شريعة الغاب بحضور الدولة

العدالة في لبنان؟
العدالة في لبنان؟


سَحل مشتبه فيه والتنكيل بجثّته

في كترمايا سقط أمس العقد الاجتماعي، أطاح أهالٍ سلطة الدولة والقضاء، قرروا أن يثأروا لجريمة قتل طفلتين وجدّيهما. أعدموا مشتبهاً فيه قبل صدور الاتهام ونكّلوا بجثته... غضب وحشي فجّره تهوّر المسؤولين المعنيين

وقعت جريمة قتل وحشية في كترمايا، أول من أمس، ذهب ضحيتها طفلتان وجدّاهما، هم يوسف أبو مرعي وزوجته كوثر وحفيدتاهما آمنة (9 سنوات) وزينة (7 سنوات). أوقفت القوى الأمنية مشتبهاً فيه قبل مرور 24 ساعة على الجريمة، واقتيد مخفوراً إلى مكان وقوعها ودماء الضحايا لم تكن قد بردت بعد. انتزع أهالي البلدة الشاب المصري محمد مسلم من عناصر القوّة الأمنية، ونفّذوا فيه حكم الإعدام، وقتلوه بفظاعة، فغطّت وحشية الجريمة الثانية على قتل طفلتين وعجوزين بسبب سوء تقدير لدى المسؤولين.

إذاً، أخذ أبناء من البلدة الغاضبين دور القضاء وثأروا بهمجية من المشتبه في ارتكابه الجريمة، المواطن المصري محمد سليم مسلم. انتزعوه بالقوّة من عناصر الدورية التي كان يرأسها آمر فصيلة درك شحيم الملازم الأول هشام حامد. أشبعوه ضرباً وركلاً وطعناً بالآلات الحادّة. حاول عناصر القوى الأمنية تفريق الأهالي الغاضبين بإطلاق النار في الهواء لاسترجاع المشتبه فيه، لكنّ عددهم الضئيل (كانوا سبعة)، لم يُسعفهم بدايةً، إلا أنهم تمكنوا في النهاية من سحبه من بين أرجل الأهالي. كان مصاباً بطعنات عدّة والدماء تسيل من أنحاء متفرّقة من جسده. نقلوه إلى مستشفى سبلين الحكومي لتلقّي العلاج، لكنّ الأهالي طاردوه، اقتحموا المستشفى وأخرجوه من غرفة الطوارئ حيث كان يرقد في حالة شبه غياب عن الوعي، انقضّوا عليه و«أعدموه». روح مسلم التي فارقت الجسد لم تشف غليل القتلة، فنكّلوا بجثته أفظع تنكيل. سحلوا الجسد الميت على الأرض في شوارع البلدة، ومن ثمّ وضعوه على غطاء محرّك إحدى السيارات حيث التقطوا الصور مع الجثّة بدم بارد قبل أن يدوروا بها في الأزقة. نزعوا عنه ثيابه الخارجية، غرزوا قضيب حديد في أعلى حلقه وبه علّقوه على عمود كهرباء في ساحة البلدة تحت لافتة للطبيب ضاهر أبو مرعي. يشار إلى أن رفع الجثّة على عمود الكهرباء قد ترافق مع رفع الأصوات وهي تردد عبارة «الله أكبر»، زغردت النساء وهتف الرجال: «جاء الحق وزهق الباطل، وبكترمايا ما بضيع الحق».

الجثّة عُلّقت وسط الساحة على مسافة أمتار قليلة من المسجد. تجمهر الأهالي والقتلة حول الجثّة المتدلية التي شخصت عيناها باتجاه الأعلى، كأنهم يؤدّون رقصة الموت. وقف رجال الأمن يتفرجون، زغردت بعض النسوة وصاح البعض الآخر، فيما حمل من بقي من شهود وجناة هواتفهم الخلوية ليصوّروا «الذبيحة» التي غنموها على طبق من ذهب قدّمته لهم القوى الأمنية. عملية قتل همجية شارك فيها العشرات تحت مسمّى الثأر، وألصقوها بالدين. فقال بعض أبناء كترمايا: «بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين»، فيما رأى آخرون أن فعلتهم حق مشروع، مشيرين إلى أن «إعدام هذا القاتل عمل جيد ومبارك».

الوقائع المذكورة جرت على بعد لا يزيد على عشرات الأمتار عن منزل والدة المشتبه فيه محمد. من يدري، ربما كانت والدة محمد، المتزوّجة برياض عرابي ابن بلدة كترمايا، تشاهد ما يجري، لكن على الأرجح أنّها لم تعلم أن المقتول ابنها، لأنّ القبضات والعصي والسكاكين التي انهالت على وجه ابنها وجسده قد غيّرت معالمه.

استباق التحقيق

عند استرجاع المشاهد المتسارعة التي تتالت منذ انتشار خبر مقتل الجدّين وحفيدتيهما، يتبين أنّ الإجراءات التي اتُخذت بعد جريمة قتل المواطنين الأربعة، أسهمت في حصول الجريمة الثانية. فبعدما توافرت لدى القوى الأمنية معلومات أولية عن مشتبه فيه، دهمت دورية من قوى الأمن الداخلي منزل المواطن المصري محمد مسلم، جار العائلة الضحية، باعتبار أنه من ذوي السوابق، حيث أوقف منذ نحو ثلاثة أشهر بتهمة اغتصاب، واقتادته إلى مخفر شحيم حيث بدأت بالتحقيق معه. مرّت ساعات قليلة، فأعلنت مصادر القوى الأمنية أنها عثرت على سكين وملابس عليها آثار دماء داخل منزل المشتبه فيه، علماً بأن الأخير يعمل في مسلخ للأبقار في إحدى بلدات إقليم الخروب. وفي هذا الإطار، ورغم التحقيق الأوّلي الذي خضع له المشتبه فيه، فقد ترددت معلومات عن أن الموقوف لم يدل بكل تفاصيل الجريمة. وبما أن ملابسات الجريمة كانت لا تزال غير واضحة، إلا أن عناصر من قوى الأمن الداخلي اقتادوا المشتبه فيه إلى منزل الجد المغدور يوسف أبو مرعي في بلدة كترمايا لغايات لم تتضح بعد. فقد علمت «الأخبار» أن الأخير اقتيد إلى هناك للدلالة على شيء ما، فيما ذكرت معلومات أخرى أنه اقتيد إلى هناك لتمثيل الجريمة، رغم أن التحقيق لم يكن قد خُتم بعد.

وصل المشتبه فيه إلى البلدة برفقة سبعة عناصر أمن، وما إن عمّ الخبر حتى سارع عدد كبير من أبناء البلدة إلى التجمع. بدأوا يحثّون بعضهم على الثأر. توجهوا إلى حيث كان المشتبه فيه موجوداً برفقة القوى الأمنية التي لم تأخذ في الحسبان ردات فعل غاضبة لدى الأهالي. بعض هؤلاء طوّق المنزل واقتحمه، ومن ثمّ انهال بالضرب على المتهم، وراح الفاعلون يصرخون «اضربوه وارجموه حتى الموت»، لم تستطع القوى الأمنية السيطرة على الوضع لأنها أساءت تقديره. بدا أنّ المحتشدين كانوا مستعدين للموت شرط النيل من المشتبه فيه، فرفعوا أصواتهم: «روحنا مش أفضل من دم وروح الطفلتين آمنة وزينة»، اختلط صوت الغضب بأزيز رصاص كثيف أطلقه عناصر قوى الأمن في الهواء لفك الطوق عن المشتبه فيه، ونجحوا في تحريره حيث نقلوه مكبّل اليدين والدماء تسيل من وجهه إلى مستشفى سبلين الحكومي. لكنّ الأهالي طاردوه واشتبكوا مع رجال الأمن أمام المستشفى، وتمكنوا من الدخول إليه وأخرجوه ليقتلوه.

رغم بشاعة الجريمة، إلّا أن جفناً واحداً لم يرفّ لهؤلاء. فوسط هذه الهستيريا، راح الشبان يطلبون من مندوبي وسائل الإعلام الابتعاد وعدم التقاط صور قائلين: «حوّلوه إلى بطل لنكون نحن المجرمين والقتلة»، وأضاف أحدهم: «نفّذنا حكم الله بمجرم وهذا أضعف الإيمان».

في الإطار نفسه، أشار أحد شبان البلدة محمد أبو مرعي إلى «أن ردة فعل الأهالي تخلّلها غلوّ»، لكنه أضاف، «يجب ألا تنسوا هول الجريمة الذي استدعى هذا التنكيل». ولفت إلى أنه لا أحد يستطيع كبح المشاعر وغضب الأهالي الذين «هالهم ما قام به هذا المجرم من وحشية وبربرية»، وختم قوله «ما تلوموا الناس على ردة فعلها».

المشهد الرسمي

بعيداً عن المشهد الشعبي الهمجي الذي ينفي أي صفة إنسانية عن منفّذي هذه الجريمة البشعة الذين انقلبوا على كل الأعراف والتشريعات السماوية، يأتي المشهد الرسمي الذي لم يكن أقل سوداوية، وسط تقاذف المسؤوليات بين الضباط أنفسهم وبين قادة الوحدات في قوى الأمن الداخلي والقضاء. لكن الثابت أن أحد هؤلاء يتحمّل جزءاً كبيراً من سفك الدم الذي حصل أمس في بلدة كترمايا. بالعودة إلى بدايات ما حصل، فقد كان قائد الشرطة القضائية العميد أنور يحيى وقائد الدرك العميد أنطوان شكور يشرفان على سير التحقيقات في الجريمة التي وقعت أول من أمس في بلدة كترمايا، والتي ذهب ضحيتها أربعة أشخاص من عائلة واحدة. وصلا صباح أمس إلى مخفر فصيلة شحيم، حيث تابعا التحقيقات بحضور قائد سرية بيت الدين العقيد نعيم شماس وآمر فصيلة درك شحيم الملازم الأول هشام حامد وضباط، اتفق هؤلاء على تسليم الجثث الأربعة إلى ذويهم في مستشفى سبلين الحكومي ليُشيّعوا عصراً. فُضّ اجتماع الضبّاط ليُعلن بعدها أن فصيلة درك شحيم قد أوقفت أحد المشتبه فيهم، ترافق ذلك مع كشف «الوكالة الوطنية للإعلام»، نقلاً عن المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، أنه قد ضُبط سكين وقميص يحملان آثار دماء عُثِر عليهما داخل منزله. ولفتت المعلومات إلى أن مكتب المختبرات الجنائية التابع لقسم المباحث العلمية في وحدة الشرطة القضائية يقوم بتحليل الـDNA لمقارنة دماء الضحايا ببقع الدماء الموجودة على الأدلة المضبوطة تحت إشراف القضاء المختص.

ظهور نتائج تحليل العيّنات المضبوطة يحتاج إلى يومين في حدّه الأدنى، إلّا أن القوى الأمنية أرادت استباق النتائج بإرسال المشتبه فيه إلى مسرح الجريمة دون تقدير للعواقب التي جاءت قاتلة، وعلمت «الأخبار» أن نتائج تحليل عيّنات الدماء ستظهر مساء اليوم أو صباح السبت على أبعد تقدير. ولا يزال السبب الذي دفع الملازم أول هشام حامد إلى نقل الموقوف إلى مكان وقوع الجريمة مجهولاً، بانتظار انتهاء التحقيق الذي فتحته المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.

في هذا الإطار، ترددت معلومات عن تمثيل استباقي للجريمة أراده أحد القادة الأمنيين قبل الحصول على إشارة القضاء، لإظهار نجاح القوى الأمنية في القبض على الجاني قبل مرور 24 ساعة على وقوع الجريمة. في المقابل، برزت معلومات أخرى نقلاً عن مسؤول أمني، عن أنّ كل ما جرى كان بالتنسيق مع القضاء، لافتاً إلى أنّ نقل الموقوف جاء وفقاً لإشارة الأخير للدلالة على شيء لم يُحدّده.

عند مدخل البلدة، عُلّقت منذ الصباح لافتة موقّعة من بلديتها جاء فيها « كترمايا تناشد الدولة إعطاءها الحق في الجريمة البشعة». لكنّ رئيس البلدية محمد نجيب حسن كان قد قال لـ«الأخبار» صباحاً إن القضاء وحده هو المكلّف بالتحقيق في الجريمة ومعاقبة الجاني، ولم تكن قد شاعت أخبار توقيف محمد سليم مسلم. بعد قتل الشاب المصري، قال حسن إن ما شهدته البلدة أمس سببه تعاطٍ غير سليم من قبل الجهات الرسمية، وانتقد عملية نقل المشتبه فيه إلى مسرح الجريمة، فيما كانت حالة من الغليان تسود الأهالي حزناً على ضحايا الجريمة التي وقعت أول من أمس.

حسن قال إن رد فعل الأهالي غير مقبول قانوناً، ولا أحد يحلّ محلّ الدولة، ولم تثبت إدانة مسلم.

من جهة أخرى، نفى وزير العدل إبراهيم نجّار في اتصال مع «الأخبار» أن يكون النائب العام الاستئنافي كلود كرم قد أعطى توجيهاته إلى القوى الأمنية بنقل الموقوف من مكان توقيفه تحت أي ذريعة كانت. كذلك علمت «الأخبار» أن المدّعي العام التمييزي الرئيس سعيد ميرزا قد عقد اجتماعات طلب فيها من القوى الأمنية جمع المعلومات عن كل شخص ظهر في الصور التي تناقلتها الوكالات الأجنبية لإصدار مذكرات توقيف بحق الفاعلين. لكنّ الرئيس ميرزا ذكر لـ«الأخبار» أنه لن تحصل أية توقيفات قبل دفن العائلة المقتولة! لكنّ موقف ميرزا جاء مخالفاً لموقف أهالي بلدة كترمايا الذين لم ينتظروا أن ينطق القضاء بحكمه في حق المتهم أو الجاني.

لم تظهر نتائج تحليل عينات الدماء بعد، ويُتوقع أن تُعلن مساء اليوم أو صباح الغد

وفي الإطار عينه، أصدرت وزارة الداخلية والبلديات بياناً بشأن تداعيات جريمة كترمايا، وقد ذكر البيان أن الوزير زياد بارود استدعى إلى مكتبه بعد ظهر أمس كلاً من المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي وقائد الشرطة القضائية العميد أنور يحيى وقائد الدرك العميد أنطوان شكور، حيث اطّلع منهم على تفاصيل ما جرى، وأن الوزير بارود طلب من المفتش العام لقوى الأمن الداخلي العميد سيمون حداد المباشرة في إجراء تحقيق فوري لبيان مكامن الخلل في تقدير الموقف والمسؤولين عن ذلك، تمهيداً لاتخاذ التدبير المناسب. وجاء في البيان أن وزير الداخلية أجرى اتصالاً بالنائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا للغاية ذاتها. وإذ تقدم الوزير بارود بالتعازي من ذوي الضحايا الأبرياء، مديناً بشدة الجريمة الشنيعة، أسِف لاستيفاء الحق بغير الطرق القضائية وقبل كشف كامل ملابسات الجريمة، وخصوصاً أن المشتبه فيه كان قد أوقف لدى القوى الأمنية في أقل من 24 ساعة من حصولها، وأن التحقيقات كانت جارية معه بإشراف القضاء، معتبراً أن من الخطير جداً أن نستسهل إحقاق العدالة بهذه الصورة.

وعلمت «الأخبار» أنّ القادة ريفي وشكور ويحيى قد رفعوا للوزير بارود، خلال اجتماعهم معه في مكتبه، تقريراً جاء فيه أن المتهم اعترف خلال التحقيقات التي أجراها معه النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي كلود كرم بأنه ارتكب الجريمة بحق الطفلتين وجدّهما وجدتهما، ولفتوا إلى أن نقل المشتبه فيه، الذي حصل برفقة سبعة رجال من قوى الأمن الداخلي فقط إلى مكان الجريمة لتمثيلها دون أن تواكبه دورية كاملة، جاء بناءً على إشارة النائب العام الاستئنافي، الأمر الذي نفاه الوزير نجّار.

يُشار إلى أن اللواء ريفي دان جريمة قتل الضحايا الأربعة في بلدة كترمايا، ولفت إلى أنه اتخذ «إجراءات مسلكية بحق عدد من الضباط والعناصر بسبب ارتكابهم خطأً جسيماً في سوء تقدير الموقف الميداني، ولعدم توفير الحماية اللازمة والكافية للمشتبه فيه في هذه الجريمة».

جثة مسلم المعلّقة غطّت على مشهد آخر مؤلم، صورة رنا تحدث ابنتيها ووالديها عند أضرحتهم، تغرق في حزنها، تحضن صديقة طفلتها، وتبكي بعيدة عن الجموع المحتشدة لقتل مسلم.

(شارك في الإعداد خالد الغربي)

ميرزا لملاحقة معنّفي قوى الأمن

نشرت الوكالة الوطنية خبراً، أمس، جاء فيه أن النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا (الصورة) باشر تحقيقاته للوقوف على ملابسات الأحداث التي جرت في كترمايا، «لتحديد هوية المسؤولين عن هذه الأحداث الذين تعرّضوا لعناصر قوى الأمن الداخلي وعاملوهم بالعنف وحطّموا زجاج آلية» وسحبوا مسلم، «وهو متهم بارتكاب جريمة قتل يوسف أبو مرعي وزوجته وحفيدتيهما» وطالب بملاحقتهم. ومما جاء في الخبر أن «بعض الأشخاص تمكنوا من سحب المتهم من المستشفى ثم قتلوه»، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الخبر كما أوردته الوكالة يغفل حقيقة أن مسلم مشتبهاً فيه وليس متهماً، إذ لم يصدر في حقه قرار اتهامي. ونشرت الوكالة أنه عُقدت بعد ظهر أمس اجتماعات في مكتب القاضي ميرزا حضرها النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي كلود كرم وقائد الدرك العميد أنطوان شكور وقائد الشرطة القضائية العميد أنور يحيى و«منسّق شعبة المعلومات» في قوى الأمن الداخلي العقيد وسام الحسن. يُذكر أيضاً أن الحسن هو رئيس فرع المعلومات، إذ ليس في قوى الأمن «شعبة» للمعلومات.

عمر نشّابة

قالوا: «اعترف الرجل بارتكابه جريمة القتل المروّعة... إنه القاتل! ردّة فعل الناس طبيعية» وصمتوا قليلاً ثمّ أضافوا «لكنها غير قانونية... طبعاً طبعاً غير قانونية». بعض الضبّاط أكّدوا ذلك خلال الدقائق الاولى التي تلت بثّ وسائل الإعلام المرئية أمس شريطاً مصوّراً عرضت فيه مشاهد من بلدة كترمايا لا تقوى الكلمات على وصف بشاعتها. ومنذ ما بعد الظهر صارت تلك الكلمات جزءاً من اسطوانة المسؤولين في الدولة تعليقاً على الحادث.

وبذلك جدّد هؤلاء الضباط وغيرهم من المسؤولين الرسميين انتحال صفة المدعي العام وقاضي التحقيق ورئيس محكمة الجنايات عبر إصدار ما اعتُبر حكماً مبرماً بحقّ محمد سليم مسلم. وتبعت ذلك أمس أعمال وحشية لا مثيل لها إلا في دول تحكمها شريعة الغاب، إذ بادر حشد من الناس، بوجود رجال بزيّ قوى الامن والجيش والشرطة البلدية، الى سحل الشاب المشتبه فيه والتنكيل بجثته قبل تعليقها على عمود كهرباء في وسط بلدة كترمايا.

المديرية العامة لقوى الأمن كانت قد وزّعت بياناً قبل وقوع ذلك بساعات قليلة (الساعة التاسعة والنصف صباحاً) جاء فيه أن المدير العام لقوى الأمن الداخلي أبلغ وزير الداخلية بأن «فصيلة درك شحيم قد أوقفت أحد المشتبه فيهم، وتمكنت من ضبط سكين وقميص عليها آثار دماء عُثر عليهما داخل منزله، ويقوم مكتب المختبرات الجنائية التابع لقسم المباحث العلمية في وحدة الشرطة القضائية بتحليل الـ دي أن إيه (DNA) لمقارنة دماء الضحايا ببقع الدماء الموجودة على الأدلة المضبوطة، وذلك تحت إشراف القضاء المختص».

لا يخفى استعجال قوى الأمن التباهي بـ«إنجازها» على أحد، لكن لماذا أغفل كاتب البيان قرينة البراءة، علماً بأن الرجل يعمل في مسلخ للأبقار وقد يكون السكين من أدوات المهنة؟ لماذا استعجال عرض العضلات؟

ولماذا لم تحذّر «شعبة المعلومات» (غير القانونية) التي يتباهى بقدراتها اللواء والعقيد من احتمال وقوع الحادثة التي أذلّت الدولة والقضاء ولبنان واللبنانيين جميعاً؟ أين مديرية الاستخبارات في الجيش؟ أين الاستقصاء وقبضايات الدولة؟

جال أمس احد الزملاء في بلدة كترمايا سائلاً الناس عن دوافع الجريمة، فأجابوا: «لا نعرف لكن قوى الأمن تعرف».

وصدر بيان مساء أمس أعلن فيه المدير العام لقوى الأمن اتخاذ إجراءات مسلكية بحق عدد من الضباط والعناصر «لخطأهم الجسيم في سوء تقدير الموقف الميداني، ولعدم توفير الحماية اللازمة والكافية للمشتبه به في هذه الجريمة». لكن لم يفتح تحقيق مسلكي أو قضائي بشأن إفشاء معلومات تتعلّق بما أدلى به المشتبه فيه للمحققين. ألا يرى المدير العام ذلك، بالحدّ الأدنى، تجاوزاً لسرّية التحقيق يعاقب عليه القانون؟

أما بخصوص احتمال توظيف ما سرّب الى الناس لتحريضهم على القيام بما قاموا به، أفلا يفترض فتح تحقيق قضائي معمّق؟

«اعترف الرجل بارتكابه جريمة القتل المروّعة... إنه القاتل!» لكن لن يسمح وضع جثّته المشوّهة للطبيب الشرعي بإثبات ما إن كان قد تعرّض للتعذيب أثناء التحقيق معه. ألا تدفع قسوة التعذيب أي أحد إلى الاعتراف بأي فعل؟

قتل حشد من الناس محمد سليم مسلم، وقتلوا معه العدالة وهم يفاخرون بتحقيقها. لم توقف النيابة العامة أحداً حتى ساعة متأخرة من ليل أمس، ولم يصدر عنها أو عن وزارة العدل ما يوازي حجم الجريمة وبشاعة الصورة المذلّة للبنان وللدولة ومؤسساتها.

دفاعاً عن كترمايا...

سعدى علوه

تقول الآية القرآنية الكريمة «ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا»، صدق الله العلي العظيم.

قُتل الضحايا يوسف نجيب أبو مرعي وزوجته كوثر جميل أبو مرعي، وحفيدتاهما الطفلتان زينة وآمنة مظلومين وبطريقة شنيعة صدمت ليس كترمايا فقط، بل لبنان بأكمله.

في المقابل، أسرف شبان كترمايا في قتل «المشتبه به»، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن من شاركوا في قتل محمد مسلم اعتبروا أنفسهم أولياء الضحايا وجُعِل لهم سلطان، وأنهم حين أطلقوا صيحات «الله اكبر» كانوا يؤكدون أنهم يطبقون «الشريعة الإسلامية». الشريعة الإسلامية نفسها يُنقل عن رسولها الكريم الحديث الشريف «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»، والمثلة هنا تعني «التمثيل».

ليس نهي الشريعة الإسلامية عبر الآيات القرآنية والحديث الشريف عن الإسراف بالقتل والتمثيل بالجثة تدين وحدها ما حصل في كترمايا أمس. هي مسؤولية قرار القوى الأمنية بالإتيان بـ«مشتبه به»، وفق ما وصَّف مصدر أمني رفيع لـ«السفير» حال المتهم محمد مسلم لحظة اقتياده إلى موقع الجريمة «لإجراء بعض التدليلات» بانتظار إثبات الأدلة التي بنيت عليها الشكوك من حوله وأدت إلى توقيفه.

اقتيد محمد «المصري» في بلد غريب إلى مسرح جريمة يعج بالأهالي الذين لم تبرد دماؤهم من هول الجريمة وبشاعتها، ولم يواروا ضحاياهم في الثرى بعد. اقتيد بعدما سبقه الكلام عن أن القوى الأمنية قبضت على الفاعل.. على القاتل.. على المجرم المتوحش الذي قتل الجدَّين المسنيَّن العزل والطفلتين البريئتين.

اقتيد المتهم، الذي لا يناقش احد في وجوب نيله العقاب اللازم الذي ينص عليه القانون بعد إثبات إدانته وإقرانها بالدلائل، وبرفقته عدد محدود من العناصر الأمنية العاجزين عن حمايته بالتأكيد، والدليل انه سقط من بينهم ثلاثة جرحى.

وعندما انهال شبان البلدة، الذين شاركوا في الاعتداء عليه، بالضرب بالحجارة وبالركل وبالأيدي، وجد في كترمايا شباب آخرون قاموا بسحب محمد من بين المعتدين، ونقلوه إلى مستشفى سبلين الحكومي لإسعافه.

إذا قلنا إن العناصر الأمنية عجزت عن حمايته في مسرح الجريمة، فماذا عن المستشفى؟ ألم يكن هناك وقت تطلب فيه تعزيزات من قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني لمنع سحبه من طوارئ المستشفى ومن ثم ذبحه والتمثيل بجثته ونزع ملابسه الخارجية عنه ووضعه على مقدمة إحدى السيارات والتجوال به استعراضا في شوارع المنطقة.. وتعليقه من عنقه على العمود الكهربائي ومن ثم سحبه وسحله على ارض الساحة في مقابل مسجد البلدة... وماذا عن إمام كترمايا والمشايخ فيها، وواجبهم في تهدئة الناس الغاضبين، وتذكيرهم بالآيات القرآنية التي تنهى عن التمثيل بالجثث، وإن سمح الإسلام بإعدام القاتل فهو ينيط ذلك بالحاكم والسلطات وليس بالمدنيين.

وماذا عن كترمايا وصورتها، البلدة المناضلة التي قدمت أربعين شهيداً دفعة واحدة خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، عدا عن الشهداء الذين سقطوا في صفوف الحركة الوطنية؟ وماذا عن مجتمع كترمايا، وهذا الاحتفال الجماعي بالاقتصاص باليد من الجاني، وكيف سينام مئات الأطفال الذين شاهدوا بأم العين كل ما جرى، سواء من ركض منهم في الشوارع وراء الجثة، أو وقف يتفرج عليها معلقة على العمود أو شارك عائلته في المراقبة والتصوير من الشرفات ومعهم أطفال لبنان كله؟

وماذا عن الصمت المطبق الذي تلى المشهد الدموي في كترمايا، وخصوصاً من قبل بعض القوى السياسية في المنطقة حيث لم يرتفع صوت واحد (باستثناء بيان للحزب التقدمي الاشتراكي) يستنكر ما حصل، بل خرج من يبرر غضب الأهالي ويحمل المسؤولية للقوى الأمنية في الجريمة البشعة الأولى. إنه زمن الانتخابات البلدية ايضاً.

هل كان المعتدون ليتجرأوا على القيام بما قاموا به لولا الجو السائد في البلاد وشعور كل فئة أنها محمية في مناطقها وتملك إدارة شؤونها؟ ولولا تلك النظرة المستخفة بالدولة وأجهزتها؟ وهل كان ليحصل ما حصل مع محمد لو أنه كان لبنانياً ومن عائلة لبنانية وليس غريباً على ارض اقل ما تشتهر به هو العنصرية تجاه الأجانب.

لم يشاهد أي إنسان في لبنان أو العالم صورة الفتاتين الضحيتين وهما حيتان، وكذلك أهملت تفاصيل حياتهما مع الجد والجدة المسنين، حتى التشييع لم يعط الاهتمام اللازم في وداع الشهداء المظلومين. أخليت المساحة، كل المساحة لصور القتل الجماعي، وللجثة التي غطت صور التنكيل والتمثيل بها الشاشات ووكالات الأنباء المحلية والعالمية. لم يغط على بشاعة الجريمة الأولى إلا ما هو أفظع منها.

جريمة قتل مشتبه به
جريمة قتل مشتبه به



تعليقات: