إنتخب وعيك..


يسعى كل منا سعيه الدؤوب لتحصيل الفائدة المرجوة حيال كلِّ شأن يعنيه في هذه الحياة , ولهذا ترانا نجهد في تحصيل المقدمات الضرورية لنيل ما نتوخاه من نتائج تبعث الرضا في النفس وتحقق الطموحات والغايات , فالمتعلم يختار الأكفأ من المدرّسين لضمان النجاح ، والمريض ينتقي الأجدر من الأطباء طلباً للشفاء ، والرسام يتفنن في انتقاء ألوانه ليبدع أجمل اللوحات ، والشاعر يقطف أبلغ المعاني لينظم بها الأبيات ..

وهكذا فالأمم والشعوب التي تؤمن بحتمية النظام سُلّماً لرقيّها، واستمراراً لمسيرها في مواكبة الحادث والمتغير، لا مناص عندها من انتخاب الأقدر والأليق رُباّناً يقود سفينتها نحو برِّ الأمان .

ولا يتأتّى الإختيار الأصلح إلاَّ بصلاح الأمم ذاتها ، وصلاحها مرهونٌ بمعدل وعيها وانفتاحها وتجرّدها .

فلا يمكن أن ينتهي مجتمع إلى انتخاب سلطة عادلة أو نظام شعبوي طالما أنه يعاني من داء العصبية أو الشخصانية ، ولا يمكن أن توفّق أمة لصلاح الحكم قبل العبور إلى إصلاح المحكوم ، فنقطة الإرتكازهي التحرّر من كل العصبيات والأنانيات الذاتية التي تقيد النفوس وتحجر العقول ، وأول الطريق الإنتقال من عقلية التفرّد إلى محورية الجماعة ، والخروج من منطق الولاءات المتعددة إلى الولاء الواحد ، والمشترك الأوحد ، والمصلحة الكلية التي تتجاوز الفئة والقبيلة وتتطلّع إلى الوطن الكبير والأمة الحاضنة ..

فعندما يتطور الوعي الإجتماعي ويتحسّس الفرد مسؤولياته في إنتاج الحاكمية العادلة ، ويدرك خطورة دوره كمستولد وشريك ومسؤول عن صلاح السلطة وفسادها ، ويوقن أنَّ مردود حركتها سيصيبه مباشرة بوجهيه السلبي والإيجابي ، وسيترك آثاره على حاضره ومستقبله ومستقبل أولاده وأحفاده ، عندئذٍ يكون وقوفه أمام صندوق الإقتراع وقوفاً مسؤولا ، وسيندفع بوحي إدراكه وإرادته لاختيار من يمليه عليه ضميره الحيّ وحسّ المسؤولية عنده ، كافراً بإملاءات التحريض القبلي والفئوي ، نازعاً من ربقته موروثاً مقيتا كان سبباً في فقره وتجهيله واستضعافه ..

وبعد استيفاء الشروط المتقدمة تنتقل الأمة بذهنيتها الناضجة إلى محاكمة الواقع لتدلو بدلوها ولتعلن موقفها الرافض لمنطق التوارث السلطوي أو الملوكي أو التمثيلي ، إذ كيف يمكن أن يقبل المواطن الواعي بإسقاط ممثليه عليه بحكم التوارث ؟! وهل عقمت الأمة الخلاّقة عن إستيلاد الطاقات والكفاءات لتقبل بحصرية تمثيلها بابن فلان أو بني فلان ؟! .. وكيف يقبل عاقل بمنطق التزكية ؟! والله يقول :"فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " وهل التزكية أي المديح إلا أثر وتقييم لفعل وسلوك خيّر يعود على المجتمع بالخير والنفع ؟! وهو ما لم نلمسه بعد ممن نزكيهم ! ، وكيف تُعطى العلامة لمن لم يخضع للإمتحان ؟! ..

ويمضي الوعي الشعبي قدما ليقرأ في نتاج من انتخبهم سابقا ، ويُطلب منه أن يعاود انتخابهم ثانياً وثالثاً فيقلّب في صفحات فلان وأيامات فلان ، فلا يجد إلا خطيباً مُفوهاً على منبر هنا ومنبر هناك ينهال على الرعية بمواعظه الرناّنة ووعوده المغدقة ، وتأخذك الرّقة حين تراه حَمَلاً متودداً يفرك عيناه استعصاراً لدموع المواساة في مآتم الفقراء .. وتعود بعد قراءة سنوات ولايته صفر اليدين لا شي سوى كلمات .. وتراك تردد مع نزار قباني :" كلمات ..ليست كالكلمات .. "

ولعلَّ القراءة التي لم تحبل إلا بالكلمات ستولد للمواطن علامة إستفهام كبيرة يزرعها أمام كل الأسماء المفروضة أو اللوائح المعلبة ؟ وأمام هذه العلامة تحتشد الأحرف لترسم الوعي الجماهيري فتسأل المسترأس والمستوزر والمستمثل ؟ من أنت ؟ ما هي مؤهلاتك ؟ ما حجم تمثيلك ؟ ما هو برنامجك ؟

وعند ذاك يصبح الأمل بالتغيير كبيرا ، ويكون المجتمع شريكاً حقيقياً في صنع قراره ..

من هنا فإنَّ الشورى تبتني على احترام حرية الفرد في التعبير عن رأيه ، دون إخضاعه للتخويف أو الإبتزاز ، أو التضييق عليه في لقمة عيشه لينصاع مكرهاً إلى تولية من لا اقتناع لديه بهم .

فالشورى ـ وإن شئت ـ فالديموقراطية تضمن للمواطن أن يطرح نفسه مرشّحاً بما يرى في ذاته من أهلية لخدمة الناس وقضاء حوائجهم ، وهو حق ثابت لا يجوز لأيٍّ كان وتحت أي مبرر من المبررات إفتئاته أو التعدّي عليه ، لأنَّ المرجعية للناس وهم أصحاب الحق في منح ثقتهم لمن شاءوا أو حجبها عمن أرادوا

ويبقى أن يعمل الوعاة والحالمون بمجتمع أفضل على تنوير الناس وإخراجهم من التعرّجات الضيقة التي يُراد لهم التيه فيها ، لينفذوا منها إن استطاعوا إلى واقع مقيت يجترّ الفشل والجمود والوهن . المسؤولية تكمن في تنبيه الناس وتحديد أدوارهم حتى لا يأتي يوم يلعنون فيه سلطة أنتجوها بأصواتهم ، أو يعيبون زماناً والعيب كامنٌ فيهم ، فيكونون كما قال الشاعر:

نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ... ولو نطق الزمان لنا لهجانا

كاتب وباحث لبناني

Ch.m.kanso@hotmail.com

تعليقات: