في عيدها ترقد في غيبوبة!


في عيدها هذا العام ثمّة خلل؛

كنّا نزورها كلّ عام لنتبارك بعطفها وكبر حنانها ولهفة قبلاتها. نبارك لها يومها وعطاءها وأمومتها...

هي ترقد الآن في المشفى، في ما يُسمّى ب"العناية الفائقة"، تئنّ من وجعها بصمت، دون حراك ودون صوت إلا صوت الآلة! احتلت الآلات قلبها. تحوّلت هذه الآلات إلى قلب أمّ! وحدها التكنولوجيا ترسل لنا خطوطاً متعرّجة على شاشة صغيرة تعلن أنّ قلب من نحبّ باستمرار ما زال ينبض ويُعلن تمرّده على الوجع والمرض إلى حين!؟ نتعلق بهذه الخطوط كما نتعلق بخطوط وجهها وتجاعيد السنين عليه...

نحن هنا يا أمّي. تلك ملامسنا ودفء أيدينا علّه يُدفىء شيئاً من جليد يديك المؤقت.

هاتان اليدان، اللتان علمتانا الانتماء، خانهما المرض وهذا الجهاز المُعقّد في الجسد الإنسانيّ... لتبقَ هاتان اليدان اللتان ما عرفت يوماً إلا العطاء، هاتان اليدان اللتان ما امتدّتا يوماً نحونا إلا للمعانقة والحبّ. كنّا صغاراً نكثر من الشيطنة والألاعيب والقهر لكنكِ لم تفعلي كما تفعل الأمّهات في لحظات طيش أولادهنّ وعبثهم بأن تسمعهم كلاماً قاسياً. لا لم تمارسي هذا الشيء! لم تمتدّ أياديك يوماً نحونا إلا لتغمرنا. تصفحين عن خطئنا بتقبيلنا وتحمّل قساوة الأطفال، وهذا شيء نادر من والدة! تكيلين لنا الدعاء أرطالاً وأكواماً وجبالاً دون كلل أو ملل..

منكِ تعلمنا ثقافة الحبّ والعطاء والتسامح...

من عينيك عرفنا معنى الحنان والشوق والعشق الألهيّ...

من قلبكِ غرفنا دمنا ودفأنا الذي لم نعرف سواه إلا في هذه اللحظات حيث البرد يلفّ الأيدي التي هزّت سريرنا ونحن صغار لتبعث الاطمئنان والنوم إلى عيوننا.

في هذه اللحظات فقط عرفنا معنى البرد ومعنى الحرارة ومعنى الأمومة..

منذ أيام كنتِ تصرخين من شدّة الألم، ولا تعينَ ما تقولين سوى كلمة واحدة: خذني إلى الخيام. هي الخيام أمّنا يا أمّي. هي مأوانا ومرقدنا وسريرنا وملتقانا، ولكن لمَ العجلة؟ سنذهب إلى الخيام سويّة لنتكحّل بألوان الربيع وبريق الماء في الجداول. ستسيرين بين الأخضر والملوّن كعروس الكون فرحة متألقة. سنقوم بذلك شرط أن يتمرّد هذا القلب الحنون الطيّب على هذا الخلل الطارىء. قاومي، نعرف أنّكِ تعبتِ من هذا العالم ومن ظلمه. تعبتِ من وجع استمرّ عقوداً لكنّنا نحبّكِ، ويكفي حبّنا سبباً لبقائكِ.

قاومي أمّاه. أحسّ أنّني طفل سيُولد بعد قليل.

قاومي نرجوكِ.... إنّنا نترك لكِ الحبّ... نترك لكِ دفة الكون، ونترك لكِ السماء والهواء، ونترك لكِ مآقينا...

قلبُكِ يحرسنا، فليحرسكِ الربّ، ويشفيكِ من هذا العذاب.. إنّنا بانتظار ابتسامتكِ وانتظار العيد كلّ عام لنحتفلَ معكِ على ضوء وجهكِ وشغاف حبّكِ..

الأمّهات صمّام أمان العائلة وقاسمها المشترك وجامعها..

الأمّهات تشفي بدموعها ودعائها وبركاتها، فلا يشفيهنّ إلا الخالق لأنّهنّ عطيّة السماء وملائكتها..

كلّ الأمّهات جميلات، لكنّكِ أجملهنّ.

كلّ الأمّهات طيّبات لكنّكِ أطيبهنّ.

كلّ عام وانتنّ بألف خير، وليحفظكنّ الربّ...

د. يوسف غزاوي

تعليقات: