابقة، ولغةً موحدةً تضفي على الحياة الزوجية جواً من اللّحمة، وتجعل التواصل بينهما متوقّداً وحياً باستمرار.

خامسا :الحيز الكبير الذي احتلته التكنولوجيا الحديثة والتي أصبحت متنفساً وملجأ يساهم في عزلة الطرفين، ويدفعهما للركون إليها باعتبارها وسيلة مستساغة لعدم الدخول في متاهات الجدل والمناقشة وبالتالي فهي تؤدي إلى تثبيت التباينات وربما إلى تفاقمها وتحولها إلى تراكمات مستعصية يصعب أو يستحيل تجاوزها. وهذا ما نشاهده اليوم من مظاهر الإدمان على الفضائيات أو برامج المحادثة عبر الإنترنت التي تصبغ الحياة الزوجية بلون باهت لا حياة ولا حراك فيه.

سادساً : الإفتقار إلى مهارات التواصل وانعدام الثقافة الزوجية التي تمكّن الزوجين من تفهّم التباين بينهما بأسلوب علمي، العناد والتمحور حول الذات أثناء معالجة الإختلالات، عوامل تؤدي إلى النفور المتبادل واستحسان الصمت كوسيلة تكون مقدمة لإعلان الطلاق الروحي بين الزوجين.

سابعاً : غياب منطق الودّ، ولغة التقارب بين الشريكين سواء منها ما يصدر من اللسان أو ما تعبر عنه الجوارح بما يعرف بلغة الجسد، والتي تكون ساعي بريد حاذق يوصل رسائل المحبة للشريك ويبددّ هواجسه ومخاوفه، ويحثه على مدّ جسور التواصل والإنفتاح على شريكه برغبة صادقة وإرادة مخلصة.

إنَّ ما تقدم ذكره من أسباب وعوامل منتجة لهذه الظاهرة لا بدَّ من أخذه بعين الإعتبار والتعامل معه بكثير من الجدية، وهذا يستدعي من كلا الطرفين التحلّي بالعزيمة الصلبة لمواجهة التبعاد بينهما ما يتطلب تقديم التنازلات وبذل الجهود بعيداً عن منطق الفوقية أو الشعور بالضعف.

ولا بدّ لي في هذا المجال أن أؤكد على الشجاعة في امتلاك زمام المبادرة اتجاه الأخر لتفهّم ظروفه وتبين حاله، فلربما كان سكوته أو ضعف تواصله نتيجة أو ردة فعل على سلوك مؤذ أو تصرف خاطئ، أو لربما كان تجافيه لسبب خارج عن دائرة الحياة الزوجية كمشاكل لها علاقة بعمله أو بعلاقاته مع الأخرين، وهنا تأتي أهمية التأنّي في التحليل وإصدار الاحكام، إذ لا يجوز أن نفسر أي موقف يصدر من الشريك على أنّه موجّه ضد شريكه دون دراسة المعطيات دراسةً وافية.

ومن الممكن أن نفسر الصمت الزوجي تفسيراً إيجابيا إذ اعتبرنا أنه داخل ضمن الخصوصية التي لا بدّ أن تحفظ كحق لكل من الزوجين في دائرة الزوجية، شرط أن لا يتحول الصمت إلى سمة عامة وأسلوب دائم يترك تاثيراً سلبيا لدى الأخر ويدفع به إلى إعتماد الصمت مقابل الصمت والعزلة مقابل العزلة.

كما لا بدَّ أن يجد كل من الطرفين في الأخر مستمعاً لبقاً يصغي باهتمام لشؤون وشجون شريكه ما يولّد لديه الرغبة في الإفصاح عن مكنونه ويترك ارتياحاً عنده في إفراغ مخزونه من الكلام حتى وان لم يكن بمكان من الأهمية عند المستمع، ومن طريف ما قرأت في مجلة العربي الكويتية خبراً نقلته عن جريدة الأوبزرفر البريطانية يقول : إن الحكومة البريطانية تعدّ خطةً فريدة من نوعها تقضي بتنظيم برنامج جديد يهدف إلى تدريب سائقي سيارات الأجرة على الإنصات إلى الركاب بدلاً من توجيه الكلام إليهم، فقد كشفت الدراسات عن أن سيارات الأجرة توفر مناخاً مريحاً لمساعدة المواطنين على البوح بمشكلاتهم، وفي العدد نفسه كان هناك خبر أكثر طرافة عن أرقام مكاتب في أمريكا يمكن للمواطن الذي يرغب في إزاحة قدر من التوتر والحزن والغضب أن يطلبها لتحكي له نكتة وإن لم يضحك فلا تضاف نفقاتها على القائمة.

وفي نهاية المطاف ينبغي أن ننظر إلى الحياة الزوجية على أنها فلك يتسع لاستيعاب المواقف المختلفة في النمط والسلوك ما يستدعي التحلّي بالصبر والأناة وضبط ردات الفعل صوناً لهذا التكوين الإنساني من التفكّك ووقايةً له من التصدّع والإنهيار.

الشيخ محمد قانصو

كاتب وباحث لبناني

تعليقات: